رصدُ ثورانٍ على مُذنب 67P قُبيل وُصوله إلى الحضيضِ الشمسي

أثناء اقترابه التدريجي من نُقطة الحضيض الشمسي على مَدار الأسابيع القليلة الماضية، رصدت مركبة الفضاء روزيتا Rosetta نشاطاً مُتزايداً على سطح مُذنب تشوريوموف – جيراسيمنكو/ 67P 67P/Churyumov–Gerasimenko. في هذه الأثناء وقع ثورانٌ مُذهلٌ على سطحِ المُذنب مؤخراً، وكان من القوة بحيث أنه دفعَ الرياح الشمسية القادمة باتجاهِ المُذنب بعيداً عنه. 


هذا ومن المُتوقع أن يصل المُذنب إلى نقطة الحضيض الشمسي اليوم الخميس، وهي النقطة التي سيصل فيها المُذنب على أقرب مسافة له من الشمس في مداره الذي يبلغ طوله 6 سنوات ونصف. وعلى مدار الأشهر الأخيرة، عملت الطاقة الشمسية المُتزايدة على تدفئة الكتلِ الجليدية التي يحتويها المُذنب، ما حوّلها في النهاية إلى غازاتٍ بدأت تتدفقُ خارجاً بتجاه الفضاء ساحبةً معها الغبار. 

وتُعتبر فترة الحضيض الشمسي مهمةً جداً من الناحية العلمية، ذلك لأن شِدة ضوء الشمس تزداد بشكلٍ كبيرٍ في هذه المرحلة، ما يعني أن أجزاء المُذنب التي كانت مُظلّلة لعدة سنوات غُمرت الآن بالكامل بنورِ الشمس. 

وبينما يُتوقع أن يصل النشاط العام للمُذنب إلى ذروته في الأسابيع التالية لوصوله إلى نقطة الحضيض الشمسي، تماماً كما يحدث هنا على الأرض عندما تأتي أشد أيام الصيف حرارةً، غالباً بعد الأيام الأطول، إلا أنه يُمكن لبعض الثورانات والانفجارات المُفاجئة وغير المُتوقعة أن تقع في أي وقتٍ على سطح المُذنب – كما رأينا بالفعل في المراحل الأولى من البعثة. 

القياسات التي أجراها جهاز قياس المغناطيسية التابع لمجموعة أجهزة البلازما الخاصة بالمركبة روزيتا
القياسات التي أجراها جهاز قياس المغناطيسية التابع لمجموعة أجهزة البلازما الخاصة بالمركبة روزيتا

في 29 يوليو/تموز، 2015، تمكّنت مركبة روزيتا من رصد أكثر الثورانات إثارةً على الإطلاق على سطح المُذنب 67P، حيث سجّلته مجموعةٌ من أدوات المركبة وهي على مسافة 186 كيلومتراً من المُذنب. وقد قامت هذه الأدوات بتصوير الثوران، الذي اندلع من نواة المُذنب، وشهدت تغييراً في بُنية وتكوين بيئة هالتِه الغازية المُحيطة بمركبة روزيتا، إضافة إلى رصدها لزيادةٍ في مستويات الغبار المُتطاير. 

ولعلّ أكثر الأمور التي اكتشفتها روزيتا غرابة في هذا الحدث، هو أن ذلك الثوران كامن القوة بحيث أنه تمكّن من دفع المجال المغناطيسي للرياح الشمسية بعيداً عن نواة المُذنب. 

في هذه الأثناء التُقطت سلسلة من الصور بواسطة أداة نظام التصوير البَصري والتحليل الطَّيفي واﻷشعة ما تحت الحمراء عن بُعد العلمية (Optical, Spectroscopic, and Infrared Remote Imaging System)، أو اختصاراً (OSIRIS) الموجودة على متن روزيتا. وقد أظهرت تلك الصور البداية المُفاجئة لظهور مَعلمٍ شبيهٍ بنافورة من جانب منطقة رقبة المُذنب، وتحديداً في منطقة تُعرف باسم أنوكيت (Anuket). وقد ظهر هذا الثوران للمرة الأولى في صورة التُقطت في تمام الساعة 13:24، حسب توقيت غرينيتش، لكنه لم يظهر في إحدى الصور التي التُقطت قبل ذلك بحوالي 18 دقيقة، كما أنه تلاشى بشكل كبير في الصور التي التُقطت له بعد ذلك بـ 18 دقيقة أيضاً. من جهته، يُقدّر الفريق المسؤول عن الكاميرا أن المادة الموجودة داخل الثوران قد انطلقت نحو الفضاء بسرعةٍ لا تقل عن 10 أمتار في الثانية، وربما أسرعَ من ذلك. 

وتعليقاً على الحدث، يقول كارستين جوتلر Carsten Güttler، أحد أعضاء فريق كاميرا OSIRIS في معهد ماكس بلانك لأبحاث النظام الشمسي Max Planck Institute for Solar System Research في غوتنغن بألمانيا: "لقد كان ذلك واحداً من أشد الثورانات التي شهدناها سطوعاً حتى الآن". ويُضيف: "عادةً ما تكون هذه التدفقات أو الثورانات خافتةً جداً مقارنة بنواة المُذنب نفسها، لذا فإننا نضطر إلى تعديل تباين الصور باستخدام بعض البرامج لتصبح مرئية أكثر لنا. إلا أن هذا الثوران الآخير كان أكثر سطوعاً من النواة نفسها."

 

القياسات التي أجراها مِطياف مركبة روزيتا المداري للتحليل الأيوني والحيادي لغازات المُذنب عقب وقوع الثوران
القياسات التي أجراها مِطياف مركبة روزيتا المداري للتحليل الأيوني والحيادي لغازات المُذنب عقب وقوع الثوران

بعد ذلك بوقت قصير، رصدَ مُستشعر الضغط على المُذنب الخاص بمِطياف مركبة روزيتا المداري للتحليل الأيوني والحيادي (The Rosetta Orbiter Spectrometer for Ion and Neutral Analysis)، أو اختصاراً (ROSINA) دلائلَ واضحة على حدوث تغيراتٍ في بُنية هالة المُذنب، في حين سجّل مطياف الكتلة الخاص بها تغييرات في تركيبة الغاز المُتدفق نحو الخارج. 

فعلى سبيل المثال، وبالمقارنة مع مجموعة قياسات أُجريت قبل يومين، زادت كمية ثاني أكسيد الكربون بحوالي مرتين، في حين زادت كمية غاز الميثان و كبريتيد الهيدروجين بحوالي أربع وسبع مرات، على التوالي. أما كمية الماء فبقيت ثابتة كما هي. 

من جهتها قالت كاثرين ألتويغ Kathrin Altwegg، الباحثة الرئيسية العاملة على مطياف ROSINA في جامعة بيرن: "إنها لمُذهلةٌ تلك المُشاهدات الأولى التي حصلنا عليها للقياسات بعد حدوث الثوران على سطح المُذنب. لقد استطعنا بالفعل رؤية إشارات على وجودِ مواد عضوية كثيفة ظهرت بعد وقوع الثوران ربما كانت مُرتبطة بالغُبار المقذوف".

وتُضيف كاثرين: "لكن على الرغم من أنه قد يكون من المُغري التفكير بأننا ربما كشفنا عن مواد من المحتمل أنها تحررت من باطن المُذنب، إلا أنه من السابق لأوانه تأكيد هذا الأمر". 

في هذه الأثناء، وبعد حوالي 14 ساعة من وقوع الثوران، رصد جهاز تحليل ارتطام الحبيبات وتجميع الغبار بمركبة روزيتا، (Rosetta's Grain Impact Analyzer and Dust Accumulator)، أو اختصاراً (GIADA)، اصطداماتٍ للغبار بمعدل 30 اصطداماً في اليوم الواحد، مُقارنةً بمعدل اصطدامٍ لم يتجاوز أكثر من 3 اصطداماتٍ في اليوم الواحد في بداية شهر يوليو/تموز. هذا وقد سُجّلت ذروة هذه الاصطدامات الغبارية بتاريخ 1 أغسطس/آب، حيث بلغ عدد مرات اصطدام الغبار بالمركبة حوالي 70 مرة خلال مدة لم تتجاوز 4 ساعات، ما يُشير إلى أن ذلك الثوران استمر في ممارسة تأثير كبير على بيئة الغبار لعدة أيام تالية لحدوثه. 

وتقول أليساندرا روتوندي Alessandra Rotundi، الباحثة الرئيسية في جامعة بارثينوبي‘Parthenope’ University في نابولي بإيطاليا: "لم تكن وفرة الجزيئات وحدها ما دلّ على أن أمراً مختلفاً يحدث، بل أيضاً سرعتها التي قاسها جهاز GIADA، حيث تبيّن أن سرعة تلك الجزيئات ازدادت من 8 أمتار في الثانية إلى حوالي 20 متراً في الثانية، ثم وصلت حتى 30 متراً في الثانية. لقد كانت حفلة غبار بكل معنى الكلمة".


 

سياق الثوران الذي وقع في 29 من يوليو/تموز
سياق الثوران الذي وقع في 29 من يوليو/تموز

ولعل أكثر النتائج التي توصل إليها العلماء إثارةً للدهشة، هو حقيقة أن ذلك الثوران كان من القوة بحيث تمكّن من دفع الرياح الشمسية بعيداً عن نواة المذُنب لبضعِ دقائق، وقد رصد جهاز قياس المغناطيسية التابع لمجموعة أجهزة البلازما الخاصة بالمركبة روزيتا (Rosetta Plasma Consortium) هذا الحدثِ الفريد من نوعه عند وقوعه. 

وتُعرَّف الرياحُ الشمسية بأنها ذلك التدفق المستمر من الجُسيمات المشحونةِ كهربائياً الآتية من الشمس نفسها، حاملةً معها الحقل المغناطيسي الشمسي إلى مختلف أرجاء المجموعة الشمسية. وكانت قياسات روزيتا وفيليه الأولية قد أظهرت فعلاً أن المُذنب 67P ليس مُمغنطاً، لذا فإن الرياح الشمسية هي المصدرُ الوحيد للمجالِ المغناطيسي الذي تم قياسه حول المُذنب. 

إلا أن الرياح الشمسية لا تتدفق بسلاسة وسهولة في الفضاء، ذلك أن المُذنب يطلق كمياتٍ من الغاز باتجاه الفضاء، لذا فإن أي رياحٍ شمسيةٍ ترتطم بالغاز المُنبعث من المُذنب سوف تُبطِء من سرعتها حتى تصل إلى حالةِ توقّف تام. عندها يحدث توازنٌ في الضغط بين المُذنب وهذه الرياح. 

من جهتها، تشرح شارلوت غوتز Charlotte Götz، عُضو فريق مِقياس المغناطيسية في معهد الجيوفيزياء والفيزياء الفضائية في برونشويغ Institute for Geophysics and extraterrestrial Physics in Braunschweig في ألمانيا: "يبدأ الحقل المغناطيسي للرياح الشمسية بالتجمّع والتراكم تماماً كما تتجمع السيارات أثناء ازدحام السير. في النهاية تتوقف الرياح تماماً عن الحركة باتجاه نواة المُذنب ما يُؤدي إلى تشكّل منطقةٍ خاليةٍ من أي مجالٍ مغناطيسي في جانب المُذنب المواجه للشمس، والذي يُطلق عليه اسم الفجوة الديامغناطيسية  [1] (diamagnetic cavity)


وتُوفّر الفجوات الديامغناطيسية معلوماتٍ جوهرية حول الكيفية التي يتفاعل من خلالها المُذنب مع الرياح الشمسية، لكن حالة الرصد السابقة الوحيدة الموثقة، والمرتبطةً بمُذنب، تمت في العام 1986 عندما حلّقت مركبة غيوتو Giotto التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية ESA فوق مُذنب هالي الشهير Halley Comet على ارتفاع 4000 كيلومتراً من سطحه. 

لكن مُذنب 67P أقل نشاطاً بكثير من مُذنب هالي، لذا يتوقع العلماء أن يجدوا حوله فجوةً ديامغناطيسيةً أصغرَ كثيراً من الفجوة التي سُجلّت حول مُذنب هالي، حيث يُقدّرون أن لا يتجاوز حجمها بضعَ عشراتٍ من الكيلومترات. ولكن، حتى تاريخ 29 يوليو/تموز، لم يرصد العلماء أي إشارةٍ تدلّ على وجود هذه الفجوة.


إلا أنه بعد الثوران الذي وقع ذلك اليوم، رصد مِقياس المغناطيسية فجوةً ديامغناطيسية مُمتدةً نحو الخارج لمسافة لا تقل عن 186 كيلومتراً بعيداً عن نواة المُذنب. ويُحتمل أن تكون الفجوة قد تشكّلت بسبب ثوران الغاز الذي وقع، والذي زاد من تدفق الغاز المُحايد في هالة المُذنب. نتيجة لذلك، أُجبِرت الرياح الشمسية على التوقّف عند نقطة معينة بعيداً عن سطح المُذنب، ما أدى إلى دفعِ حدود الفجوة باتجاه الخارج إلى ما وراء المنطقة التي كانت روزيتا تُحلّق فيها وقت حدوث الثوران. 

وتُضيف شارلوت: "من الصعب جداً إيجاد منطقةٍ خاليةٍ من أي حقلٍ مغناطيسيٍ في أي مكان في المجموعة الشمسية، لكنها، في حالة المُذنب 67P، أتت إلينا على طبقٍ من فضة. إنها لنتيجة مُثيرة جداً للاهتمام بالنسبة لنا".


أما مات تايلور Matt Taylor، أحد العلماء القائمين على مشروع روزيتا، فيقول: "لقد كنا نوجه روزيتا بعيداً عن المُذنب لمسافاتٍ تصل إلى حوالي 300 كيلومتراً، وذلك لتجنّب المشاكل الملاحية التي قد تحدث بسبب الغبار الصادر عن المُذنب. وكنا نعلم أن الفجوة الديامغناطيسية لم تكن في متناول أيدينا في الوقت الحالي، لكن يبدو أن المُذنب ساعدنا، عبر إرسال الفجوة نفسها نحو روزيتا".

ويُضيف: "إنه لحدثٌ رائعٌ فعلاً، لكننا سنُمضي كثيراً من الوقت في تحليل ما جمعته الأدوات المتعددة التي شهدت الثوران. لقد قضينا وقتاً ممتعاً في مُشاهدة ما يحدث على المُذنب أثناء دخوله في مرحلة الحضيض الشمسي هذه".

 

ملاحظات:


[1] الديامغناطيسية أو المغناطيسية المُعاكسة هي خاصية مادة تُسبّب إنشاء حقل مغناطيسي يُعارض تأثير أي حقل مغناطيسي يُؤثّر من الخارج فيُنتج قوة تنافر بين المادّة ومصدر الحقل الخارجي 

المصدر: ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/.../%D9%85%D8%BA%D9%86%D8%A7%D8...)

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المجال تحت الأحمر (Infrared): هو الإشعاع الكهرومغناطيسي ذو الطول الموجي الأكبر من النهاية الحمراء للضوء المرئي، والأصغر من الأشعة الميكروية (يتراوح بين 1 و 100 ميكرون تقريباً). لا يمكن لمعظم المجال تحت الأحمر من الطيف الكهرومغناطيسي أن يصل إلى سطح الأرض، مع إمكانية رصد كمية صغيرة من هذه الأشعة بالاعتماد على الطَّائرات التي تُحلق عند ارتفاعات عالية جداً (مثل مرصد كايبر)، أو التلسكوبات الموجودة في قمم الجبال الشاهقة (مثل قمة ماونا كيا في هاواي). المصدر: ناسا
  • الغبار (Dust): ليس الغبار الذي يقوم أحدهم بإيجاده حول المنزل فقط (الذي هو في العادة عبارة عن ذرات دقيقة من خلايا الجلد ومواد أخرى)، ولكن بالإضافة إلى ذلك، هذا الغبار في الفضاء عبارة عن الحبيبات شاذة الشكل مكونة من الكربون و/أو السليكون ويبلغ عرضها ميكرون واحد تقريباً، ويمكن إيجادها بين النجوم. يُمكن الاستدلال على وجود الغبار بشكلٍ أساسي عبر قدرته على الامتصاص، الأمر الذي يؤدي إلى تشكل أقسام كبيرة مظلمة في مناطق من مجرتنا درب التبانة ونطاقات مظلمة في كافة أرجاء المجرات الأخرى.
  • معهد أبحاث الفضاء في روسيا، و هو تابع لأكاديمية العلوم الروسية. (IKI): معهد أبحاث الفضاء في روسيا، و هو تابع لأكاديمية العلوم الروسية.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات