مفارقة الجسيم المشحون في مجال الجاذبية

تُعد المفارقات وسيلةً ممتازةً لتعلّم الفيزياء، حيث إنها تُلزِمنا بفحص معلوماتنا، وتجعلنا نتحقق من صحّة النظريات وتطوّر فهمنا لها، والمفارقة المثيرة التي نحن بصدد التحدّث عنها ناتجةٌ عن تجربةٍ فكريةٍ طُرحت بين اثنتين من أهم النظريات الفيزيائية.

النظرية الكهرومغناطيسية الكلاسيكية (الكهرديناميكا) والنظرية النسبية العامة


إن إحدى النتائج المهمة التي تنص عليها معادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية والتي حُسِبت في صيغة لامور هي أنّ أيّ جسيمٍ مشحونٍ يُشعّ طاقةً عندما يتسارع، ومن المفترض هنا أن يشعّ هذا الجسيم إن كان في حالة سقوطٍ حرٍّ (بفرض أنه يتسارع نحو الأرض بسبب الجاذبية)، وألّا يشعّ إن كان موضوعًا في حالة سكونٍ على الأرض، ولكن طبقًا لمبدأ التكافؤ لأينشتاين فإنه ليس من المفترض للجسيم المشحون الذي في حالة سقوطٍ حرٍّ أن يشعّ، بينما الجسيم الموضوع على الأرض هو الذي يجب أن يشعّ! فما قصة هذا التناقض؟

نبذة عن النسبية ومبدأ التكافؤ


 قبل الخوض في هذا المبدأ، عليك إدراك أنه لتحليل الحركة فأنت بحاجةٍ إلى ما يُعرف بـ "الإطار المرجعي" (Frame of Reference) ولنستخدم لفظ "المرجع" اختصارًا.

تكمن الحاجة للمرجع في أنه لا يمكنك قياس الحركة إلا بالنسبة لأشياءَ أخرى، فعلى سبيل المثال، لا يمكنك القول بأنك في حالة حركةٍ إلا بعد رؤيتك لشجرةٍ أو عمودٍ مثبّتٍ على الطريق، وعلى الخلاف من ذلك، لو كنت تقود سيارةً تتحرك بسرعةٍ منتظمةٍ وكانت هذه السيارة مغلقة النوافذ ومعزولةً عن أيّة مؤثراتٍ خارجيةٍ كالصوت والاهتزازات فلن تستطيع الجزم ما إذا كنت تتحرك بالفعل أو أنك في حالة سكون، وهذا لأنك ضمن مرجعٍ قصوريٍّ، قصوريٌّ أي في حالة سكون أو حالة حركةٍ بسرعةٍ منتظمةٍ في خطٍ مستقيمٍ.

وفي هذه المراجع تسري قوانين الفيزياء بنفس الشكل فإذا ما قمت بإسقاط قلمٍ داخل هذه السيارة، سترصده يسقط بنفس الطريقة التي سقط بها عندما كانت متوقّفةً، أما في حال كانت السيارة أو أيّ جملةٍ متسارعةٍ، فيدعى الإطار المرجعي هنا "بغير القصوريّ" وسنتطرّق له لاحقًا.

حسنًا، إذا ما أضحت هذه المفاهيم مألوفةً لديك، فنحن جاهزون للتحدّث عن مبدأ التكافؤ.

ينصّ هذا المبدأ والذي يُعتبر الأساس الجوهري للنسبية العامة على أنه لا يمكن تمييز تأثيرات الجاذبية عن تأثيرات التسارع، بمعنى أنه لو وقف شخصٌ ما داخل مصعدٍ على سطح الأرض حيثُ يخضع فقط لمجال الجاذبية الأرضية الذي قدره 1g (9.8 م/ث2)، ووقف شخصٌ آخرُ داخل مصعدٍ يتسارع للأعلى في الفضاء البعيد بمقدار 1g أيضًا، فإن كلاهما سيختبران نفس الشيء بالضبط، أي سيظل الشخص المتسارع في الفضاء ثابتًا تمامًا على أرضية المصعد بالنحو نفسه للشخص الواقف على سطح الأرض.

 

سيظل الشخص المتسارع في الفضاء ثابتًا تمامًا على أرضية المصعد بالنحو نفسه للشخص الواقف على سطح الأرض
سيظل الشخص المتسارع في الفضاء ثابتًا تمامًا على أرضية المصعد بالنحو نفسه للشخص الواقف على سطح الأرض

 

وبنفس المعنى أيضًا يخبرنا هذا المبدأ أن الشخص الذي يطفو في الفضاء بعيدًا عن أيّ مصدر جاذبية سيختبر نفس الشعور لشخصٍ في حالة سقوطٍ حرٍّ بفعل جاذبية.
وبنفس المعنى أيضًا يخبرنا هذا المبدأ أن الشخص الذي يطفو في الفضاء بعيدًا عن أيّ مصدر جاذبية سيختبر نفس الشعور لشخصٍ في حالة سقوطٍ حرٍّ بفعل جاذبية.


من هذا المنطلق فإن الشخص الذي في حالة سقوطٍ حرٍ واعتقدنا بأنه يتسارع هو في الواقع الثابت (stationary ذو المرجع القصوري) بينما صديقنا الواقف على سطح الأرض وأنا وأنتم ونحن جالسون الآن "نتسارع" مثل ذلك الشخص الواقف داخل المصعد المتسارع لأعلى في الفضاء. وما نشعر به ونسميه "قوة جاذبية" هي في الواقع ليست إلا كتلك القوة الوهمية التي تدفع جسدك للخلف في مقعد السيارة أثناء تسارعها للأمام. قد يبدو هذا المفهوم غريبًا، ولكن تأكّد بأنه مثبتٌ وحقيقيٌّ، وما عليك إدراكه من هذا المبدأ الآن هو ضرورة تماثل قوانين الفيزياء في كلّ أرجاء الكون بغضّ النظر عن المرجع الواقعة فيه سواءً كان قصوريًّا أم غير قصوريٍّ.

إذن كيف نشأت المفارقة


عند وضع هاتين الحقيقتين من النسبية العامة والكهرديناميكا معًا، يبدو وكأننا سنصطدم بمفارقةٍ!

فمن ناحية تخبرنا الكهروديناميكا بأن أيّ جسيمٍ مشحونٍ يُشعّ طاقةً عند تسارعه، ومن ناحيةٍ أخرى يخبرنا مبدأ التكافؤ أن الجسيم المشحون الموضوع على مختبرٍ على الأرض من المفترض أن يشعّ طاقةً (لأنه وفقًا للمرجع القصوريّ لمراقبٍ في سقوطٍ حرٍّ، فإن هذا الجسيم "يتسارع") ولكننا لا نرى جسيماتٍ مشحونةً تشعّ في مختبرٍ بمجرّد كونها على الأرض، فالظاهر أنه يمكننا التفرقة بين التسارع الناشئ عن الحركة والناشئ عن الجاذبية، الأمر الذي قد يبدو وكأنه انتهاكًا لمبدأ التكافؤ بواسطة الكهروديناميكا، أو أن تسارع الجسيم المشحون لا ينتج إشعاعًا على الإطلاق!

حل المفارقة


خلال العقود القليلة الماضية حاول الفيزيائيون حلّ هذا اللغز، ومن أهم المحاولات النظرية هو ما قدّمه Rohrlich سنة 1965، إذ أظهر بأن المفتاح يتمثّل في إدراك أن معادلات ماكسويل لا تُطبّق إلا في المراجع القصوريّة (أي غير المتسارعة) وكما تخبرنا النسبية، فإن سطح الأرض لا يعدُّ مرجعًا قصوريًّا، وبالتالي لا يمكننا أن نُجري تحليلاتٍ مبنيةً على معادلات ماكسويل ضمن هذا المرجع. لكن يمكن تطبيق معادلات ماكسويل بالنسبة لمراقبٍ في حالة سقوطٍ حرٍّ، لأن السقوط الحرّ حسب مبدأ التكافؤ يُعدُّ مرجعًا قصوريًّا. إذن فالخطوة الأولى لحلّ المفارقة هي العملُ ضمن مرجع السقوط الحر.

في هذا المرجع سنجد أن المجال الكهربائي المتساقط هو ببساطةٍ نفسه مجال كولون لجسيمٍ مشحونٍ في حالة سكون، أما المجال المغناطيسي فيكون معدومًا وبالتالي فإن المراقب ضمن هذا المرجع لا يلاحظ إشعاعًا.

حسنًا، لنتطرّق الآن إلى ما سيشاهده مراقبٌ واقفٌ على سطح الأرض.

في هذه الحالة علينا فقط تحويل المجالَين الكهربائي والمغناطيسي المعطيَين في مرجع السقوط الحرّ إلى مرجع المراقب الواقف على سطح الأرض، ولأن بين المرجعين تسارعًا نسبيًّا، فلن نتمكن من استخدام تحويلات لورنتز التي تُجرى للتحويل بين المراجع القصوريّة، بدلًا من ذلك سيكون علينا إدخال آلية النسبية العامة.

بعد استخدام بعض التحويلات والرياضيات سنجد أن الجسيم المشحون الذي في حالة سقوطٍ حرٍّ يصدر إشعاعًا بالفعل بالنسبة لمراقبٍ واقفٍ على سطح الأرض. عظيم، الآن ماذا عن شحنةٍ موضوعةٍ على سطح الأرض؟ كيف ستبدو لمراقبٍ متساقطٍ وآخر ضمن مرجعها؟ لمعرفة ذلك فلنبدأ مجددًا بأخذ مرجع السقوط الحرّ كمنطلقٍ.

من وجهة نظر مراقبٍ في حالة سقوطٍ حرٍّ، فإن الشحنة تبدو متسارعةً بشكلٍ منتظمٍ لأعلى، وبالتالي سيراها تشعّ وقد أوضح Rohrlich ذلك أيضًا في كتابه "الجسيمات المشحونة الكلاسيكية".

ماذا عن شحنةٍ موضوعةٍ على الأرض بالنسبة لمراقب يقف بجانبها؟ بعد إجراء التحويلات للمجالين الكهربائي والمغناطيسي فلن نجد إشعاعًا، حيث لن يرى المراقب في هذا المرجع إلا مجالًا كهروستاتيكيًا مع انعدام المجال المغناطيسيّ! قد يبدو الأمر غريبًا، فأين يختفي الإشعاع؟

خلصت الاستنتاجات أن الإشعاع كلَّه يذهب لمنطقةٍ من الزمكان غير قابلةٍ للرصد من قِبَل مراقبٍ يتسارع مع الشحنة co-accelerating observer، وكأن للمراقب أفق حدثٍ Event Horizon لا يمكنه الرؤية بعده.

تجدر الإشارة أخيرًا إلى توصّل البعض إلى أن سبب الإشعاع هو التسارع النسبي بين الجسيم المشحون ومجاله الكهربائي وليس بينه وبين المراقب، وعمومًا فإن لهذه المفارقة جوانبُ عديدةٌ يتقاطع بعضها حتى مع ميكانيكا الكم، فهذه هي الفيزياء، دائمًا هنالك الكثير للتحدّث عنه وربطه ببعضه، وهذا ما يجعلها مشوقةً.

الملاحظات


  • المفارقة (Paradox): هي بيان قد يبدو متناقضًا ذاتيًا ولكنه في الواقع يعبّر عن حقيقةٍ ممكنةٍ، أي إنها عبارة عن حالة تناقضٍ ظاهريٍّ، أو كما يُعرِّفها الفيزيائي فينمان هي حالة صراعٍ بين ما نعتقد بأنه حقيقي وبين الحقيقة.

 

  • النسبية العامة General Relativity: هي النظرية الهندسية للجاذبية نشرها ألبرت أينشتاين عام 1915[1] وتُمثّل الوصف الحالي للجاذبية في الفيزياء الحديثة. تعمم النسبية العامة كل من النسبية الخاصة وقانون الجذب العام لنيوتن، بتقديمها لوصفٍ موحّدٍ للجاذبية كخاصيةٍ هندسيةٍ للزمان والمكان، أو الزمكان. وبوجهٍ خاصٍّ، يرتبط انحناء الزمكان بشكلٍ مباشرٍ مع الطاقة والزخم لأيّ مادةٍ وإشعاعٍ موجود. العلاقة محددةٌ عبر معادلات أينشتاين للمجال وهي نظام معادلاتٍ تفاضليةٍ جزئيةٍ. وتقدّم هذه النظرية مفهوم التكافؤ بين قوى الجاذبية وقوى القصور الذاتي، كما أن لهذه النظرية مجموعةٌ من النتائج التي تتعلق بكلّ من هذه المواضيع، كانحناء الضوء جرّاءَ وجود الأجسام فائقة الكتلة، و طبيعة الثقوب السوداء، والموجات الثقالية. 
     
  • الزمكان: الزمكان هو مصطلحٌ حديثٌ في الفيزياء (بالإنجليزية: Spacetime) منحوتٌ من كلمتي الزمان والمكان يعبر عن الأبعاد الأربعة وهي الأبعاد الثلاثة المكانية (الطول والعرض والارتفاع) بالإضافة إلى بعد الزمن  حيث يُعدُّ فضاء الحدث التفاعلي بدلًا من المكان المطلق الفارغ السلبي في الميكانيكا الكلاسيكية.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • النسبية العامة (General Relativity): هي النظرية الهندسية للجاذبية. تم تطوير هذه النظرية من قبل البرت اينشتاين، و هي توسعة و مزج مع النسبية الخاصة. تقوم هذه النظرية بتوسيع مفهوم نظرية النسبية الخاصة، لتشمل جمل الإحداثيات التي تتحرك بتسارعٍ معين وتقدم هذه النظرية مفهوم التكافؤ بين قوى الجاذبية وقوى القصور الذاتي، كما أن لهذه النظرية مجموعة من النتائج التي تتعلق بكل من هذه المواضيع، كانحناء الضوء جرّاء وجود الأجسام فائقة الكتلة، و طبيعة الثقوب السوداء، و نسيج الزمان والمكان. المصدر: ناسا
  • أفق الحدث (Event horizon): هي بعدٌ معين عن الثقب الأسود لا يمكن لأي شيء يقطعه الإفلات من الثقب الأسود. بالإضافة إلى ذلك، لا يُمكن لأي شيء أن يمنع جسيم ما من صدم المتفرد الذي يتواجد لفترة قصيرة جداً من الزمن بعد دخول الجسيم عبر الأفق. ووفقاً لهذا المبدأ، فأفق الحدث عبارة عن "نقطة اللاعودة". انظر نصف قطر شفارتزشيلد. المصدر: ناسا

اترك تعليقاً () تعليقات