قواعد التناظر وسحره!

سيدرك الجميع أن بقعة الحبر في الشكل 1 متناظرة، لكن القليل من سيعترفون بالتناظر الرياضي الدقيق الموجود في الشكل 2. حسناً، ما هو التناظر؟ ولماذا أصبح هذا المبدأ محوريًا إلى درجة أن كثير من العلماء يعتقدون أنه المصدر الذي نتجت عنه قوانين الطبيعة؟

شكل 1.... شكل 2
شكل 1.... شكل 2


يمثل التناظر (Symmetry) المناعة ضد التغيرات المحتملة -تلك النوى الصامدة من الأشكال والعبارات والقوانين والتعبيرات الرياضية، التي تبقى ثابتة عند تطبيق تحويلات معينة عليها. افترض على سبيل المثال العبارة التالية: "Madam, I'm Adam". هذه العبارة متناظرة سواء قرأت من اليمين أو من اليسار، أي أن الجملة تبقى على حالها عندما تقرأ بالعكس. وأيضاً يتمتع عنوان الفيلم الوثائقي المعروف "نوفا": "A Man, a Plan, a Canal, Panama" بالخاصية ذاتها.

 

تُعرف العبارات التي تتمتع بمثل هذا النوع من التناظر باسم "السلاسل المتناظرة" (palindromes)، وهي تلعب دورًا مهمًا في بناء كرموسوم Y المحدد للذكورة. وحتى العام 2003، اعتقد علماء الأحياء أنه نتيجة افتقاد هذا الكروموسوم لشريك، فإنّ حاملته الجينية تضاءلت جرّاء تدمير الطفرات. على أية حال، اكتشف الباحثون، الذين أكملوا سلسلة الجينوم Y، أن هذه الكروموسومات تُقاوم التدمير بالاعتماد على السلاسل المتناظرة. فقد تبين أن ستة ملايين من بين كل 50 مليون من أحرف الحمض النووي للجينوم Y تعمل على تشكيل سلاسل متناظرة. تُقدم هذه النسخ المرآتية الدعم في حالة وجود طفرات سيئة، وتسمح للكرموسوم في بعض الحالات بممارسة الجنس مع نفسه.

الشكل 3: التناظر الثنائي للفراشة
الشكل 3: التناظر الثنائي للفراشة

أما بالنسبة للأشكال والصور التي تُرسم على قطعة مستوية من الورق، فهناك تحديداً أربعة أنواع من التناظر -إذا افترضنا أنّ التمديد والتشويه غير مسموحين- وتُعرف هذه التناظرات بالانعكاس والدوران والانتقال والانعكاس الانزلاقي (glide reflection).


نصادف التناظر الناجم عن الانعكاس في كلٍ مكانٍ حولنا -فهو التناظر الثنائي الشائع والذي يُميز الحيوانات وعددًا كبيرًا من الآثار. على سبيل المثال، أرسم خطاً في وسط صورة الفراشة (الشكل 3)، والآن، إقلب الصورة مع الحفاظ على الخط المركزي في مكانه. سيبين التداخل الناتج أنّ الفراشة تبقى كما هي دون أي تغير عند تطبيق الانعكاس بالنسبة للخط المركزي. كثير من الأحرف تتمتع بهذه الخاصية أيضاً، فإذا ما كان لديك ورقة كُتبت عليها العبارة التالية:


M
A
X
I
T
W
I
T
H
M
A
T
H

 

هذه العبارة ستبدو بالشكل نفسه بالنسبة لمرآة.
 

ستبدو هذه العبارة بالشكل نفسه بالنسبة لمرآة.

شكل 4: ندفة الثلج
شكل 4: ندفة الثلج
التناظر الناتج عن الدوران منتشرٌ كثيراً في الطبيعة. فعلى سبيل المثال، في ندفة الثلج (الشكل 4)، سيؤدي الدوران بالنسبة للمركز (عمودياً على مستوي الندفة) بزوايا 60، أو 120 أو 180 أو 240 أو 300 أو ،360 إلى الحصول على نفس التشكيل دوماً. وأيضاً، سيُعطي دوران الدائرة بأي زاوية كانت حول مركزها الشكل نفسه دون أن تتأثر تلك الدائرة. 

التناظر الناتج عن الانتقال هو نوعٌ من ممانعة التغير الذي يُصادف في العناصر المكررة، من مثل تلك المبينة في الشكل 2. أما الانتقال، فيعني الإزاحة أو الانزياح وفقاً لمسافة محددة وعلى طول خط محدد. ونجد مثل هذا النوع من التناظر في كثير من الأنسجة الكلاسيكية وتصاميم ورق الجدران أو صفوف النوافذ في الأبنية المرتفعة، وحتى في دودة الأربع والأربعين.


وأخيراً، نشاهد في الشكل 5 التناظر الناتج عن السير، وهذا التناظر هو انعكاس انزلاقي، حيث يتألف التحويل في هذه الحالة من انتقال (أو انزلاق) متبوع بانعكاس بالنسبة للخط الموازي لاتجاه الإزاحة (أي الخط المنقط في الشكل 5). كل التناظرات التي نوقشت حتى الآن هي تناظرات في الأشكال والأصناف -أي تلك التي نستطيع رؤيتها بالعين المجردة. أما التناظرات الكامنة وراء قوانين الطبيعة الأساسية، فهي قريبة بمعنى من المعاني من تلك التناظرات، لكن بدلاً من التركيز على الشكل فإنّها تواجه سؤالاً مختلفاً: ما هي التحويلات التي يُمكن إجراؤها على العالم من حولنا، والتي ستترك القوانين التي تصف كل ما نرصده دون تغير؟

شكل 5: آثار الأقدام والانعكاس الانزلاقي
شكل 5: آثار الأقدام والانعكاس الانزلاقي


 قواعد التناظر: 



"قوانين الطبيعة" هو الاسم الذي يُطلق على مجموعة القواعد (التي تُمثل رياضياً في العادة)، التي من المفترض أن تشرح كل ما نرصده في الكون. مثل هذه المجموعة الكبيرة من "قوانين اللعبة" كانت لا تُصدق قبل القرن السابع عشر. وفقط، عبر مجموعة من عمالقة العلم مثل غاليليو غاليلي (1564-1642) ورينيه ديكارت (1596-1650)، وخصوصاً إسحاق نيوتن (1642-1727)، أصبح من الواضح أنه هناك حزمة من القوانين التي تستطيع شرح مجال واسع من الظواهر. وفجأة، صارت مجموعة متنوعة من الظواهر، من مثل سقوط التفاح وعمليات المد عند الشواطئ وحركة الكواكب، مندرجة تحت مظلة قانون نيوتن في الجاذبية.

وعلى نحو مُشابه لذلك، وبناء على النتائج التجريبية المؤثرة لميشيل فاراداي Michael Faraday (1791-1867)، تمكن عالم الفيزياء الاسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل James Clerk Maxwell (1831-1879) من شرح المغناطيسية والكهربائية الكلاسيكية وظواهر الضوء باستخدام أربع معادلات فقط! تأمل ذلك للحظة، كل عالم الكهرومغناطيسية متضمن في أربع معادلات فقط. قدمت تجارب فاراداي الثورية في مجال الكهرومغناطيسية خلفية لحكاية ممتعة. إذ سأل رجل دولة بريطاني، كان يشاهد إحدى التجارب التي لم يحصل منها على أي نتيجة عملية، فاراداي قائلاً: "ما هي استخدامات هذا الاكتشاف؟"؛ فأجاب فاراداي: "بصدق لا أعرف، لكنني متأكد أنك ستجني ضرائباً منه قريباً جدًا ". 

لقد اكتُشف أن قوانين الطبيعة تخضع لبعض التناظرات التي صادفناها، بالإضافة إلى تناظرات أخرى أكثر محدودية. وبدايةً، هذه القوانين متناظرة بالنسبة للانتقالات؛ وبرهان هذه الخاصية بسيط: فسواء كنت تُجري التجربة في نيويورك أو لوس أنجلوس، أو حتى عند حافة مجرة درب التبانة، أو في مجرة أخرى تبعد مليار سنة ضوئية عنا، فستستطيع وصف النتائج باستخدام نفس القوانين. حسناً، كيف نعرف أن ذلك صحيح؟ نعرف ذلك من خلال رصد المجرات الموجودة في كل أنحاء الكون، والتي لا تبدي فقط خضوعاً لقانون الجاذبية كما هي الحال هنا، بل وحتى ذرات الهيدروجين الموجودة عند حافة الكون المرئي تخضع وبدقة لنفس قوانين الكهرومغناطيسية وميكانيك الكم التي تخضع لها هنا فوق الأرض.

شكل 6: قانون نيوتن في الجاذبية قد يكون متناظراً بالنسبة للدوران، لكن لا يعني ذلك تناظر المدار أيضاً
شكل 6: قانون نيوتن في الجاذبية قد يكون متناظراً بالنسبة للدوران، لكن لا يعني ذلك تناظر المدار أيضاً


قوانين الطبيعة متناظرة أيضاً بالنسبة للدورانات، فالقوانين تبدو بنفس الحال تماماً سواء كنا نقيس الاتجاهات بالنسبة للشمال، أو لأقرب "ستاربكس"؛ فالفيزياء ليس لها اتجاه مفضل في الفضاء. الطبيعة لطيفة معنا، إذ تحكمها مجموعة من القوانين الشاملة، بدلاً من قوانين داخلية تنطبق على أجزاء محددة. وعلى النقيض من العقارات التجارية، حيث يرتبط كل شيء بالموقع والموقع والموقع، فلا الموقع ولا التوجه بالنسبة للنجوم البعيدة يؤديان إلى اختلافات معينة في قوانين الطبيعة المستنتجة.


لولا هذا التناظر اللافت لقوانين الطبيعة بالنسبة للانتقال والدوران، لكان فهم الأجزاء المختلفة من الكون أمراً مستحيلاً. وأكثر من ذلك، فحتى فوق الأرض، لتوجب إعادة كل التجارب في كل مخبر حول العالم، لو أنّ تلك القوانين لم تكن متناظرة. يجب التنويه إلى أهمية الفصل بين تناظرات الأشكال وتناظرات القوانين. اعتقد اليونانيون القدماء أنّ مدارات الكواكب حول الشمس يجب أن تكون متناظرة بالنسبة للدوران، ويتطلب ذلك من مدارات الكواكب أن تكون دائرية. في الحقيقة، ليس مطلوباً من المدار أن يكون متناظراً، وإنما من قانون نيوتن في الجاذبية. ويعني ذلك أن المدار يُمكن أن يكون بيضاوياً (وهو كذلك!)، ولكنّ ذلك المدار يمكن أن يأخذ أي توجه في الفضاء (الشكل 6). في هذا المقال وضعت تصريحاً قوياً يقول أن قوانين الطبيعة تخضع لتناظرات محددة، وقد تكون تلك التناظرات مصدر هذه القوانين، فماذا يعني ذلك؟ 


مصدر القوانين الطبيعية: 



شكل 7: ندفة الثلج
شكل 7: ندفة الثلج
تخيل أنك لم تسمع قط بندفة الثلج سابقاً، وطلب منك أحدهم أن تخمن شكلها. بوضوح، تبدو هذه مهمة مستحيلة. فكل ما تعرفه هو أن ندفة الثلج قد تبدو كإبريق شاي أو حرف S أو مثل الأرنب باغز بوني. وحتى لو أُعطيت شكل أحد فروع ندفة الثلج (الشكل 7a) واُخبرت أنها جزء من الندفة، فهذا لن يساعد كثيراً، لأن الندفة قد تظهر على الشكل 7b، على سبيل المثال.

لممكن استخدام هذه المعلومة بشكلٍ فعال جداً. إذ أن التناظر يحد مباشرةً من التشكيلات المحتملة لتصبح بست زوايا، أو إثني عشرة أو ثمانية عشرة زاوية. وبافتراض أن الطبيعة ستلجأ إلى الحل الأبسط والأكثر اقتصادية، فذلك يعني أن ندفة ثلج بستة فروع (الشكل 7c) سيكون تخميناً منطقياً. بكلماتٍ أخرى، لقد أرشدتنا متطلبات تناظر الشكل إلى المسار الصحيح.

وبنفس الطريقة، فمتطلب أن تكون قوانين الطبيعة متناظرة بالنسبة لتحويلات محددة لا يمليه فقط شكل تلك القوانين، بل في بعض الحالات تمليه ضرورة وجود قوى، أو جسيمات عنصرية غير مكتشفة حتى الآن. دعوني أشرح الأمر باستخدام مثالين مهمين.

تمثل أحد الأهداف الرئيسية لأينشتاين في النسبية العامة في صياغة نظرية تظهر فيها قوانين الطبيعة بنفس الشكل تمامًا بالنسبة لكل الراصدين. ويعني ذلك أنه على تلك القوانين أن تكون متناظرة بالنسبة للتغير الحاصل في مكان الرصد في الفضاء والزمن (يعرف ذلك في لغة الفيزياء بـ"اللاتغاير العام"). فالراصد الجالس على ظهر سلحفاة عملاقة سيستنتج نفس القوانين التي سيحصل عليها راصد موجود على لعبة دوامة الأحصنة، أو فوق صاروخ متسارع. في الحقيقة، بما أن على القوانين أن تكون شاملة، فلماذا تعتمد على ما إذا كان الراصد متسارعًا أم لا؟

في حين كان مطلب تناظر أينشتاين منطقياً، إلا أنه كان "تافهاً". وفي نهاية المطاف، فمئات المصابين كل عام في الولايات المتحدة وحدها يبرهنون على أنهم يشعرون بالتسارع. وفي كل مرة تصطدم فيها طائرة بجيب هوائي، نشعر بشيء ما في معدتنا، وهذا برهان على وجود فصل بين الحركة المتسارعة وتلك المنتظمة. ولذلك، كيف يُمكن لقوانين الطبيعة أن تكون نفسها بالنسبة للراصدين المتسارعين عندما يعانون من قوى إضافية؟ 

شكل 8
شكل 8


افترض الحالة التالية: عندما تقف فوق ميزان في مصعد يتسارع نحو الأعلى، فإنك ستشعر بضغط أعلى عند الميزان، وسيسجل الميزان وزناً أعلى (الشكل 8a). على أية حال، سيحصل الأمر ذاته إذا ما أصبحت الجاذبية، بطريقة ما، أكبر داخل مصعد ساكن. أما في حالة مصعد يسقط باتجاه الأسفل، فسيشعر المرء بجاذبية أقل (الشكل 8b، الذي يُوضح تصور فني للأمر -الشخص لن يصبح أنحف في هذه الحالة). في الحقيقة، إذا ما انفلتت كابلات المصعد فجأة، فإن كلاً من الميزان وأنت ستعانيان من سقوط حر، وسيسجل الميزان صفر (الشكل 8c). (بالطبع هذه ليست بالطريقة المقترحة لإنقاص الوزن)، بالتالي نجد أن السقوط الحر مكافئ لإلغاء الجاذبية. وهذا قاد أينشتاين في العام 1907 إلى استنتاج جوهري: قوة الجاذبية والقوة التي تنتج من التسارع، هما في الحقيقة الشيء نفسه. وأُطلق على هذا التوحيد اسم "مبدأ التكافؤ" (equivalence principle) الذي يؤكد أن الجاذبية والتسارع هما وجهان للقوة نفسها -إنهما متكافئان.

وصف اينشتاين، أثناء محاضرة ألقاها في كيوتو في العام 1922، تلك اللحظة الهائلة التي حصلت له في العام 1907 بقوله: "كنت أجلس في مكتب براءات الاختراع في بيرن عندما حدث لي ذلك فجأة: إذا ما سقط شخص ما بشكلٍ حر، فهو لن يشعر بوزنه. كنت مذهولاً؛ فهذه الفكرة البسيطة كان تأثيرها عميقاً علي. لقد وجهتني مجبراً نحو نظرية الجاذبية".

مبدأ التكافؤ كان تصريحاً مليئاً بالتناظر، فقوانين الطبيعة -كما تظهر في معادلات النسبية العامة لأينشتاين- هي نفسها في كل الأنظمة بما فيها تلك المتسارعة. إذاً، لماذا يظهر ذلك الاختلاف الظاهري بين ما يرصده مراقب موجود على لعبة دوامة الأحصنة، وآخر موجود في المختبر؟ تُقدم النسبية العامة إجابةً مفاجئة. فوفقاً لها، لا تكمن هذه الاختلافات في القوانين، بل في البيئة. وعلى نحو مماثل، تبدو اتجاهات الأعلى والأسفل مختلفة على سطح الأرض بسبب جاذبيتها. إذ لا تفضل قوانين الطبيعة أي اتجاه (هي متناظرة بفعل الدوران)، وهي لا تميز بين الاتجاه نحو الأعلى أو نحو الأسفل. المراقبون الموجودون على دوامة الأحصنة يشعرون بقوة مركزية مكافئة للجاذبية. في الحقيقة، هذا الاستنتاج مثير، بمعنى أن تناظر القوانين عند حصول أي تغير في إحداثيات الزمكان يتطلب حتماً وجود الجاذبية! وهذا هو معنى أن التناظر مصدراً للقوى، فهو لا يترك أي خيار أمام الطبيعة: لا بد من وجود الجاذبية.


 التناظر الكمومي: 



تتطلب بعض التناظرات وجود جسيمات غير مكتشفة سابقاً. والتناظرات التي ناقشتها حتى الآن تؤثر على وجهة نظرنا المتعلقة بالمكان والزمن. كثير من التناظرات الكامنة وراء القوى الأساسية للطبيعة والجسيمات العنصرية (دون الذرية) مختلفة من حيث النوع، فنحن نغير منظورنا بما يتفق وهوية الجسيم. ضمن هذه الضبابية المباحة في الواقع الكمومي، يُمكن حتى للإلكترونات المألوفة أن توجد في حالات تكون فيها "مختلطة" بجسيم عنصري آخر يُعرف بـ "النيوترينو" (neutrino). النيوترينو، هو جسيم عديم الوزن تقريباً، وليست له شحنة كهربائية. وتماما مثلما يمكن أن يكون القمر مكتملاً أو مختفياً أو أي حال بين الاثنين، يُمكن أن تحمل الجسيمات مسمى "إلكترون" أو "نيوتريو"، أو مزيج من الاثنين، ويستمر هذا الوضع حتى لحظة إجراءنا للقياس الذي يفصل بينهما.

إنّ إدراك قدرة الجسيمات على القيام بهذا التغير في الشكل بين حالات مختلفة، تطلّب من علماء الفيزياء إنجاز خطوة مهمة نحو توحيد كل قوى الطبيعة، أي الوصول إلى نظرية تُمثل فيها كل القوى المختلفة الجوانب المختلفة من الشيء نفسه. وبشكلٍ خاص في ستينات القرن الماضي، برهن علماء الفيزياء ستيفن فاينبرغ ومحمد عبد السلام وشلدون غلاشو أن القوة الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة ما هما إلا جوانب مختلفة لنفس القوة.

تؤثر القوة الكهرومغناطيسية على الجسيمات ذوات الشحنات كهربائية، وهي مسؤولة عن كثير من الظواهر التي نشاهدها في الحياة اليومية، بما في ذلك القوة الكهربائية الساكنة والقوى المغناطيسية. أما القوة النووية الضعيفة (weak nuclear force) الموجودة داخل النوى، فهي أضعف بمئات آلاف المرات من القوة الكهرومغناطيسية، وهي مسؤولة على سبيل المثال عن التفكك الإشعاعي لليورانيوم، وتلعب دوراً مهمًا في تفاعلات إنتاج الطاقة في باطن الشمس. تُحول هذه القوة النيوترون إلى بروتون وتخلق في نفس الوقت إلكتروناً ونيوترينو مضادًا antineutrino (الجسيم المضاد للنيوترينو). وقد مثلت نظرية توحيد هاتين القوتين -القوة الموحدة، سُميت "القوة الكهروضعيفة" electroweak force- إحدى النجاحات المبهرة للتناظر.

تؤثر القوة الكهرومغناطيسية على الإلكترونات، ولا تفعل شيئًا مع النيوترينوهات، لأنها لا تحمل شحنة كهربائية. ولكن بما أن الجسيم يُمكن أن يتحرك باستمرار بين حالتين (الكترون ونيوترينو)، فإنّ شيئاً ما يرتبط بالقوة الكهرومغناطيسية لا بد وأن يؤثر على النيوترينو أيضاً. تتأثر النيوترينوهات فقط بالقوة النووية الضعيفة والجاذبية، ولذلك -بعد استبعاد الجاذبية، جرّاء تأثيرها متناهي الصغر على النيوترينو- استنتج العلماء أن القوة الضعيفة هي ببساطة القوة الكهرومغناطيسية بمظهر آخر.

تنتج القوة الكهرومغناطيسية عن تبادل "رُسل" من الجسيمات -حزم من الطاقة تُعرف باسم "الفوتونات" (الشكل 9)- بين الجسيمات المشحونة كهربائياً.

شكل 9 ... شكل 10
شكل 9 ... شكل 10


وبالمثل، يجب أن تتمتع القوة النووية الضعيفة بوجود تلك الرسل أيضاً. تنبأت النظرية الكهروضعيفة بوجود هذه الجسيمات، التي لم تُرصد سابقاً، وعُرفت باسم W وZ (يوضح الشكل 10 التكافؤ مع الشكل 9 حيث تحول القوة الضعيفة النيوترون إلى بروتون). ثم اكتمل كنز التناظر عندما اكتشفت تلك الجسيمات تجريبياً في العام 1983 و1984، اكتشاف أن أن له ذات الكتلة التي تنبأت بها النظرية - أثقل من البروتون بحوالي 90 مرة.

إن التناظر بين القوتين مثالي، فقوانين الطبيعة تأخذ الشكل نفسه إذا ما استبدلت الإلكترونات بنيوترونات، أو بمزيج من الاثنين. الأمر نفسه صحيح، فيما لو استبدلت الفوتونات بجسيمات W وZ. ومثلما يتطلب تناظر قوانين الطبيعة، عند حصول أي تغير في إحداثيات الزمكان، وجود الجاذبية، فإن التناظر بين الإلكترونات والنيوترينوهات يتطلب وجود الفوتون والجسيمات Z وW. ومن جديد، يبدو لنا أنه عند يبدأ المرء بالتناظر، فإنّ القوانين تكتب نفسها. إذاً، هل التناظر أساسي حقاً في الكون؟ أم أنّ عقل الإنسان، بطريقة ما، مضبوط بحيث يشاهد فقط الجوانب المتناظرة من الكون؟

ما مدى أساسية التناظر؟ 



الشكل 11: هل تبدو هذه الصورة سليمة بالنسبة لك؟
الشكل 11: هل تبدو هذه الصورة سليمة بالنسبة لك؟
تخيل ما سيحصل لو كانت عين الإنسان حساسة فقط لتغير صغير جداً في مجال الأطوال الموجية، لنقل في الجزء الأحمر من الطيف الكهرومغناطيسي، فقط. حينها، كان العلماء السابقون سيركزون بشكلٍ طبيعي على شرح السبب في كل شيء موجود في الكون هو أحمر اللون. وبالمثل، فإن الصيّاد يستخدم شبكة بثقوب أبعادها 10∗10 إنش ليحصل على كل الأسماك التي يزيد طولها عن 10 إنش، وهذه أمثلة بسيطة جداً عمّا نسميه "تأثيرات الانتقاء الرصدي" (observational selection effects) -أي ترشيح الواقع الفيزيائي الموجود، بوجود تحيزات غير معترف بها إما في أدواتنا الرصدية، أو في طرق الرصد. فهل من الممكن أن تعكس نظرياتنا المبنية على التناظر تحيزاً مشابهاً؟


وكما هو الحال مع مملكة الحيوانات، فلا شكّ بأن عقل الإنسان يُفضل التناظر. ويكفي أن تنظر إلى شخص يرتدي نظّاراته كما في الشكل 11، إذ سيبدو هذا المشهد مشوهاً لأغلب الناس. وكذلك الأمر عند السير في متحف، حيث تنتظم اللوحات في "ترتيب" كالمبين على الشكل 12. لقد بيَّن عدد كبير من التجارب أن التناظر -وخصوصاً التناظر الثنائي حول محور شاقولي (عامودي)- هو أسرع شيء يُمكن إدراكه، وأسهل شيء يُمكن إعادة إنتاجه في الذاكرة.


يلعب التناظر دوراً رئيسياً في انتقاء الأزواج -لكلٍ من البشر والحيوانات. وقد قاس عالم الأحياء راندي ثرونهيل Randy Thornhill وزميله عالم النفس ستيف غانجيستاد Steve Gangestad وآخرون التناظر المتعلق بالمميزات الجسدية والوجهية المختلفة على عينة إحصائية مكونة من ألف طالب. وعندما ربطوا تلك البيانات بمقياس مستقل للجاذبية، اكتشفوا أنّ الأشخاص الأقل تناظراً (في الجسد أو الوجه) اعتبروا الأقل جاذبية. وفي دراسة أُجريت على أزواج متبايني الجنس، تمثلت المفاجأة الأكبر في اكتشاف ثورنهيل وغانجيستاد أن النساء الذين كان شركاؤهم أكثر تناظراً شعروا بنشوة جنسية أكثر تكرراً أثناء ممارسة الجنس.

الشكل 12: تجربة مشوشة حتى لأشد الناقدين
الشكل 12: تجربة مشوشة حتى لأشد الناقدين


تكمن إحدى التفسيرات المقترحة لجاذبية التناظر في أن التناظر يُشاهد على أنّه مؤشر على اللياقة البدنية. ووفقاً لهذه الفرضية، توضح درجة تناظر وجه أحدهم مقدار تلاؤم جينوم هذا الشخص مع الطبيعة. وقد بيّنت أبحاث مستقلة، أجراها علماء النفس تود شاكيلفورد Todd Shackelford وراندي لارسين Randy Larsen، أن تناظر وجه الإنسان يرتبط في الواقع بشكلٍ جيد مع مؤشرات اللياقة البدنية -على الصعيدين النفسي والجسماني.

حسناً، عقل الإنسان منجذب للتناظر، وهو مصمم بدقة لاكتشافه. فهل يعني ذلك أن التناظر قد يكون أساسياً حقاً للكون نفسه؟ أم فقط للكون كما يشاهده البشر؟ هذا ليس بالسؤال السهل أبداً. يُخبرني استنتاجي الشخصي أن مبادئ التناظر تشرح لنا شيئاً مهماً، وهي غالبا ما تقدم أدلة ثمينة تُشير إلى المبادئ المشفرة والحاكمة للكون، بصرف النظر عن طبيعة هذه المبادئ. ووفقاً لهذا المنطق، فإنّ التناظر مثمر جداً. أما فيما إذا كان التناظر شاملا أم لا، أو أنه مبدأ كبير، فهذا الأمر يتطلب "نظرية كل شيء" التي لازال علينا تأسيسها.

عن المؤلف


شكل 13
شكل 13

الدكتور ماريو ليفيو Mario Livio هو كبير علماء الفلك في معهد تلسكوبات الفضاء (STScI)، وهو المعهد المسؤول عن تنفيذ البرنامج العلمي لتلسكوب هابل الفضائي. حاز ليفيو شهادة الدكتوراة في فيزياء علم الفلك النظري من جامعة تل أبيب في "اسرائيل"، وكان أستاذاً في قسم الفيزياء في معهد التخنيون للتكنولوجيا منذ العام 1981 وحتى 1991، وبعدها انضم إلى STScI في العام 1991. نشر ليفيو ما يزيد على 400 ورقة علمية وحصل على كثير من الجوائز في مجال الأبحاث والتميز في التعليم. أما كتابه "النسبة الذهبية" فقد حاز بفضله جائزة "بيانو" وجائزة فيثاغورث الدولية للعام 2004.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات