هيرشل يصطاد التراكيب الخيطيّة في درب التبانة

كشفت أرصاد التلسكوب الفضائي هيرشل لوكالة الفضاء الأوروبية أن مجرتنا مترابطة بتراكيب خيطية عند كل مقياس طول. وعلى ما يبدو، فهي موجودة في كل مكان، من حشد السحب القريبة المتشابكة بخيوط بطول بضعة سنوات ضوئية، إلى التراكيب العملاقة التي تمتد مئات السنين الضوئية عبر دوامة أذرع مجرة درب التبانة. وقد أعادت بيانات هيرشل اهتمام الفلكيين بدراسة هذه الخيوط، والتأكيد على الدور الحاسم لهذه التراكيب في عملية تشكل النجوم.

 

سحابة أوريون الجزيئية. المصدر:ESA/Herschel/Ph. André, D. Polychroni, A. Roy, V. Könyves, N. Schneider for the Gould Belt survey Key Programme.
سحابة أوريون الجزيئية. المصدر:ESA/Herschel/Ph. André, D. Polychroni, A. Roy, V. Könyves, N. Schneider for the Gould Belt survey Key Programme.


تولد النجوم في أكثف جيوب المادة بين النجمية، وهي مزيج منتشر من الغاز والغبار الذي يعم المجرات، بما في ذلك مجرتنا. إحدى الأسئلة الأكثر إثارة للاهتمام في الفيزياء الفلكية هي فهم كيف أن هذه المواد، والتي عادة ما تتميز بكثافة منخفضة جداً، يمكن أن تجتمع معاً، وتخلق تجمعات كثيفة لتتطور لاحقاً إلى نوى مدمجة، وأخيراً، تولد النجوم.

في البحث عن أجوبة، يرصد علماء الفلك السحب الجزيئية العملاقة، والحاضنات الكونية حيث يتم تحويل الغاز والغبار إلى نجوم. في حين أن هذه الدراسات تتم باستخدام مجموعة متنوعة من التقنيات، إلا أن هنالك منهجاً حاسماً واحداً، وهو المراقبة بالأشعة تحت الحمراء، حيث تُضيء المادة بين النجمية وتزهو في هذه الأطوال الموجية الطويلة.

لقد أحدث التلسكوب الفضائي هيرشل تغيراً كبيراً في هذا المجال. فمن خلال إجراء عمليات رصد ضمن جزء من الطيف الكهرومغناطيسي الذي يتراوح من الأشعة تحت الحمراء البعيدة إلى أطوال موجات دون المليمترية، جمع بيانات غير مسبوقة خلال ثلاث سنوات ونصف من عمليات الرصد. أحد الجوانب الرئيسية التي ظهرت من هذه الأرصاد هو وجود شبكة خيطية في كل مكان تقريباً في المادة بين النجمية في مجرتنا. وأظهرت الصورة أن هذه التراكيب ترتبط ارتباطاً وثيقاً في تشكل النجوم.

وكان علماء الفلك قبل هيرشل قد حددوا بالفعل عدة خيوط في السُحُب بين النجوم، واعترفوا بأهميتها المحتملة في عملية تشكل النجوم، لكن بسبب زيادة الحساسية والدقة المكانية التي منحها هذا المرصد الفلكي، إلى جانب عمليات المسح الواسعة التي قام بها هيرشل، تمكنوا من الكشف عن المدى الكامل للأنماط الخيطية في درب التبانة.

إحدى عمليات المسح التي يؤديها هيرشل (مسح حزام غولد) ركزت على حلقة عملاقة من مناطق تكون النجوم، وكلها تبعد مسافة لاتزيد عن 1500 سنة ضوئية من الشمس. القرب من هذه السُحُب سمح لعلماء الفلك بالحصول على صور مفصّلة للغاية باستخدام هيرشل، حيث كشفت عن شبكات معقدة من الخيوط في كل المنطقة المفحوصة.

ويوضح فيليب أندريه Philippe André من CEA/IRFU-فرنسا، وهو الباحث الرئيسي في دراسة حزام "هيرشيلغولد"، حيث قال: "وكانت أكبر مفاجأة هي وجود خيوط في كل مكان في هذه السُحُب المجاورة وصلتها الوثيقة بعمليّة تشكل النجوم".

وأضاف: "ولكن هناك ماهو أكثر من ذلك: فقد كشفت الأرصاد أن هذه الخيوط، ربما تمتد إلى عدة سنوات ضوئية في الطول، ويظهر أن عرضها يبلغ حوالي ثلث السنة الضوئية بشكل عام. وهذا يوحي بأنها تخفي داخلها شيئاً أساسياً".

وما زال علماء الفلك يحاولون فهم تفاصيل عمليات تشكل النجوم التي تشهدها هذه السُحُب، وذلك بمساعدة البيانات الوفيرة والمتنوعة التي تم جمعها بواسطة هيرشل.


وهج بولاريس. المصدر: Credit: ESA/Herschel/SPIRE/Ph. André for the "Gould Belt survey" Key Programme Consortium and A. Abergel for the "Evolution of Interstellar Dust" Key Programme Consortium.
وهج بولاريس. المصدر: Credit: ESA/Herschel/SPIRE/Ph. André for the "Gould Belt survey" Key Programme Consortium and A. Abergel for the "Evolution of Interstellar Dust" Key Programme Consortium.

إن معظم الخيوط ممتلئة بنوى مدمجة، مما يدل على أن النجوم تتخذ أشكالها في هذه "الألياف" الكثيفة في المادة بين النجمية، وهناك أيضاً مناطق تظهر التشابك المعقد بين الخيوط، ولكن لاتوجد مؤشرات على حدوث عمليات تشكل النجوم. دراسة وهج بولاريس، وهو المثال الأكثر إثارة لهذه الظاهرة، تشير إلى أن هذه الخيوط تسبق وبطريقة ما بداية تشكل النجوم.

يقترح السيناريو، الذي برز من بيانات هيرشل الجديدة، أن تشكل النجوم يتم في خطوتين، حيث أن الحركة المضطربة للغاز والغبار بين النجمي تكوّن شبكة معقدة من التراكيب الخيطية؛ ثم تتولاها الجاذبية، مما يسبب انكماش وتشظي الخيوط الأكثر كثافة، وهذا يؤدي إلى تشكل النجوم.

في الواقع، فإن العرض العام للخيوط يبدو متوافقاً، على الأقل في السحب القريبة في دراسة حزام غولد، مع المقياس الذي تنتقل عنده المادة بين النجمية من الحالة فوق الصوتية إلى ما دون سرعة الصوت.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن مواد هذه الخيوط ليست مستقرة، حيث اكتشف الفلكيون شيئاً يبدو أنه تدفقات متزايدة، وترسم المادة خيوطاً أبرز من البيئة المحيطة بهم بواسطة شبكة من الخيوط الصغيرة. ويمكن رؤية مثال واضح على مثل هذه العمليات في غيمة الثور الجزيئية، حيث تُظهر خيوط B211/B213 سلسلة من ما يسمى "التصدعات" حيث تكون عمودية على الخيط الرئيسي.

هذا النمط يشابه إلى حد بعيد توقع نموذج المحاكاة العددية لعملية تَكَوّن النجوم في السحب الجزيئية. ووفقاً لهذه المحاكاة، تتدفق المادة بين النجمية نحو الخيوط الكثيفة على طول الطرق الموازية لاتجاه المجال المغناطيسي المحلي كما تم رصده، لذلك، تشير البيانات الجديدة إلى أهمية المجالات المغناطيسية بين النجمية في تشكيل هذه التراكيب.

خيوط B211/B213 في سحابة الثور الجزيئية. المصدر: ESA/Herschel/PACS, SPIRE/Gould Belt survey Key Programme/Palmeirim et al. 2013.
خيوط B211/B213 في سحابة الثور الجزيئية. المصدر: ESA/Herschel/PACS, SPIRE/Gould Belt survey Key Programme/Palmeirim et al. 2013.


ومع ذلك، لا يظهر أن التشكل النجمي يجري فقط في هذه الخيوط. ولكن تبدو هذه التراكيب أنها المواقع الأفضل لولادة النجوم، إلا أن البيانات الاستثنائية من هيرشل أكدت أن جزءاً صغيراً من النجوم قد تشكل أيضاً بعيداً عن الخيوط الكثيفة.

وتحديداً، تقترح دراسة مفصّلة أجريت على السحابة الجزيئية L1641 في تجمع أوريون-آي، أن هذه الخيوط هي القناة النموذجية لتشكل النجوم الشبيهة بالشمس، في حين أن النجوم التي ولدت بعيداً عن هذه التراكيب الكثيفة و المتمددة تميل إلى أن تكون أقل كتلة. وهذا الانقسام يمكن أن يكون نتيجة لزيادة وفرة المواد الخام للنجوم الأولية، التي تتشكل على هذه الخيوط بالمقارنة مع تلك التي تتشكل في بيئات أقل كثافة.

من النتائج الرئيسية الأخرى لهيرشل، هي أن وفرة الخيوط لاتقتصر على جيراننا. في الواقع، يبدو أن هذه التراكيب في كل مكان أيضاً، ففي مسح هيرشل بالأشعة تحت الحمراء لقرص المجرة (Hi-GAL)، التي تم مسحها ضوئياً، تتوزع المادة بين النجمية في قرص ضخم -100 ألف سنة ضوئية- حيث تتشكل وتُقيم أكثر نجوم مجرة درب التبانة.

ويوضح سيرجيو موليناري  Sergio Molinari  منIAPS/INAF-إيطاليا، وهو الباحث الرئيسي في مشروع  Hi-GAL ، حيث قال: "اكتشفنا ثروة من الخيوط الضخمة، بأطوال تتراوح ما بين عدد قليل من بضعة إلى مئات السنوات الضوئية، واكتشفنا شيئاً يبدو أنه الهيكل العظمي لمجرتنا".

التراكيب الخيطية في قرص المجرة. المصدر: ESA/PACS & SPIRE Consortium, S. Molinari, Hi-GAL Project.
التراكيب الخيطية في قرص المجرة. المصدر: ESA/PACS & SPIRE Consortium, S. Molinari, Hi-GAL Project.


وأضاف: "على الرغم من أنه من الممكن أن تتكوّن هذه التراكيب من عمليات فيزيائية مختلفة عن تلك التي أدت إلى الخيوط صغيرة الحجم التي رصدت في محيط الشمس، فإن انتشار التراكيب الخيطية في كل مكان من مجرتنا لا شك فيه".

في مرحلة ما بعد هيرشل، هناك شيء واحد مؤكد، وهو أن الخيوط تلعب دوراً رئيسياً في تراكم مواد المجرة، وخلق مدارات مواتِيَة لتكوين النجوم. وهذا مشابه لعملية هَرَمِيّة، تبدأ بالمقاييس الكبيرة جداً وتنتشر صعوداً، لمقاييس أصغر فأصغر، حيث يتم ضخ الغاز بين النجمي والغبار بتراكيز متزايدة وكثافة أكثر وبالتالي تعزيز ولادة النجوم في جميع أنحاء المجرة.

وقد تم الكشف عن خيوط واسعة النطاق، تتمزق إلى نوى مدمجة، تتطور لاحقاً إلى نجوم في جميع أنحاء قرص المجرة، وحتى في المناطق الطرفية الأبعد. كلما نمت الخيوط وأصبحت أكثر كثافة، تنكمش المواد داخلها وتشكل هياكل أصغر، وذلك للحفاظ على النمط الخيطيّ عند جميع مستويات الطول.

الخيوط في المناطق الخارجية لقرص المجرة. المصدر: ESA/Herschel/PACS, SPIRE/Hi-GAL Project/Schisano et al. 2014.
الخيوط في المناطق الخارجية لقرص المجرة. المصدر: ESA/Herschel/PACS, SPIRE/Hi-GAL Project/Schisano et al. 2014.


وأظهرت الدراسات الإضافية في مسح (Hi-GAL) خيوطاً جديدة أكثر بروزاً، وتمتد على مدى مئات السنين الضوئية وتَنسِج طريقها خلال الأذرع الحلزونية لمجرة درب التبانة. وكشفت الدراسة عن تسعة خيوط في بعض المناطق الداخلية الكثيفة جداً من قرص المجرة، وقد كُشف عنها للمرة الأولى من خلال الانبعاثات المباشرة للغبار من داخلها، مما يتيح تحديد كتلتها، وحجمها، والخصائص الفيزيائية لها بدقة. ويعتقد علماء الفلك أن هناك ما يقارب مئة من التراكيب العملاقة المماثلة ما زالت مختبئة في البيانات.

علّق غوران بيلبرات Göran Pilbratt، وهو عالم في مشروع هيرشل، حيث قال: "التوزيع المعقد للخيوط في المادة بين النجمية التي كشف عنها هيرشيل هو بالتأكيد ثورة في نظرتنا لكيفية تشكل النجوم في درب التبانة، ويُفترض كذلك في المجرات الأخرى المماثلة".

وأضاف: "تظهر الآن صورة متماسكة على نحو متزايد بعد جَمع تحليل هذه البيانات، وجَمع توقعات المحاكاة النظرية والعددية، حيث يستمر علماء الفلك بدراسة العمليات الفيزيائية الضمنية للأصل الرائع للنجوم والكواكب".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك
مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً () تعليقات