لم يكن يوم الأربعاء الثالث من حزيران/يونيو، يومًا عاديًا بالنسبة لمصادم الهادرون الكبير LHC.
مصادم الهادرونات الكبير LHC هو أكبر مُسرّع للجسيمات، ويقع في نفق تحت منظمة الأبحاث النووية الأوروبية CERN الواقع خارج جينيف مباشرة، وقد أعيد تشغيله في يوم الأربعاء بعد انقطاع لمدة سنتين لإجراء إصلاحات وترقيات، وهو الآن مستعد لدفع فهمنا للكون إلى حدود جديدة.
في حين احتشد زملائي الفيزيائيون في غرف التحكم في انتظار انطلاق الأحداث، كنت أنا في ورشة عمل في فرنسا، لكنني كنت قادراً على متابعة التشغيل عن طريق الإنترنت، وهنا سأسرد كيف سارت الأمور.
-08:09 صباحاً- الحقن: تم تحميل مليارات البروتونات في LHC.
مصادم الهادرونات الكبير هو عبارة عن حلقة يبلغ محيطها تقريباً 28 كم، ويُسرّع هذا المصادم البروتونات إلى سرعة الضوء تقريباً قبل اصطدامها وجهاً لوجه، علماً أنّ البروتونات هي جسيمات توجد في نوى الذرات، ويبلغ حجمها حوالي واحد من ألف مليون-مليون من المتر.
أسهل العناصر التي يمكن أخذ بروتونات منها هو الهيدروجين، فذرّة الهيدروجين هي أبسط ذرة، وهي مكوّنة من إلكترون واحد يدور حول بروتون واحد، ويبدأ LHC بعبوّة من غاز الهيدروجين، ويمررها عبر مجال كهربائي لنزع الإلكترونات، وترك البروتونات وحدها فقط. وتُعتبر المجالات الكهربائية والمغناطيسية أساسية بالنسبة لمسرّع الجسيمات؛ لأن البروتونات مشحونة بشحنة موجبة، ومن ثَمّ تتسارع عندما تكون في مجال كهربائي، وينحني مسارها إلى مسار دائري عندما تكون في مجال مغناطيسي.
-09:45 صباحاً- منحدر: بمجرد أن يتم تحميل LHC تماماً، تتسارع حزمتا البروتون ببطء حتى تصل إلى طاقة الاصطدام، والرقم القياسي العالمي لها الآن هو 6.5 تيرا إلكترون فولت للحزمة لواحدة.
تعتمد عملية تسريع ملايين البروتونات إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء، وتوجيهها خلال مسارها الكامل عبر LHC، وإجراء تصادمات بينها، على توازن دقيق تقوم به معدات ذات جهد عالٍ ومغانط عملاقة، إنه إنجاز تقني مدهش، وفي الواقع فإن أحد التطبيقات الرئيسية لأبحاث فيزياء الجسيمات هي التطبيقات الصناعية للتكنولوجيا التي يتم تطويرها أثناء العمل، انطلاقاً من علاج السرطان باستخدام البروتونات ووصولاً إلى شبكة الإنترنت العالمية.
لكن بالنسبة لي، تكمن الإثارة في الجانب العلمي؛ لأن LHC يستكشف العالم عند أصغر المقاييس، فكل ما تعلمناه حتى الآن تمت صياغته في النموذج القياسي (Standard Model) وهي نظرية تصف الكون بأنه يتألف من جسيمات صغيرة، ويعطي قواعد عن كيفية تصرف هذه الجسيمات؛ وعن طريق صدم بعض من هذه الجسيمات معاً عند طاقة عالية نصبح قادرين على اختبار هذه القواعد، والعثور على المزيد من الاكتشافات الجديدة.
قدم التشغيل الأول لـ LHC، الذي امتد من عام 2010 إلى عام 2013، بيانات كافية لاختبار النموذج القياسي عند درجات أعلى من الدقة، وتم أيضا خلاله اكتشاف بوزون هيغز (Higgs boson) الذي تم التنبؤ بوجوده في ستينات القرن الماضي، ولهذا الجسيم دور مركزي في النموذج القياسي، لكن هذا التنبؤ كان قبل 50 عاماً من امتلاكنا لآلة قوية بما يكفي لاكتشافه، فإلى جانب الطاقة العالية احتاج الأمر إلى بيانات كثيرة؛ لأنّ بوزون هيغز شيء نادر، إذ إنّ أقل من واحد في المليار من التصادمات الحاصلة في LHC تُنتج جسيمًا واحدًا منه.
-10:12 صباحاً- إشارة مسطّحة: مستويات طاقة الأشعة تستقر بعدَ الوصول إلى الهدف.
في يوم الأربعاء كان فريق CERN يختبر لحظات حرجة، حيث كان LHC يعمل عند أعلى طاقة تم تحقيقها في مسرّع جسيمات. وفي "التشغيل الثاني" لـ LHC ستتصادم الجسيمات عند طاقات أعلى بـ 60% من تلك التي جرت في التشغيل الأول، وذلك عن طريق دفع المغانط والمسرعات إلى أقصى حدودها، ونحن نأمل أن تسمح لنا هذه التحسينات بحل بعض الأسئلة الكبيرة في فيزياء الجسيمات.
ومن بين المواضيع الرئيسية هناك المادة المظلمة (dark matter)، التي يبدو أنها تنتشر خلال الكون بأكمله، ونأمل مع التشغيل الثاني لـ LHC أن نقوم بانتاج هذه المادة في المختبر لأوّل مرة، لكن إذا كان بوزون هيغز نادراً فإن المادة المظلمة أكثر ندرة، وعلينا أن نبحث خلال العديد من التصادمات قبل أن نأمل بالعثور عليها.
-10:17صباحا- الضغط: ضُبطت الأشعة بدقة، وتم تركيزها على أربع نقاط حول LHC حيث ستعبر، وستقوم التجربة بتسجيل التصادمات.
اقتربنا من الوصول، وتحتاج التجارب الآن إلى انتظار إشارة الانتهاء قبل أن تتمكن من البدء بالتسجيل، ونبدأ نحن بدراسة أشياء لم نشاهدها من قبل. مع ذلك، لن تكون الكثير من التصادمات مثيرة للاهتمام، حيث ستتحطم خلالها البروتونات دون حدوث أي نتيجة مثيرة.
ولجعل الأمور أسوأ، تميل الجسيمات النادرة الجديدة التي نبحث عنها إلى أن تكون غير مستقرة، وتتلاشى بسرعة قبل التمكن من رؤيتها مباشرة. وبالتالي فإن مهمة التجارب هي قياس الجسيمات التي تنتج من التصادمات وتحاول إعادة بناء ما جرى، والبحث عن دليل على حدوث شيء غير اعتيادي.
إلى جانب المادة المظلمة، هناك العديد من الأفكار الأخرى التي تحتاج إلى اختبار، مثل التناظر الفائق (supersymmetry)، والبوزونات القياسية الجديدة (new gauge bosons)، والثقوب السوداء الكمومية (quantum black holes)، والنيوترينوهات الثقيلة (heavy neutrinos)، التي يمكن إعادة انتاجها جميعها من تصادمات LHC، والجزء المفرح والمؤلم من العلم هو أن الاكتشافات الجديدة قد تظهر خلال أيام أو سنوات.
-10:43صباحا- أشعة مستقرّة: يعمل LHC الآن بسلاسة، والأشعة تتصرّفُ كما هو متوقع، وبإمكان التجارب أن تبدأ بتسجيل البيانات
التشغيل الثاني قد بدأ! والشمبانيا تتدفق في CERN، وينتقل الانتباه الآن نحو تحليل البيانات الجديدة. و الآن، حان وقت العودة إلى العمل بالنسبة لنا.