فرصة ثانية لتلسكوب كبلر الفضائي

تجمّع المهندسون بتوترٍ حول شاشة جهاز القياس عن بعد، فقد شاهدوا تدفّقاتٍ من البيانات من مركبةٍ فضائيةٍ متوقفة عن العمل على بعد أكثر من 50 مليون ميل، وهي مسافة بعيدة جدّا حتّى لو تمّ قطعها بسرعة الضّوء، لهذا يتطلّب الأمر تسع دقائق لتنتقل الإشارة إلى المركبة الفضائية وتعود منها.

مؤخرًا في أغسطس/آب 2013، كانت مجموعةٌ من حوالي خمسة موظّفين من شركة بول أيروسبايس Ball Aerospace في بولدر، كولورادو، في انتظار أن يكشف تلسكوب كبلر الفضائي إن كان حيًّا أو ميّتا، فلقد قام خللٌ كبيرٌ بسلب كبلر صائد الكواكب قدرته على البقاء موجّهًا إلى هدفٍ دون الانحراف عن مساره.

قام المهندسون بوضع حلٍ مُبتكر عبر استعمال ضغط ضوء الشّمس لتثبيت المركبة الفضائية حتّى تتمكّن من مواصلة القيام بالأبحاث، لكنّ الآن لا يوجد أيّ شيءٍ يمكنهم القيام به سوى انتظار كشف مصير المركبة الفضائية.

يقول دوستن بوتنام Dustin Putnam مشرف التّحكّم في ارتفاع كبلر في شركة بول: "أنت لا تشاهدها آنيًّا"، ويضيف: "أنت تشاهدها قبل بضع دقائق بسبب الوقت الذي تأخذه البيانات للعودة من المركبة الفضائية".

أخيرًا، استقبل الفريق تأكيدًا من المركبة الفضائية لما كانوا بانتظاره وانفجرت الغرفة بالهتافات. لقد نجح الحلّ! كبلر على قيد الحياة مجدّدًا، وأعطِي مهمّةً جديدةً تحت اسم K2. لكنّ المفاجأة الكبرى لم تأت بعد، فقد كان التّلسكوب الفضائي ذو التاريخ المميّز من اكتشاف الكواكب الخارجيّة – وهي الكواكب التي تدور حول نجومٍ أخرى – على وشك التّغلّب حتى على نفسه باذلًا جهدًا لمزيد من مئات الاكتشافات ومساعدًا في فتح فرصٍ جديدةٍ كاملةٍ في أبحاث الفيزياء الفلكيّة.

يقول توم باركلاي Tom Barclay كبير العلماء الباحثين ومدير كبلر ومكتب استضافة مراقبة مهمّة K2 في مركز أبحاث ناسا في مدينة إيمز بوادي السيليكون، كاليفورنيا: "اعتقد العديد منّا أنه سيتم إنقاذ المركبة الفضائية، لكنّه كان إيمانًا أعمى أكثر منه بصيرةً"، ويضيف: "لقد أبدع فريق شركة بول حلًّا مبتكرًا ما يسمح لتلسكوب كبلر الفضائي بالتألق مجدّدا".

قائمة الاكتشافات


أكثر من عامين بقليل بعد اللّحظة المتوتّرة لمهندسي شركة بول، قامت مهمّة K2 بإيفاء وعدها عبر نطاقٍ واسعٍ من الاكتشافات مواصلةً إرثها باصطياد الكواكب الخارجية، حيث قامت باكتشاف أكثر من ثلاثين كوكبًا خارجيًّا إضافة إلى أكثر من 250 مرشّحًا ينتظر التأكيد. قليلٌ من هذه العوالم هي تقريبًا بحجم الأرض تدور حول نجومٌ ساطعة وقريبة نسبيًّا مقارنة باكتشافات كبلر، ما يسمح للعلماء بإجراء دراساتٍ متواصلة.

 

في الحقيقة، هذه الكواكب الخارجية هي على الأرجح أهدافٌ مستقبليّةٌ لتلسكوب هابل الفضائي وتلسكوب جيمس ويب الفضائي المنتظر، مع احتمال دراسة الغلاف الجوّي لهذه الكواكب في البحث عن إشاراتٍ دالّةٍ عن الحياة.

جعلت K2 الفلكيين يعيدون التفكير في نظرية تشكل الكواكب المسيطرة منذ وقتٍ كبير، والفهم الشّائع الوحيد لنموذج "المشتري الحار". الاكتشاف غير المتوقّع لنجمٍ مع كوكبٍ قريبٍ جدًّا بحجم المشتري يقع بين كوكبين صغيرين مترافقين جعل النّظريين يعودون إلى حواسيبهم ويعيدون العمل على النماذج، ودفع الفلكيين للعودة إلى تلسكوباتهم للبحث عن مشترياتٍ (جمع مشتري) حارّةٍ أخرى مرافقة.

 

الضوء الثاني لكبلر: كيف ستعمل K2
الضوء الثاني لكبلر: كيف ستعمل K2


يقول باركلاي: "يبقى اللّغز هو كيفية تشكل كوكب عملاق بعيدًا وهجرته إلى الداخل تاركًا فوضى في أعقابه ويبقى بجوار الكواكب المرافقة".

كما هو الحال بالنّسبة لسلفه، يبحث K2 عن عبور الكواكب (Planetary transits) – وهو انخفاضٌ منبِّه صغيرٌ في سطوع النّجم عندما يمرّ الكوكب من أمامه – ولأول مرّة قام بالتقاط بقايا لكوكبٍ خارجيٍّ محطّمٍ عابر من أمام بقايا نجم ميّت يعرف بالقزم الأبيض، فقد ساد الاعتقاد طويلًا بأنّ الكواكب الخارجية تدور حول بقايا النّجوم، لكنّ ليس قبل تأكيد مهمّة K2 لهذه النّظرية.

قامت K2 بتثبيت نظرها إلى مناطق من السّماء مزدحمة بشكل كثيف بالعناقيد النّجميّة التّي تقوم بكشف أوّل عبور لكوكب خارجيّ في أيّ منظقة، وهي معروفةٌ لدى العامّة بعنقود القلائص النّجمي (Hyades star cluster). تعتبر العناقيد أماكن مثيرةٌ لإيجاد الكواكب الخارجية لأنّ النّجوم فيها تتشكّل في وقت واحد تقريبًا معطية إيّاهم نفس تاريخ الميلاد، حيث يساعد هذا الأمر العلماء على فهم تطوّر النّظم الكوكبيّة.


تفاخر المركبة الفضائية المعاد استخدامها بالاكتشافات البعيدة عن مجالات الكواكب الخارجية، حيث تملأ النّجوم النّاضجة – التّي هي بعمر الشّمس أو أكبر – بشكلٍ واسعٍ مجال الرّؤية الوحيد الأصليّ لكبلر. في المقابل، ترى العديد من مجالات K2 النّجوم وهي لا تزال في طور التّشكل، وفي نفس الوقت من هذه الأيام الأولى تتجمّع الكواكب أيضًا، وعبر مشاهدة السّلم الزّمنيّ لتشكّل النّجوم، يحصل العلماء على نظرةٍ حول كيفية تشكّل كوكبنا. 

 

قارنت دراساتٌ لمنطقة تشكّل نجوم واحدة تسمّى العقرب العلوي (Upper Scorpius) حجم النّجوم الحديثة المشاهدَة من K2 مع نماذج حاسوبية، وقد أظهرت النتائج عيوبًا أساسيةً في هذه النماذج. في حين أن سبب هذه التناقضات يبقى مطروحًا للنقاش، يبدو على الأرجح أن المجالات المغناطيسية للنجوم لا تنشأ كما يتوقّع العلماء.

وفي إطار البحث ضمن مسار الشّمس (Ecliptic) – المسار المداريّ الذي تتخذه الكواكب للانتقال حول الشّمس في المجموعة الشّمسية وموقع دائرة البروج Zodiac)K2) مجهزةٌ جيّدًا أيضًا لمشاهدة الأجسام الصّغيرة ضمن نظامنا الشّمسي كالمذنّبات والكويكبات والكواكب القزمة والعمالقة المتجمّدة والأقمار. في العام الماضي وفي لحظةٍ ما شاهدت K2 نيبتون وهو يتحرّك مع قمريه ترايتون (Triton) ونيريد (Nereid)، وأتبع ذلك بمشاهدات لبلوتو وأورانوس.

 

يقول باركلاي: "K2 لا يسعه إلا أن يساعد في مشاهدة ديناميكيّة المجموعة الشّمسية"، ويضيف: "نعلم جميعًا أن الكواكب تتّبع قوانين الحركة، لكن مع K2 يمكن أن نرى ذلك يحدث".

 

جاءت هذه الإنجازات الأوليّة بعد عام ونصف منذ انطلاق K2 في مايو/أيار 2014، وقد أجريت دون عقبات، وتواصل المركبة الفضائية عملها بشكلٍ عاديّ.

البحث عن عوالم خارجية بعيدة


في أبريل/نيسان، ستكون K2 جزءًا من تجربة عامّة لمشاهدة الكواكب الخارجية في فترة مشاهدة خاصّة أو حملة يطلق عليها الحملة 9. في هذه الحملة سيقوم كلٌّ من K2 والمراصد الأرضية في القارّات الخمس معًا بمراقبة نفس المنطقة من السّماء باتّجاه مركز مجرّتنا للبحث عن كواكب صغيرة مثل التّي هي بحجم الأرض والتي تدور بعيدًا جدًّا حول نجمها أو في بعض الحالات لا تدور حول نجمٍ إطلاقا.

 

من أجل هذه التجربة، سيستعمل العلماء ظاهرة التعديس الثقالي المصغر (Gravitational microlensing) – تحدث هذه الظّاهرة عندما تقوم جاذبية جسمٍ أماميٍّ بتركيز وتضخيم الضوء القادم من خلفية نجم بعيد. ستسمح طريقة الكشف هذه للعلماء بإيجاد وتحديد كتلة الكواكب التي تدور على مسافاتٍ كبيرةٍ مثلما يدور المشتري ونبتون حول الشّمس.

 

تصميم من المجتمع


يكفي لتكون واحدًا من أهم المساهمين في ميراث K2 وأن يكون لديك القليل لفعله مع ميكانيك التلسكوبات، حيث يتمّ الآن التشغيل بإطارين مع مساعدةٍ من الشّمس. تم تنظيم مهمّة كبلر على حسب تقاليد الاكتشافات العلميّة: مجموعةٌ من الأهداف مختارةٌ بعنايةٍ من طرف الفريق العلميّ للإجابة على السؤال الخاص لحساب ناسا: هل "الأراضي" حول الشموس الأخرى شائعة أم نادرة؟

 

تنطوي مهمّة K2 المعدّلة على نهج جديد كليًّا وهو إشراك الجمهور العريض من طرف المجتمع العلمي في القدرات الواسعة والمفتوحة للمركبة الفضائية.

 

يقول ستيف هويل Steve Howell العالم في مشروع كبلر وK2 من مدينة إيمز: "يقوم النّهج الجديد على ترك المجتمع يقرّر معظم الأهداف العلمية المقنعة التي تكون في طريقها لتكون واحدةً من أكثر الجوانب المثيرة". ويضيف: "بسبب هذا الأمر فإنّ نطاق علمنا في اتّساعٍ بما في ذلك العناقيد النجمية والنجوم الحديثة والمستعرات العظمى والأقزام البيضاء والنجوم شديدة السّطوع والمجرّات النّشطة وبالتأكيد الكواكب الخارجية".


في النموذج الجديد، وضع فريق K2 بعض الأهداف العلمية الواسعة للمهمّة وخطّط لتسيير المركبة الفضائية بالنيابة عن المجتمع.

 

مسح مجال رؤية كبلر بقعةً واحدةً فقط من سماء نصف الكرة الشّمالي، لكن يقدّم مجال رؤية مسار الشّمس لـK2 فرصًا عظيمةً للمراصد الأرضية لكلا نصف الكرة الشمالي والجنوبي ما يسمح للعالم كلّه بالمشاركة. مع تبقّي الوقود لما يكفي لأكثر من عامين، يستمرّ المستقبل العلميّ للمركبة الفضائية ليبدو أكثر إشراقًا بشكل غير متوقّع.

 

يدير مركز إيمز مهمّتي كبلر وK2 لصالح دائرة المهمّات العلمية لناسا، ويسيّر مختبر الدّفع النفّاث في باسادينا، كاليفورنيا عملية تطوير مهمّة كبلر، بينما تدير شركة بول للطّيران الفضائي والتكنولوجيا نظام التحليق مع دعمٍ من مختبر فيزياء الغلاف الجويّ والفضاء في جامعة كولورادو في بولدر.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المفعول العدسي الميكروي (التعديس الميكروي) (microlensing): هو مفعول عدسي ثقالي ينجم عن النجوم والأجسام التي لا تمتلك كتلة هائلة. وفي هذا المفعول، تكون الصور المضاعفة قريبة جداً من بعضها إلى درجة يصعب حتى على أفضل التلسكوبات التمييز بينها. المصدر: العلوم الأمريكية.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات