كيف يعمل مصادم الهادرونات الكبير: الجزء الأول

تتوضع على عمق مئة متر تحت الأرض (328 قدم) أسفل الحدود بين فرنسا وسويسرا آلة دائرية قد تكشف لنا أسرار الكون، أو -وفقا لبعض الناس- قد تدمر كامل الحياة على الأرض بدلا من ذلك! لكنها بشكلٍ أو بآخر الآلة الأكبر في العالم، وسوف تختبر أصغر جسيمات الكون: إنها مصادم الهادرونات الكبير (Large Hadron Collider)، واختصارا LHC. 

يعد مصادم الهادرونات الكبير جزءاً من مشروع تديره المنظمة الأوربية للأبحاث النووية المعروفة أيضا بسيرن CERN؛ حيث ينضم هذا المصادم إلى مجمع المنشآت التابعة لمختبرات سيرن قرب جنيف في سويسرا، وحالما يتم تشغيله سيدفع هذا المصادم حزماً من البروتونات والأيونات بسرعة تقارب سرعة الضوء، مسبباً تصادم هذه الحزم مع بعضها البعض، ومن ثم يسجل الأحداث الناتجة عن التصادم، ويأمل العلماء أن هذه الأحداث ستخبرنا بالمزيد عن كيفية نشأة الكون ومما هو مكون.

 

مهندسون يركبون مغناطيسا عملاقا داخل مصادم الهادرونات الكبير، وهو مسرع جسيمات ضخم.   حقوق الصورة : Fabrice, Coffrini/AFP/Getty Images .
مهندسون يركبون مغناطيسا عملاقا داخل مصادم الهادرونات الكبير، وهو مسرع جسيمات ضخم. حقوق الصورة : Fabrice, Coffrini/AFP/Getty Images .

 

كما يعد مصادم الهادرونات الكبير أكثر مسرعات الجسيمات طموحاً وقدرة بني حتى وقتنا الحالي، ويضم آلاف العلماء من مئات البلدان يعملون معا -ويتنافسون مع بعضهم أيضا- لتحقيق اكتشافات جديدة، كما يضم على طول محيطه الدائري ستة مواقع تجمع البيانات من تجارب متنوعة قد تتداخل مع بعضها أحياناً؛ وسيحاول هؤلاء العلماء أن يكونوا أول من يكشف عن معلومات جديدة هامة.

 

أما الهدف من مصادم الهادرونات الكبير فهو زيادة معرفتنا عن الكون؛ وإن كانت الاكتشافات التي يقوم بها العلماء فيه يمكن أن تقود إلى تطبيقات عملية في وقت ما من المستقبل، فليس هذا هو السبب الذي دفع مئات العلماء والمهندسين لبناء مصادم الهادرونات الكبير. إنها آلة بنيت لتوسع إدراكنا، وباعتبار هذا المصادم يكلف مليارات الدولارات ويتطلب التعاون بين دول عديدة، فمن المؤكد أن غياب التطبيقات العملية سيكون غريبا.

ما الذي يبحث عنه مصادم الهادرونات الكبير ؟


عملية بناء مصادم الهادرونات الكبير . حقوق الصورة : Fabrice/Coffini/AFB/Getty Images
عملية بناء مصادم الهادرونات الكبير . حقوق الصورة : Fabrice/Coffini/AFB/Getty Images


في محاولة لفهم كوننا، كيف يعمل وما هي بنيته الحقيقية، طرح العلماء نظرية تدعى "النموذج القياسي" Standard Model. وتحاول هذه النظرية تحديد وتفسير الجسيمات الأولية التي تجعل الكون على ما هو عليه، حيث تجمع عناصراً من نظرية النسبية لانشتاين مع أخرى من نظرية الكم، وتتعامل أيضا مع ثلاث من الأربع قوى الأساسية في الكون وهي : القوة النووية الشديدة (strong nuclear force) والقوة النووية الضعيفة (weak nuclear force) والقوة الكهرومغناطيسية (electromagnetic force)، لكنها لا تتعامل مع تأثيرات الجاذبية وهي القوة الأساسية الرابعة.

 

كما تطرح نظرية النموذج القياسي عدة تنبؤات عن الكون يبدو العديد منها صحيحاً وفقا للتجارب المتنوعة، لكن جوانب أخرى لهذا النموذج بقيت دون إثبات، وأحدها جسيم فرضي يدعى بوزون هيغز [1] (Higgs Boson Particle) . وقد يجيب بوزون هيغز عن تساؤلات حول الكتلة، أي لماذا تملك المادة كتلة.

 

حدد العلماء جسيمات لا تملك كتلة كالنيوترينات (Neutrinos)؛ لماذا يجب على نوع ما من الجسيمات أن يمتلك كتلة وآخر أن يفتقدها؟ طرح العلماء عدة أفكار تفسر وجود الكتلة، وأبسطها آلية بوزون هيغز؛ حيث تقول هذه النظرية أنه من الممكن أن يوجد جسيم وقوة وسيطة موافقة يمكنها أن تفسر لما تمتلك بعض الجسيمات كتلة.
 
 
هذا الجسيم الفرضي لم يتم رصده (رُصد في الواقع في تاريخ لاحق لهذا المقال: ناسا بالعربي) بعد وقد لايكون موجودا حتى، لكن يأمل بعض العلماء بأن الأحداث التي سيخلقها مصادم الهادرونات الكبير ستكشف عن دليل لوجود جسيم بوزون هيغز، ويأمل آخرون أن هذه الأحداث ستلمح لنا عن معلومات جديدة لم نفكر بها حتى.
 
 
أما عن السؤال الآخر لدى العلماء عن المادة فيتعلق بالشروط المبكرة في الكون: خلال اللحظات الأولى من عمر الكون كانت المادة والطاقة مندمجتين، وحالما انفصلتا أفنت جسيمات المادة والمادة المضادة بعضهما البعض ! وفعلا لو وجدت كميتين متساويتين من المادة والمادة المضادة، لكان نوعي الجسيمات هذه قد أفنت بعضها البعض تماما، لكن لحسن حظنا كانت كمية المادة أكثر بقليل من المادة المضادة في الكون.
 
 
ويأمل العلماء أن يتمكنوا من رصد المادة المضادة (antimatter) خلال تجارب مصادم الهادرونات الكبير، فهذا يمكن أن يساعدنا في فهم سبب وجود فرق صغير في كمية المادة مقابل المادة المضادة عندما بدأ الكون.
 
وقد تلعب المادة المضادة أيضا دوراً هاماً في أبحاث مصادم الهادرونات الكبير، ففهمنا الحالي للكون يشير إلى أن المادة التي يمكن رصدها مسؤولة عما يقارب 4% فقط من كل المادة التي يجب أن توجد،  وإن نظرنا إلى حركة المجرات والأجرام السماوية يمكننا أن ندرك أن حركاتها تشير إلى أن هناك المزيد من المادة في الكون أكثر من التي نستطيع رصدها، وقد سمى العلماء هذه المادة التي لا يمكن رصدها بالمادة المظلمة (Dark Matter)، ورغم هذا فالمادة القابلة للرصد والمادة المظلمة مسؤولتان فقط عن حوالي 25% من الكون أي ربعه، أما الثلاث أرباع الأخرى يعتقد أنها تأتي من قوة تدعى الطاقة المظلمة (Dark Energy) وهي طاقة مفترضة تسهم بتوسع الكون. يأمل العلماء أن تقدم تجاربهم واحداً من اثنين: إما دليلاً إضافيا عن وجود المادة المظلمة والطاقة المظلمة، أو دليلاً يمكنه أن يدعم نظرية بديلة.


رغم ذلك، هذا غيض من فيض فيزياء الجسيمات، وهناك أشياء أخرى غريبة وتتحدى البديهة يمكن أن يكشف عنها مصادم الهادرونات الكبير. مثل ماذا؟ اكتشف ذلك في الجزء الثاني.


ملاحظات


[1] في الحقيقة تم اكتشاف بوزون هيغز.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.
  • الطاقة المظلمة (Dark Energy): هي نوع غير معروف من الطاقة، ويُعتقد بأنه المسؤول عن تسارع التوسع الكوني.
  • المادة المضادة (antimatter): تتميز المادة المضادة عن المادة بامتلاكها لشحنة معاكسة، فمثلاً: يمتلك البوزيترون (الالكترون المضاد) شحنة معاكسة للالكترون ويُماثله فيما تبقى. وكان العالم بول ديراك أول من اقترح وجودها في العام 1928 وحصل جراء ذلك على جائزة نوبر للفيزياء في العام 1933، أما الفيزيائي الأمريكي كارل اندرسون فكان أول من اكتشف البوزيترون في العام 1932 وحصل على جائزة نوبل في العام 1936 عن ذلك الاكتشاف. يُمكن رصد البوزيترون في تفكك بيتا لنظير الأكسجين 18O2. لكن في وقتٍ سابق لاندرسون، رصد العالم السوفيتي (Dimitri Skobeltsyn) وجود جسيمات لها كتلة الكترونات ولكن تنحرف في اتجاه معاكس لها بوجود حقل مغناطيسي أثناء عبور الأشعة الكونية في حجرة ويلسن الضبابية وحصل ذلك في العام 1929، وقام طالب معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا شونغ شاو برصد الظاهرة نفسها في نفس العام، لكنهما تجاهلا الأمر، اما اندرسون فلم يفعل ذلك. تعمل تجربة ALPHA التابعة لمنظمة الأبحاث النووية الأوروبية على احتجاز ذرات الهيدروجين المضاد وهي ذرة المادة المضادة الأبسط. المصدر: ناسا وسيرن والجمعية الفيزيائية الأمريكية.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات