ما هي المواد فائقة الموصلية؟

تملك المواد فائقة الموصلية خواصاً غريبة وغير عادية بما فيها الرفع المغناطيسي.

Credit: Shutterstock 


يمكننا تقسيم المواد إلى فئات على أساس قدرتها على توصيل الكهرباء، فمعادن مثل النحاس والفضة تسمح للالكترونات الحرة أن تنقل الشحنة الكهربية، أما المواد العازلة كالخشب أو المطاط، فتتمسك باستمرار بالالكترونات بشكل محكم، مانعةً تدفق التيار الكهربائي.

طوّر علماء الفيزياء في أوائل القرن العشرين تقنياتٍ مخبرية حديثة لتبريد المواد حتى تصل إلى درجات حرارةٍ قريبة من الصفر المطلق، أي - 273 درجة مئوية، وبدأ البحث في كيفية تغيّر القدرة على نقل الكهرباء عند هذه الظروف المتطرّفة.

لاحظ علماء الفيزياء شيئاً رائعاً لدى بعض العناصر البسيطة، مثل الزئبق والرصاص، فهذه المعادن قادرة على نقل الكهرباء بمقاومة معدومة، عند درجة حرارة أقل من قيمة معينة، وبعد مرور عقود على هذا الاكتشاف، اكتشف العلماء سلوكاً مطابقاً في آلاف المركّبات، انطلاقاً من السيراميك ووصولاً إلى الأنابيب الكربونية النانوية (carbon nanotubes).

لا نصنف المادة بهذه الحالة الآن على أنها معدن أو عازل، بل نضعها في فئة ثالثة غريبة تُسمى بالمواد فائقة الموصلية (superconductor)، التي تنقل الكهرباء بشكلٍ مثالي، مما يعني أن التيار الكهربائي المتدفق في سلكٍ فائق التوصيل سيستمر في تدفقه بعد مليارات السنين في الدوائر الكهربية دون أن يحدث أي تشتتٍ أو ضعف.

الالكترونات في الطريق السريع:


تتصرف الالكترونات على المستوى الميكروسكوبي في المواد فائقة الموصلية بطريقة مختلفة جداً عن تلك الموجودة في المعادن العادية، إذ تنتقل أزواج الالكترونات عبر تلك المواد مع بعضها البعض، الأمر الذي يتيح لها التحرك بسهولةٍ من طرفٍ لآخر، مشابهةً بذلك حركة الركاب المتمتعين بأولوية العبورِ لطريقٍ سريع ومزدحم، أما الالكترونات المنفردة فتبقى عالقةً في الزحام.

وُجدت العديد من التطبيقات للموصلية الفائقة خارج المختبر، بما في ذلك تقنياتٍ مثل التصوير بالرنين المغناطيسي MRI، التي تستخدم المواد فائقة الموصلية في توليد حقل مغناطيسي كبير يمنح الأطباء وسيلة غير باضعة (non-invasive) لتصوير المكوّنات الداخلية لجسم المريض.

ساهمت أيضاً المغانط فائقة الموصلية (superconducting magnets) في جعل اكتشاف بوزون هيغز أمراً ممكناً في سِرن CERN، وذلك من خلال ثنيِّ وتركيزِ أشعة الجسيمات المتصادمة.

 

الحاجة إلى السرعة: تستخدم قطارات ماجليف MagLev في اليابان الموصلية الفائقة للسير بسرعات هائلة، Credit: Shutterstock
الحاجة إلى السرعة: تستخدم قطارات ماجليف MagLev في اليابان الموصلية الفائقة للسير بسرعات هائلة، Credit: Shutterstock

تظهر إحدى خواص المواد فائقة الموصلية، التي قد تكون مفيدة ومثيرة للاهتمام، عند وضعها بالقرب من مغناطيسٍ قوي، حيث يعمل حقله المغناطيسي تلقائياً على تحريضِ تياراتٍ كهربائية على سطح الموصل الفائق، فتظهر حقولٌ مغناطيسية معاكسة تنتج عن تلك التيارات، تتسبب برفع الموصل الفائق فوق المغناطيس، ليبقى معلقاً في الهواء جرّاء وجود قوة مغناطيسية غير مرئية. 

تتمثل إحدى العوائق الكبيرة التي تحدُّ من استخدام المواد فائقة الموصلية على نطاقٍ واسع، في كون هذه المواد قادرةً على العمل عند درجات الحرارة المنخفضة بشكلٍ كبير فقط، حيث تتوقف الموصلية الفائقة لدى العناصر البسيطة عند درجة الحرارة 10 كلفن، أي - 263 درجة مئوية فقط، أما في المركبات الأكثر تعقيداً، مثل YBa2Cu3O7، فقد تستمر الموصلية الفائقة بالظهور عند درجات حرارة تصل إلى 100 كلفن تقريباً، أي حوالي - 173 درجة مئوية. وعلى الرغم من أن هذا الأمر يُعد تحسناً بالمقارنة مع العناصر البسيطة، إلا أن درجات الحرارة المنخفضة هذه لا تزال أكثر برودةً بكثير من برودة ليالي الشتاء في القطب الجنوبي.

يتمنى العلماء العثورَ على مواد تتمتع بخواص الموصلية الفائقة عند درجة حرارة الغرفة، لكنها مهمة صعبة للأسف، إذ تؤدي درجة الحرارة المرتفعة نسبياً إلى تدمير الروابط بين الالكترونات المكوّنة للأزواج فائقة التوصيل، لتعود بذلك المادة إلى حالتها المعدنية. وتنشأ إحدى التحديات الكبرى في هذا المجال، عن حقيقة أننا لم نفهم إلى الآن الكثيرَ عن هذه الروابط بين الالكترونات في الأزواج فائقة التوصيل، إلاّ في حالات قليلة محدودة.

من الذرة الفائقة إلى الموصل الفائق:


اتخذ بحثٌ جديد من جامعة جنوب كاليفورنيا Southern California خطوةً جديدة نحو تحسين فهمنا لكيفية نشأة الموصلية الفائقة، فبدلاً من دراسة الموصلية الفائقة في المواد الكبيرة مثل الأسلاك، تمكن فيتالي كريسين Vitaly Kresin وزملاؤه من العمل على عزل ودراسة كتلِ صغيرة مكونة من بضع عشرات من ذرات الألمنيوم في وقت واحد، حيث تستطيع هذه العناقيد الصغيرة من الذرات التصرفَ كذرةٍ فائقة (superatom)، وتتشارك الالكترونات بطريقةٍ تُحاكي ذرةً وحيدة وعملاقة. 

ما يثير الدهشة هو أن قياسات هذه العناقيد تكشف عما يمكن أن يكون بصمة الاقتران الالكتروني الموجودة على طول الطريق وصولاً إلى 100 كلفن، أي - 173 درجة مئوية، لكن درجة الحرارة هذه ورغم برودتها، فهي لاتزال أعلى بـ 100 مرة من درجة الحرارة اللازمة لظهور الموصلية الفائقة في جزءٍ من سلك الألمنيوم. 

فلماذا تقوم حفنةٌ صغيرة من الذرات بإظهار الموصلية الفائقة عند درجة حرارة عالية نسبياً، بخلاف الملايين من الذرات في جزءٍ صغير من سلك الألمنيوم؟

يملك علماء الفيزياء بعض الأفكار حول هذا السؤال، لكن لم يُستكشف هذا الأثر بشكلٍ عميق بعد، فقد يكون طريقةً مثيرة للاهتمام للسعي قُدماً نحو الحصول على موصلية فائقة عند درجات حرارةٍ مرتفعة نسبياً.

تُستخدم الموصلات الفائقة في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الطبي. Credit: Jan Ainali, CC BY
تُستخدم الموصلات الفائقة في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الطبي. Credit: Jan Ainali, CC BY


هل من الممكن للجميع ركوب ألواح التزلج؟


إذا ما تمكّن الفيزيائيون من تحقيق هدفهم في إظهار موصليةٍ فائقة عند درجة حرارة الغرفة للمواد التي من السهل تشكيلُ أسلاكٍ منها، فإن ذلك سيمنحنا قدرةً للحصول على تقنيات حديثة. وستكون الأجهزة التي تستخدم الكهرباء أكثر كفاءةً بالنسبة للمبتدئين، وذات استهلاكٍ أقلَ للطاقة. 

وسيكون نقل الكهرباء لمسافات طويلة أكثر سهولةً، نظراً لما للأمر من فائدةٍ خاصة لدى تطبيقات الطاقة المتجددة، حيث اقترح البعض صُنع كابلات عملاقة من مواد ذات موصلية فائقة تربط بين أوروبا ومحطات الطاقة الشمسية في شمال أفريقيا.

إن حقيقة كون الموصلات الفائقة قادرة على رفع الأشياء فوق مغناطيس قوي، تخلق إمكانية الحصول على قطارات فائقة السرعة والفعالية، ويُمكنها الطفو على مسارٍ مغناطيسي بشكلٍ مشابه تماماً للوح التزلج (hoverboard) الخاص بمارتي ماكفلاي Marty McFly في فيلم العودة إلى المستقبل Back to the Future، وقد جرّب مهندسون يابانيون ذلك عبر استبدال عجلات القطار بمواد فائقة الموصلية تُحافظ على العربات على بُعد سنتمترات قليلة فوق المسار. تعمل الفكرة من حيث المبدأ، لكنها تُعاني من حاجة القطارات لوجود خزانات مُكلفة ومليئة بالهليوم من أجل الحفاظ على برودة المواد فائقة الموصلية. 

من المحتمل أن تظل العديد من تقنيات المواد فائقة التوصيل على لوحة الرسم، أو مكلفة جداً على أن تُستخدم عملياً ما لم يتم اكتشاف موصلٍ فائق يعمل عند درجة حرارة الغرفة. على أي حال، فقد يُمثل التطور الذي تُحرزه مجموعة كريسن مَعلماً مهماً على طول هذه الرحلة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الأنابيب الكربونية النانوية (carbon nanotubes): هي عبارة عن إسطوانات أنبوبية الشكل من الكربون وتتمتع بخواص كيميائية، وبصرية، وحرارية، وميكانيكية وكهربائية استثنائية، فالأنبوب الكربوني النانوي أقوى من الفولاذ بألفي مرة وأكثر مرونة بخمس مرات.
  • مادة فائقة الموصلية (superconductor): هي مادة قادرة على نقل الإلكترونات أو إيصال الكهرباء دون وجود أي مقاومة.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات