نيكولا كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus تجربة العلم ووضع الشمس في مركز النظام الشمسي.
هذه القصة نعرفها جميعاً. فمنذ قرون خلت، اعتقد الجميع في العالم الغربي بأن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس والنجوم والكواكب وكل شيء آخر كان يدور حولها. ولم يكن هذا النموذج جيداً في التنبؤ بحركة الكواكب، لذا كانت تضاف أعداد لا تحصى من أفلاك التدوير epicycles، أو الدوائر ضمن الدوائر، إلى مساراتها المدارية وذلك لتفسير هذه المعلومات.
حسناً، ليكن ما كان.
وكانت الأمور تجري على نحو حسن إلى أن قرر نيكولا كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus تجربة العلم ووضع الشمس في مركز النظام الشمسي. شيء مذهل، كل شيء كان جميلاً! إلا أن الكنيسة الكاثوليكية لم تحب ذلك. وبعدها اكتشف يوهانس كبلر Johannes Kepler أن الكواكب لا تتحرك في مسارات دائرية، وإنما بمسارات على شكل قطع ناقص. وكان نموذجه عالي الدقة. حسناً لقد سجل العلم نقطة أخرى! ضربة أخرى للكنيسة.
وبعد ذلك بدأ غاليليو غاليليه Galileo Galilei بتعرية الشجرة البابوية مما أثار جنون الجميع. وتبع ذلك الكثير من الجدل وإحراق للهراطقة إلا أن العلم ربح المعركة في نهاية المطاف.
هذه هي القصة الأساسية والتي يعرفها الكثير عن المعركة بين العلم والكنيسة إبان النماذج المبكرة من النظام الشمسي. إلا أن هنالك فوارق دقيقة وبسيطة بالنسبة لهذه القصة والتي غالباً ما تضيع حين الحديث عنها. وسيتطلب فك الارتباط بين الحقيقة والخيال كتاباً بأكمله، أما بالنسبة إلى الوقت الحالي، فسألقي نظرة عن كثب على عمل كبلر، وذلك لأبين بأن القصة الحقيقية لم تكن على هذا النحو على الإطلاق.
خليط كلي
بإمكاننا فصل العلوم بدقة في العصور الحديثة، إذ تقبع الفلسفة والأديان في صناديقها اللطيفة الصغيرة والجميلة، وما يثير إزعاج هذه الصناديق شروع أفراد من أحد هذه الصناديق بالتحدث عن محتويات صندوق أو مجال آخر. ونحن ننظر إلى تاريخ العلوم على أنه نضال العلماء الأوائل ضد الكنيسة لتتركهم بسلام و تدعهم ينصرفون إلى أمورهم العلمية.
ومع ذلك، هناك أمران هامان علينا أن نذكرهما حين ننظر إلى تاريخ العلوم المبكر في زمن كوبرينكوس وكبلر.
- ما ندعوه الآن بالعلوم والفلسفة واللاهوت كان عبارة عن خليط واحد.
- كانت للعلماء الأوائل ادعاءات ومجادلات تبدو اليوم في غاية الجنون.
سأدع الحديث عن دوافع كوبرنيكوس إلى مقال آخر، إلا أنه نشر فعلياً كتاباً في عام 1543 يتناول بتفصيل علمه الجديد في الكونيات حيث تقع الشمس في مركز الكون. ففي حين كانت لهذا النموذج ميزات تفوق نموذج مركزية الأرض المألوفة en vogue geocentric (مثل تفسير دقة المدرات الكوكبية وتطلب منه ذلك عدداً أقل من المسارات الدائرية التي تقع ضمن بعضها البعض)، إلا أنه امتلك نقاط ضعف فعلياً ، (إذ كيف يتحرك شيء كالأرض تماماً)، كما أن رد الفعل بين مجتمع المعرفة- بما في ذلك رجال الدين الكاثوليك- لم يكن معادياً ولا داعماً. ففي ذلك الوقت، لم يكن علم الكونيات الذي أتى به كوبرنيكوس مثيراً للإعجاب ببساطة.
وبعد مرور جيل، أوقف كبلر عملاً يدافع عن النموذج الكوبرنيكي، إلا أن ذلك لم يكن انطلاقاً من أرضية فيزيائية أو رياضية، فقد كان جدل كبلر ديني. فقد قال بأنه ما دام ابن الرب مركز الديانة المسيحية، فعلى الشمس أن تكون في مركز الكون. ولهذا كانت مركزية الشمس.
لقد أخبرتكم، نعم جنوني.
أسرار في السماء
كان عمل كبلر اليومي يشبه عمل منجم المحكمة بالنسبة لإمبراطور روماني مقدس. نعم، منجم. أبراج وأمور أخرى. وبطريقة ما كان مسكوناً بعلم الأرقام أكثر مما ينبغي.
أو قد لا يكون كذلك، كون هذا المس قد انتهى به إلى تطوير قوانينه الثلاثة المعروفة الآن. فعمل لسنين طويلة، مستغرقاً في دراسة العديد من الرسوم البيانية التي رُسمت باليد والتي تفصل المواقع الدقيقة للكواكب، وذلك انطلاقاً من اقتناعه ولأسباب شبه روحية بأن الشمس كانت مركز الكون.
لم يكن كبلر يبحث عن صيغة مناسبة في متناول اليد فحسب، بل كان يبحث عن علامات الألوهية أيضاً. فقد كان مقتنعاً بأن السماوات، ولقربها بطبيعة الحال من الإله، عليها أن تحوي نوعاً من الكمال الذي لم يُشاهد على الأرض منذ جنات عدن. وأكثر من ذلك، فهو إن تمكن من استنتاج الهندسة الإلهية للسماء، حينها سيبحث عما يماثلها هنا على الأرض لمساعدته في التنبؤ بالمستقبل.
وإليكم مثالاً: فبعد مرور سنوات من الإحباط المستمر والناتج عن تجربة معادلاتٍ تتناسب مع حركة الكواكب (فاق عددها المعادلات التي صيغت أيام البيزنطيين كما أنها فاقت ما قبلها من المعادلات بفشلها)، قدم كبلر دفعاً لنموذج القطع الناقص البسيط، وإلى جانب عمله المجد، والجيد جداً، اقتنع كبلر بأنه كان على صواب والسبب في ذلك .....الموسيقى!!!!!!
ألم أخبركم بأن ذلك كان جنونياً.
موسيقى الكرات السماوية (الأفلاك)
وجد كبلر أن الكواكب تدور في مدارات حول الشمس لها شكل القطع الناقص، وليست دائرية. كما اكتشف أنه كلما اقتربت الكواكب من الشمس، دارت بسرعة أكبر منها لدى ابتعادها عنها. وحين طبق الأمر على الأرض، كانت النسبة بين أكبر سرعة لها وأقل سرعة لها هي 16/15، وهي النسبة نفسها بين العلامتين الموسيقيتين فا ومي. ولا داعي للقول أن كبلر اعتقد ذلك خيالي الأهمية:
" فحين تردد الأرض العلامات مي Mi ، فا Fa ، مي Mi يمكنك أن تستنتج من المقاطع الموجودة في هذه النغمة أن أياماً من البؤس misery والمجاعة famine في طريقها إلينا".
وكانت تلك نقطة فاصلة بالنسبة لكبلر. لم كانت السماء على هذا النحو من الكمال في حين امتلأت الأرض بؤساً؟ وتخبرنا موسيقى الكرات السماوية أنها كانت متناغمة تماماً! ولم يكن نظامه الجديد مجرد قناعة رياضية فحسب، بل كان نافذة على عقل الله والنظام الخفي للكون.
تناغم كوني
كان كبلر على قناعة تامة بوجود نوع من النظام الخفي في السماوات فتعمق بالبحث ملياً. فبالتأكيد كان هنالك شيء ما بإمكانه كشف ألغاز هذه العصارة الإلهية. وببذل المزيد من سنوات الدراسة الشاقة، اكتشفه: فمربع زمن إتمام الكواكب لمداراتها (الزمن الذي تستغرقه الكواكب لإتمام دورتها حول الشمس) يتناسب طردياً مع مكعب نصف المحور الرئيسي لمداره (نصف محور اساسي لقطع ناقص حيث الحركة تأخذ شكل قطع ناقص) (المسافة الأبعد بين الكوكب والشمس)، وهذا التناسب ينطبق على جميع الكواكب.
فلم كان مربع المدة المدارية؟ لمَ لم يكن المحور الرئيسي مرفوعا للأس الرابع؟ لم يعرف كبلر الإجابة (ومن المحتمل) أنه لم يكترث لذلك. فقد اكتشف ثابتاً كونياً، رقم واحد يجمع بين حركات جميع الكواكب- إضافة إلى الأرض.
حسناً، هنا على الأقل كانت هنالك موسيقا إلهية- وعلم أرقام- ما سعى إليه كبلر بعد سنوات من العمل. فوحد نموذجه للكون العوالم الأرضية والسماوية في نغم حرفي، إذ أنه عثر على هندسة أنيقة وبسيطة في حركة الكواكب، واستخدمت معادلاته البسيطة للتنبؤ بمواقع الكواكب في وضع خارطة ممتازة للأبراج.