أينشتاين والنسبية: الجزء الثاني

النسبية العامة


لقد غيرت نظرية أينشتاين من فهمنا للمكان والزمن. إذ كان الناس قبل أينشتاين يفكرون بالفضاء على أنه خشبة مسرح تلعب عليها قوانين الفيزياء؛ حيث يمكننا أن نلقي ببعض النجوم أو بعض الكواكب، ومن ثم فإنها ستتحرك في أرجاء هذا المسرح.

تمثل الثقالة الانحناءَ في المكان والزمان
تمثل الثقالة الانحناءَ في المكان والزمان

أدرك أينشتاين أن المكان ليس بهذا الخمول، وأنه ديناميكي ويستجيب لما يحدث داخله. فإذا وضعت شيئاً ثقيلاً في الفضاء -ولنقل أنه كوكب، الأرض مثلا- فإن الفضاء حوله سيتفاعل، ذلك لأن وجود الكوكب يتسبب في "انبعاج" صغير في المكان "وفي الحقيقة، فإن ذلك يحدث في الزمن كذلك". عندما يتحرك شيء آخر بالقرب من الكوكب -ولنقل القمر- فسيشعر بهذا "الانبعاج" في المكان وسيتدحرج حول الكوكب كما تتدحرج بلية في وعاء. هذا هو ما نسميه الثقالة. 

قد يبدو هذا كأمر تشاهده في فيلم ستار تريك، ولكنه ليس كذلك، بل هي الطريقة التي يعمل بها كوننا. إن رقصة كوننا هذه، والتي تدور فيها المجرات وتتحرك بشكل لولبي، إنما هي رقصة بين المادة والزمكان نفسه. تتحرك النجوم والكواكب، متسببةً في انحناء المكان في أثَرها، متسبباً "الانحناءُ" في حركة النجوم والكواكب الأخرى، متسببة في انحناء المكان في أثرها. هذه كانت رؤية أينشتاين العظيمة حيث تمثل الثقالة الانحناء في المكان والزمن.

كيف نعلم أنها صحيحة؟

الثقالة تحني الضوء حول جسم هائل الكتلة
الثقالة تحني الضوء حول جسم هائل الكتلة

كيف نعلم أن النسبية العامة صحيحة حقاً؟ وضعت النظرية الجديدة لأينشتاين عدداً من التنبؤات المهمة التي لم تضعها نظرية نيوتن. واحدة من هذه التنبؤات هو أن الضوء ينحني. لنفترض أن ثمة نجمًا مستترًا خلف الشمس، يمكن أن تعتقد أن ضوء النجم لن يستطيع الوصول إلينا ﻷن الشمس تعترض طريقه، ولكن أينشتاين أدرك أن الأمر ليس كذلك؛ فبحسب نظريته، وﻷن هناك انحناء في الفضاء، فليس على الضوء أن يسافر في خط مستقيم، وإنما يمكنه أن ينطلق بزاوية ما، ثم ينحني حول الشمس، ثم يأتي ليصيب أعيننا. وعندما نتتبع شعاع الضوء رجوعاً في خط مستقيم، سنرى النجم موجوداً قليلاً إلى يمين الشمس، أو قليلاً إلى يسارها، بدلاً من خلفها، وعليه نظن أن موقع النجم يختلف قليلاً عن موقعه الفعلي. 

ونظراً ﻷن الشمس ساطعة جداً، لدرجة تمنعنا من رؤية النجوم القريبة منها، فهناك حالة واحدة خاصة جداً يمكننا أن نرى فيها الأثر الذي توقعه أينشتاين: وذلك خلال الكسوف الكليّ للشمس.

 

لقد أجري الاختبار الأول لنظرية أينشتاين خلال كسوف العام 1919، حين غادرت مجموعتان، يقودهما الفلكي البريطاني آرثر إدينغتون، في بعثتين: الأولى إلى الساحل الغربي في أفريقيا، والثانية إلى البرازيل، وانتظروا الكسوف، وهم يتمنون ألا يكون الطقس غائماً، وأخذوا صوراً للنجوم التي خلف الشمس. 


كانت هذه هي الصورةَ التي أخذوها : 

الكسوف الكليّ للشمس
الكسوف الكليّ للشمس


يمكنك رؤية الشمس في المنتصف، يغطيها القمر، والنجوم من حولها. وعندما قاسوا مواقع النجوم، وجدوا أنها انحرفت بنفس المقدار الذي توقعه أينشتاين.

أينشتاين والشهرة


دفعت قياسات الخسوف بأينشتاين إلى النجومية. وكان هذا، جزئيا، بسبب أن الحرب العالمية الأولى كانت قد انتهت لتوها. وهنا توجد قصة عظيمة عن فلكي إنجليزي يؤكد نظرية عالم ألماني. كانت القصة خبراً كبيراً، فقد ملأت الصفحةَ الأولى في صحيفة New York Times يوميا لمدة أسبوع. وكان كل شخص له علاقة بالشهرة، من السياسيين وحتى الممثلين، يُسئلون إذا كانوا يفهمون النظرية النسبية. وأجاب كلُّهم بأن ليست لديهم فكرة عما هي، ولكنهم كانوا أكيدين من أنها مهمة.


صفحة من New York Times
صفحة من New York Times

أحب أينشتاين أغلب هذه الشهرة، كما كان عظيماً بإعطاء الصحافة اقتباسات صغيرة بليغة. كان مظهره أيقونة، كما أن الناس أحبوه، ولكن للشهرة وجهها السيئ أيضاً. فلقد كان أينشتاين يعيش في برلين، وكان يهودياً وقتها؛ وأن تكون مثقفاً يهودياً شهيراً بارزاً في برلين بعد الحرب، فإن هذا ليس أسهل وضع يمكن للمرء أن يكون عليه. فسلامة آينشتاين كانت موضع قلق، في بعض الأحيان، ونصحته الشرطة أن يترك البلدة.

 

كما كان هناك عداء متزايد للسامية في المؤسسة العلمية في ألمانيا، مع انتشار تلك الفكرة المدهشة أن الألمان يجب أن يركزوا على "الفيزياء الألمانية" Deutsche Physic بدلاً من الفيزياء اليهودية، وبالفيزياء اليهودية يعنون النسبية. كما نُظِّمت مؤتمرات ضد النسبية، كانت تمثل معاداة حقيقية للسامية مغلفةً بلغة علمية في إطارٍ محاولة تبيين أن النظرية كانت موضع جدل حيث كان لذلك أثره؛ إذ إنه من السهل على ذوي الأصوات العالية أن يصرخوا عالياً وأن يعكروا صفو مياه العلم.

لقد أثرت معاداة السامية حتى على جائزة نوبل. إذ كان من الواضح أن أينشتاين يجب أن يفوز بها، لكن كان هناك فائز واحد على الأقل بجائزة نوبل لحملة صليبية معادية للسامية. وفي 1921، بدا واضحا أنه إذا لم تمنح الجائزة لأينشتاين، فإنها لن تمنح لأحد. فقررت اللجنة، بشكل لا يصدق، ألا تمنحها ﻷحد. في 1922 -وربما ﻷن المشكلة لم تنتهي- أبصرت اللجنة المنطق، ومنحت آينشتاين جائزة نوبل للعام 1921. لكن اللجنة لم تمنحه الجائزة للنسبية العامة، وإنما لإنجازاته الأخرى، أما أينشتاين، فلم يحضر الحفل.

ميراث أينشتاين


صورة أينشتاين كعالم، وصورة معادلته المشهورة \(E=mc^2\) لمئة سنة تلت، وحتى فكرة أن "كل شيء نسبي" تبقى متجذرةً في الثقافة السائدة. حيث لا يمكن المبالغة في تقدير إرث أينشتاين، في ظل عالم من العلم. فدراسة علم الكون، دراسة الكون ككل، لم تصبح ممكنةً إلا بسبب وجود إطار النسبية العامة. لقد تعلمنا شيئاً استثنائياً، بعد نظرية أينشتاين، وهو أحد الحقائق الأكثر أهمية في العلم: أن الكون لم يكن دوماً كما هو الآن. فقد كان هناك وقت في ما مضى -ويسمى الانفجار الكبير- عندما كان الكون أصغر. 

ولعل أكبر معضلة واجهها أينشتاين هي الثقوب السوداء، التي هي مناطق في الفضاء حيث يكون الانحناء عظيماً لدرجة أن الضوء نفسَه يجري اصطياده، وهي موجودة في كوننا المرئي، فعلى سبيل المثال، نحن نعلم أنه يوجد ثقب أسودُ هائلٌ في مركز مجرتنا، ولكن في الحقيقة، هذه الثقوب السوداء أجسامٌ لا يمكننا فهمها مطلقا.


وبمنطقٍ ما، فإن مساهمة ستيفن هاوكينغ الأكبر في العلم، هي إقناعنا بأن لا أحد منا فهم الثقوب السوداء. حيث قام بتحدي الفيزيائيين لمحاولة تفسيرها، ولكن لم ينجح أحد بشكل كامل. وهكذا، بقيت الثقوب السوداء واحدة من أكبر المشاكل المفتوحة في الفيزياء النظرية.


لقد اجتازت النسبية العامة كل اختبار وضعت فيه حتى الآن، ولكن يبقى هناك تنبؤٌ واحد لم نحصل، بعد، على دليل مباشر له، وهو ما يسمى بالموجات الثقالية. إذا ألقيت حجراً على سطح بركة، فإنك ستحدث بذلك موجات في الماء، وبالمثل، إذا فعلت شيئاً دراماتيكياً في المكان والزمن، فلا بد من أن تتكون موجات في المكان تتحرك بعيداً عن المركز.

 

إن الأحداث الدراماتيكية التي ذكرناها، تحدث طوال الوقت: فهناك نجوم تنفجر في مجرتنا، وهناك ثقوب سوداء تصطدم ببعضها، وهناك نجوم نيوترونية تصطدم. كلٌ من هذه الأحداث يجب أن ينشئ الموجات الثقالية، التي نأمل أن نكشف عن بعضها. وإذا ما مرت الموجات الثقالية الصادرة عن الثقوب السوداء، أو عن النجوم المنفجرة عبر الأرض، فستنكمش الأرض قليلاً ومن ثم تزفر ثانيةً.

 

هناك كثير من التجارب حول العالم صممت لتقيس هذا الأثر، وأفضل ما نملكه في هذا المجال حالياً موجود في الولايات المتحدة في مرصد الامواج الثقالية بالتداخل الليزري. هناك اثنان منهما، واحدٌ في ولاية لويزيانا، والآخر في ولاية واشنطن، وهما مدهشان: بناءان متعامدان، يصل طول كل منهما الى حوالي 2,5 ميلٍ (4 كيلومترات)، تُطلق فيهما حزمٌ ليزرية ذهاباً وإياباً، بحيث يُقاس طول البنائين بدقة تقل كثير عن حجم الذرة. ونتوقع، في السنوات القادمة، أن تنجح هذه التجارب، أو غيرها، في النهاية في رصد الموجات الثقالية، وسيكون هذا انتصاراً عظيماً آخرَ لنظرية أينشتاين.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات