قوي لكنه حر

في أحد الأيام من مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، التقى عالما فيزياء عظيمان في مكتب بمدينة شيكاغو. أجرى الأول، وهو إنريكو فيرمي Enrico Fermi، تجربة غير مسبوقة شاهد فيها تفاعل الجسيمات الصغيرة، التي اكتُشفت من فورها. أما الثاني، وهو فريمان دايسون Freeman Dyson، فقد وجد النظرية التي فسرت هذه المشاهدات. 

بعد أن ألقى نظرة خاطفة على نتائج دايسون، نحّاها فيرمي جانباً، وقال: "كما تعلم، هناك طريقتان للاشتغال بالفيزياء النظرية. الطريقة الأولى، التي أفضلها، هي أن تكون هناك صورة مادية واضحة. والطريقة الثانية، التي استخدمها أيضاً، هي أن تكون هناك رياضيات صورية واضحة. وليس لديك أي منهما".


إنريكو فيرمي. الصورة من : US Department of Energy
إنريكو فيرمي. الصورة من : US Department of Energy

كلمات قاسية، ولكن، كما أقر دايسون Dyson، كان فيرمي محقاً 100%. لقد أشارت كلمته إلى بداية فترة طويلة مظلمة للفيزياء النظرية. ففي بداية القرن عرف علماء الفيزياء اثنتين من القوى الأساسية في الطبيعة: الجاذبية والكهرومغناطيسية. وبحلول العام 1916، كان أينشتاين قد وصف أولى هذه القوى، الجاذبية (Gravity)، التي تسود مبادئها العالم المرئي للكواكب والنجوم والمجرات. 

وباستخلاص العبر من نظرية أينشتاين وميكانيكا الكم (Quantum mechanics)، تمكن علماء الفيزياء أيضاً من حسم الثانية، الكهرومغناطيسية (Electromagnetism)، واصفين تفاعل الضوء والمادة على مقاييس ضئيلة. لقد كان عليهم أن يتغلبوا على الصعوبات الجسام للقيام بذلك، ولكنهم تدبروا الأمر. كان التوافق بين نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية (Quantum electrodynamics) الناتجة، أو اختصاراً (QED)، والتجربة ممتازاً.

ومع وجود تلك القوة في الحقيبة الآن، فإن التالية على القائمة هي قوة جديدة. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، اكتشف علماء الفيزياء النيوترونات (Neutrons)، وخلصوا إلى أن هذه الجسيمات، جنباً إلى جنب مع البروتونات (Protons)، تشكل الأنوية الذرية. وبما أن الذرات لا تميل إلى التحليق متفرقة، فلا بد من أن هناك شيئاً يبقي هذه الجسيمات معا بمواجهة التنافر الكهرومغناطيسي، بفضل شحنة البروتونات الموجبة. 

لقد كان من الواضح أن الجاذبية ليست قوية بما يكفي – لا بد أن هناك قوة أخرى، سميت اسماً مناسباً هو القوة النووية الشديدة (Strong nuclear force) . ثم، في العام 1948، وَجد مسرع الجسيمات المتطور لدى جامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا، أن البروتونات والنيوترونات تتصادم بعضها ببعض، وظهرت جسيمات غريبة سبق رصدها في الأشعة الكونية. وهكذا، في حين أن الباب قد أغلق على الـ QED بطقطقة مرضية، فإن باباً جديداً قد فُتح بإغراء، ولا بد من تفسير هذه الجسيمات الجديدة - وتُدعى الميزونات (Mesons)- والتفاعلات القوية بينها.

وهذه هي المهمة التي كلف دايسون نفسه بها، ونظراً إلى دوره المحوري في تصنيف الـ QED، يمكنك تفهم تفاؤله. "كان لدي جيش من الطلبة وكنا جميعاً مملوئين حماسة"، كما يتذكر. "سنفعل بالقوة النووية ما فعلنا بالديناميكا الكهربائية، وهذه بالطبع كانت مسؤولية كبيرة، لأن كل هؤلاء الشباب كانوا في حاجة إلى كتابة أطروحة، وكان مستقبلهم المهني يعتمد على نجاح هذا المشروع".

غير أن حدس فيرمي، مع الأسف، كان في محله. فلقد استخدم دايسون حيلاً من الـ QED، بيد أن السياق الجديد كان يتضمن مُعامِلاتٍ كثيرة جداً لم يكن ديسون على يقين بشأنها، على سبيل المثال، كتلة البروتون وما مدى شدة القوة النووية فعلاً. لقد اختار هذه المعاملات لتتناسب مع المشاهدات، ولكن لا تكاد تتوافر معاملات كثيرة جداً، حتى تتوافر مساحة كبيرة للتحايل وستتمكن من جعل أي شيء مناسباً. 

ولذلك رمى فيرمي بمقولة جون فون نيومان في وجهه، "أستطيع أن أوائم فيلاً بأربعة معاملات، وبخمسة سأجعله يهز جذعه".



 شراب السحرة


على الرغم من ذلك، كانت الخمسينيات من القرن العشرين منجم ذهب تجريبياً. فمع دخول أنواع أقوى من معجّلات الجسيمات إلى مسار الإنتاج، صارت الجسيمات -التي لم تكن ترصد إلا في الأشعة الكونية - تُنتَج كل أسبوع تقريباً. غير أن خصائصها الأكثر أولية لا تزال مجهولة.


حاول الناس فهمها، ولكن سرعان ما صارت هناك وفرة من النظريات بقدر ما كان هناك من "تصاميم للقبعات النسائية"، وهذه مقارنة مستعارة من عالم الفيزياء غريغوري بريت Gregory Breit، الذي استخدمها في ذلك الحين. إن الفكرة التي جعلت الـ QED فعالة، وتسمى نظرية الحقل الكمومي (quantum field theory)، تتطلب أن يكون هناك مجال كمي واحد لكل نوع من أنواع الجسيمات. "لذلك، لم يكن من المغري كثيراً حتى أن تبدأ في وصف التفاعلات القوية، إذا كنت في حاجة إلى مثل شراب السحرة المعقد هذا لمجرد البدء"، كما يقول فرانك ويلكزك Frank Wilczek، الذي سيصبح واحداً من منقذي نظرية الحقل الكمومي في سبعينيات القرن العشرين.
 

فريمان دايسون في العام 2005. الصورة من: Jacob Appelbaum
فريمان دايسون في العام 2005. الصورة من: Jacob Appelbaum

ولكن حديقة الحيوانات المربكة هذه من الجسيمات، لم تكن المشكلة الوحيدة. إذ إن حسابك لنتيجة حتى أبسط التفاعلات بين الجسيمات باستخدام نظرية المجال الكمي، يستدعي أن تضيف مجاميع ذات حدود لا نهائية الكثرة. من حيث المبدأ، قد تكون لمثل هذا المجاميع نتيجة منتهية. (على سبيل المثال، مجموع \(1+{1\over2}+{1\over4}+{1\over8}+{1\over16}+ … \) يتقارب إلى 2). 

لم يتمكن الناس في الـ QED، من إثبات أن المجاميع اللانهائية لها نتائج منتهية، لكنهم كانوا يأملون في أنهم قد فعلوا ذلك، حيث إن الحدود المتتالية ساهمت مساهمة أقل تدريجياً في المجموع النهائي. والسبب في ذلك هو أن الحدود المتتالية تأتي مع قوة تصاعدية من الثابت المقترن بها، والذي يقيس فعالية شدة القوة الكهرومغناطيسية، باعتباره معاملاً. 

ولما كانت القوة الكهرومغناطيسية ضعيفة نسبياً، فإن ثابت الاقتران يقل كثيرا عن 1: فهو يساوي \(1\over137 \) تقريباً. وهذا يعني أن قوتها التصاعدية، \(({1\over137}) ^2\) ، \(({1\over137}) ^3\) ، \(({1\over137}) ^4\) ، وهلم جراً، تصبح أكثر صِغراً بسرعة كبيرة. ولأن معاملات الحدود كانت صغيرة جداً مع تقدم المجموع، تجاهل علماء الفيزياء تلك الحدود في حساباتهم - وكانوا محظوظين، لأن النتائج التي حصلوا عليها بهذه الطريقة كانت مطابقة للواقع بدقة بلغت عدة منازل عشرية.

ومع ذلك، فالتفاعلات القوية كانت قوية. وقد أشارت التجارب إلى أن قوة التفاعل تزداد من 7 إلى 57 بين الجسيمات الموجودة في أي مكان من المنطقة. وهذا يعني أن الحدود المتتالية ساهمت تصاعدياً بشكل أكبر في الحساب الإجمالي؛ بل إنها في الواقع غمرته. وهذا يعني أن إجابة مجموعك اللانهائي ستكون لانهائية، لتعُدِم الجدوى مما يسمى التقنيات الاضطرابية (Perturbative techniques)، التي تكنس الحدود عالية الرتبة إلى أسفل السجادة. 



لكن البعض يقرر تلفيق العمليات الحسابية على أي حال، آملين الوصول إلى تنبؤات تتطابق مع التجربة. وقد وصف إدوارد تيلر Edward Teller نهج دفن الرأس في الرمال هذا، بالأبيات التالية: 


  • تحصل من الميزونات كل أنواع القوة
  • وقد تنسى الجزء اللانهائي ببساطة
  • التباين كبير، التباين صغير 
  • في كم حقل الميزون، ليس هناك معنى على الإطلاق


لكن الناس، في الأساس، لم تكن لديهم أرضية صلبة يقفون عليها. فهذه "لم تكن نظرية، تلك هي المسألة"، كما يتذكر دايسون. "لقد كانت محاولة لاتباع قواعد الديناميكا الكهربائية، في وضع لا تنطبق عليه. ولذلك صار الأمر فوضى، مادياً ورياضياً على حد سواء".

في نهاية المطاف، أدار دايسون نفسه ظهره لهذا المجال، الذي صار "أشبه بالكيمياء منه إلى الفيزياء". وقد تضمنت آخر محاولاته مع فيزياء الجسيمات إجراء عملية حسابية، في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، تنبأت بضرورة وجود جسيم معين جديد. و"بالطبع، كان أعظم الأحلام هو أن تتنبأ بجسيم ثم يكتشفه شخص آخر. وقد فعلت الشيء نفسه، غير أن جسيمي غير موجود. إذ ليس هناك جسيمات من هذا النوع، ولذلك استسلمت".

لقد استغرق الأمر عقداً آخر من الزمن وجائزتي نوبل، قبل ترويض حديقة حيوانات الجسيمات. اكتشف كيف تم ذلك في الجزء الثاني من هذه المقالة.



عن هذه المقالة


ماري آن فرايبيرغر وراشيل توماس هما محررتان لدى مجلة Plus. وقد قابلتا كلاً من فريمان دايسون وفرانك ويلكزك في فبراير 2013. وهما ممتنتان جداً لديفيد كايزر، المختص في تاريخ الفيزياء لدى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، على الحوار المستنير، وعلى كتابه الممتاز "Drawing theories apart".

كما أنهما مدينتان بفهمهما الأولي لنظرية الحقل الكمومي، لجيريمي بترفيلد Jeremy Butterfield، فيلسوف الفيزياء لدى جامعة كامبريدج، وناظم بوعطا Nazim Bouatta، زميل ما بعد الدكتوراه في أصول الفيزياء لدى جامعة كامبريدج. فشكراً جزيلاً لهما على شروحاتهما المتأنية الكثيرة، وعلى مساعدتهما في كتابة هذه المقالة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الكهرومغناطيسية أو الكهراطيسية (electromagnetism): الكهرومغناطيسية هي مجال دراسة يُركز على القوة الكهرومغناطيسية التي تُمثل نوعاً من التفاعلات الفيزيائية التي تحصل بين الجسيمات المشحونة كهربائية. المصدر: العلوم الأمريكية
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات