يعتبر عام 2015 عاماً مميزاً بالنسبة للفيزياء؛ فهو يمثل الذكرى السنوية الـ100 للإنجاز الأعظم لأينشتاين: النظريةِ النسبيةِ العامة (genera theory of relativity).
النسبية العامة عبارة عن نظرية في الجاذبية، وفي الواقع فإنها النظرية الأبرز في الجاذبية؛ ففي السنوات المئة منذ اكتشافها، لم نتمكن من الإتيان بشيء أفضل منها ليستبدلها. حيث تفسر سبب سقوط التفاح من الأشجار ولماذا نحن عالقون على هذه الأرض، ولكنها تأتي حقاً منفردةً في التفسير عندما نفكر في الأمور الكبيرة.
تفسر النظريةُ لماذا يدور القمر حول الأرض، ولماذا تدور الأرض حول الشمس، ولماذا تدور الشمس مع 100 مليار نجم آخر حول ثقب أسود ضخم يقبع في مركز مجرتنا، درب التبانة. هي أيضاً النظرية التي تحكم ديناميكيات الكون على أضخم المقاييس التي يمكن تخيلها.
اكتشف أينشتاين النسبية العامة في 1915 عندما كان بعمر 36 سنة، ولم يكن وقتها مشهورًا بعد، ولكنه كان لتوه نجمًا في الأوساط العلمية. كان قد وُظّف وقتها في برلين، حيث حصل على المنصب الأرفع في أوروبا، كان العضو الأصغر في الأكاديمية البروسية للعلوم Prussian Academy of Sciences، وكان قد ساهم بمساهمات مهمة عديدة للعلم. لكنّ نظريته النسبية العامة كانت، إلى حد بعيد، أعظم إنجاز له، وما زالت واحدة من أعظم الإنجازات في تاريخ العلم.
فيزياء في مكتب براءات الاختراع:
بُذِرت بذور نظرية أينشتاين في الجاذبية عام 1905، و من العدل القول أن أينشتاين كان شاباً مغروراً في ذلك الوقت. لم يكن لديه يحتل منصب في جامعة، ولم يكن حاصلاً على شهادة الدكتوراه PhD، وقد كان السببُ في ذلك أنه قام بازعاج كل عالِمٍ قابله، وعادة ما يكون ذلك مصحوباً بقليلٍ من الغطرسة، والكسل، والوقاحة. و في 1905، عمل كموظفٍ مدني في سويسرا، في أدنى درجات السلم، ككاتب مبتدئ في مكتب براءات الاختراع في بيرن.
الأمر الجيد في هذه الوظيفة أنها كانت سهلة؛ فقد تركت أينشتاين مع الكثير من وقت فراغ ليفكر حول العلم. في تلك السنة، كتب أينشتاين أربع ورقات علمية، واحدةً منها كانت، ببساطة، ورقة بحث جيدة جداً منحته في النهاية درجة الدكتوراه، أما كل واحدة من الورقات الثلاثة الأخرى فقد أحدثت ثورة في مجالٍ ما من العلم.
كانت واحدةً من تلك الورقات تلك التي تتحدث عن النظرية النسبية الخاصة، وهي النظرية التي أتت منها المعادلة المشهورة \(E=mc^2 \) تقوم الفكرة المركزية في هذه النظرية على أنه توجد حدود للسرعة في كوننا. تتعاون القوانين الفيزياء بحيث لا تسمح لأي شيء بأن يسافر بسرعة أسرع من سرعة الضوء.
اهتدى أينشتاين إلى هذه الفكرة من خلال تفكيره في قوانين الكهرومغناطيسية المكتشفة حديثاً، ومن خلال سؤاله أسئلة من مثل "كيف ستظهر حزمة من الضوء إذا كنت تركض بمحاذاتها؟". لا نلاحظ نحن حد سرعة الكون في حياتنا اليومية؛ لأن سرعة الضوء سريعةٌ حقاً: حوالي 700 مليون ميل في الساعة ( 1.120 مليار كم/س).
تفجير الشمس:
وضعت النسبية الخاصة أينشتاين في صراع مع نظرية كانت تعتبر القاعدة الأساسية في العلم -قاعدة إسحق نيوتن في الجاذبية- والتي كانت موجودة لحوالي 250 سنة.
تسائل أينشتاين عما كان سيحدث إذا انفجرت الشمس فجأة. بما أن الشمس بعيدة جداً، لدرجة أن الضوء يحتاج إلى ثماني دقائق حتى يسافر إلى الأرض، فإننا لن نعرف عن الانفجار حالاً، وسنكون غافلين تماماً، لمدةَ ثماني دقائق بهية، عن الأمر المرعب الموشك أن يحصل.
ولكن ماذا بشأن الجاذبية؟ تتحرك الأرض بشكل بيضوي حول الشمس، بسبب جاذبية الشمس، فإذا لم تكن الشمس موجودة هناك، ستتحرك الأرض بعيداً في خط مستقيم. كان لغزَ أينشتاين هو متى سيحدث ذلك: مباشرة بعدئذٍ، أو بعد ثماني دقائق؟ بحسب نظرية نيوتن، يجب على الأرض أن تعرف مباشرة بأن الشمس اختفت، لكن أينشتاين قال أن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحاً؛ ذلك لأن، وفقاً لرأيه، لا شي يمكنه أن يسافر أسرع من سرعة الضوء، ولا حتى تاثير الجاذبية.
في حال لم تكن الأمور واضحة، يجب أن نشير الى أن أينشتاين لم يكن رجلاً واقعياً. تنفجر الشمس وكل ما يقلقه هو إذا ما كانت الأرض ستدور في دائرة أو في خط مستقيم، ولكن هذه كانت طريقته في العلم. حيث كان يطبخ هذه السيناريوهات في رأسه، و من ثم دفعها لأقصى حدودها. كان يحاول أن يبحث عن تناقض ما وعندما يجد شيئاً غير منطقي، سيصب تركيزه عليه.
ثمانية أعوام من التفكير:
ظن أينشتاين في البداية أنه يمكنه أن يحل المشكلة بترقيع قوانين نيوتن، واضعاً فيها تأخيراً في الوقت، ولكن هذا لم يجدي نفعا. بدأ أينشتاين في 1907 بالتفكير بشكل أعمق حول الجاذبية، راجعاً الى الوراء إلى المبادئ الاساسية، الأمر الذي أخذ منه ثماني سنوات ليصل إلى الإجابة النهائية، وكان، أغلبَ ذلك الوقت، الشخص الوحيد في هذا العالم الذي يهتم لهذه المسألة.
كان ذلك وقتاً مثيراً بالنسبة للفيزياء: كان النقاب يُكشف عن أساسيات التركيب الذري، كما كانت الأيامَ الأولى لميكانيكا الكم. كان أينشتاين يمثل الواجهة لكل هذه التطورات، ولكنَّ الأمرَ الذي كان يهمه حقاً هو هل كانت لتكمل دورانها حول الشمس بعد أن تنفجر.
ظن أينشتاين في البداية أنه حل المسألة في 1913 عندما أتى بما أسماه "المخطط التمهيدي" للنظرية. أدرك أينشتاين أنها لم تكن كاملة، ولكنه ظن أنها كانت صحيحة في أساسها وكل ما احتاجته هو القليل من الصقل. حاول لسنتين أن يصلحها، ولكن بطريقة أو بأخرى لم يكن باستطاعته فعلها -بدأت شكوك مزعجة تتسلل إليه.
وصلت الأمور إلى ذروتها في صيف عام 1915 عندما ذهب إلى المدينة الألمانية غوتينغن Göttingen ليعطي سلسة من المحاضرات حول نظريته، وهناك في غوتينغن كان يوجد رجل يدعى داڤيد هيلبيرت David Hilbert، والذي كان مشهوراً كأعظم عالم رياضيات على قيد الحياة في ذلك الوقت. مكث أينشتاين مدة أسبوع هناك، وكان لدى هيلبيرت اهتمام كبير فيما كان سيقوله.
عندما عاد أينشتاين إلى برلين حدث أمران: الأول أنه أدرك أن نظريته كانت عبارة عن هراء؛ كانت الأفكار الأساسية صحيحة، ولكن الهيكل الذي بناه كان خاطئاً. ثانياً، تلقى رسالة من هيلبيرت تقول "حسناً، لقد أعجبت حقاً بمحاضراتك، ولكني لست متأكداً أنها صحيحة. ولذلك، قررت أن أعمل عليها بنفسي". بعد ثماني سنوات من العمل وحده، حصل أينشتاين فجأة على منافسة من أعظم علماء الرياضيات في هذا العالم.
اكتئب أينشتاين في البداية، ولكنه بعدها صار جاداً وركز كل شيء على مسألته؛ فقد عمل لشهور، ناسياً مراتٍ عدةً أن يأكل أو يشرب. وفي النهاية، وصلت الأمور إلى تشرين الثاني 1915. كان أينشتاين على وشك أن يعطي سلسلة من أربع محاضرات، واحدةً كل أسبوع، عن النسبية العامة، في الأكاديمية البروسية للعلوم، لكل العلماء الألمع في برلين.
كان أينشتاين قد وافق، في الماضي، على إعطاء هذه المحاضرات، عندما كان يظن أنه يعرف عن ماذا يتحدث، ولكنه الآن لا يملك نظرية. استطاع تدبير أمره في جمع موادٍ كافية لإعطاء محاضرته الأولى، ولكنه، منذ تلك اللحظة، كان يعمل في الوقت الحقيقي.
أمضى أينشتاين وقته، خلال الأسبوع، محاولاً حل المشكلة التي تصارع معها لثمانية أعوام. في نهاية كل أسبوع كان يقف ويعطي محاضرة عن الأمر الذي اكتشفه تواً. كان هيلبيرت في تلك الأثناء يراقبه عن كثب، مرسلاً له رسائل يريه فيها أنه كان أيضاً، وبشكل مقارب، على الطريق السليم.
وفي النهاية، وفي الأسبوع السابق لمحاضرته الأخيرة، استطاع أينشتاين حلها. في نهاية الأسبوع، وقف أينشتاين في الأكاديمية البروسية وأعلن للعالم النظريةَ النسبية العامة، والتي كان قد اكتشفها منذ أيام فقط.