هذه المقالة جزء من مشروعنا "معلومات عن المعلومات"، الذي يدار بالتعاون مع FQXi.
إننا نعيش العصر الذهبي للمعلومات. إذ لم يسبق قط أن توافر هذا القدر الكبير منها بهذه السهولة لهذا العدد الكبير منا. المعلومات قوة، فهي المال، وهي تعريفٌ لجزء من واقعنا، بالنظر إلى الكم الذي نقضيه من حياتنا على الانترنت.
ولكن، ما هي المعلومات بالضبط؟ نحن نميل إلى التفكير بها وكأنها شيء يسكن رؤوسنا: كثير من الحقائق والأفكار التي تساعدنا في العثور على طريقنا في العالم. وبالفعل، فإننا، وغيرنا من الحيوانات، قد طورنا أعضاءً معقدة للغاية لجمعها. وليس هناك من شك في أن المعلومات مهمة.
كما يبدو من الواضح أيضا، أن المعلومات ليست كياناً مادياً. حيث أن "واحداً من اكتشافاتنا الكبرى في العقود الأخيرة، هو أن الكتاب ليس حقا أشياءً مكتوبة على صفحة "، كما يوضح جورج إليس George Ellis، وهو عالم الكونيات والرياضيات الذي أعمل فكره كثيراً بالمعلومات. إذ "من الممكن للكتاب أن [يُطبع على الورق]، ولكنني أستطيع أيضا أن أقرأ لك الكتاب، أو بوسعك أن تشتريه في صيغة رقمية. والسؤال هو: ما هو الكتاب؟ إنه ليس أي من تلك الأشياء. فالكتاب هو شيءٌ مجردٌ يتحقق في أشكال مختلفة. إذ من الممكن أن يتحقق في صورة [رموزٍ] على الشاشة، من الممكن تخزينها على ذاكرة جهاز الكمبيوتر، ومن الممكن طباعتها على الورق، وهلم جرا. إلا أن النقطة الأساسية هي أن المعلومات ذاتها، المعلومات الواردة في الكتاب، مجردة ".
القوة المستمدة من المعنى
وعلى الرغم من خاصية التجريد هذه، فليس هناك من شك في أن المعلومات "حقيقيةٌ" بقدر ما الصفحات التي تطبع عليها حقيقية. إذ يمكن للمعلومات أن تُحدث تغييرا في العالم. وأن تتسبب بالحروب أو أن تمنعها، وأن تدفع بالاقتصاد العالمي إلى الانهيار، وأن تساعدك على اتخاذ قرار بشأن الوجهة التي ستقضي عطلتك فيها. إن كثيرٌ مما نفعل، مدفوعٌ بحصولنا على شكل ما من أشكال المعلومات.
كيف يمكن لشيء على هذا القدر من الالتباس والتجريد، أن يكون على هذا القدر من القوة؟ من الواضح أن قوة المعلومات ليست متأصلة في الكلمات والرموز التي تُنقل من خلالها. فالكلمة الصغيرة "نعم" يمكن أن تعني "نعم، أريد فنجانا من القهوة" أو "نعم، لدى العراق أسلحة دمار شامل". ويمكن لنطاق آثار هذه الكلمة على الواقع أن يتراوح بين لا شيء على الاطلاق والحرب. كل شيء يعتمد على السياق والتفسير –يعتمد الأمر على المعنى.
عادة ما نفكر بالمعلومات كشيء يُمررُ بين الناس، من خلال الكتب أو وسائل الإعلام أو المحادثات الشخصية. وهذا النوع من الرسائل يُرتبُ بوعي من قبل شخص بقصد ما، وبعض معناها يُستمد من هذا القصد. ولكننا نتعرض أيضا لقصف مستمر بمعلومات عارضة وغير مقصودة. على سبيل المثال، صوت إغلاق باب سيارة، أو صوت سقوط صخرة في الجبال. هذه المعلومات "المحايدة" هي نتائج ثانوية للعمليات الفيزيائية التي تحدث من حولنا، والتي طورنا قدرة مثيرة للإعجاب على تجاهلها. إذ تخيل الفوضى التي ستحدث لو عالج دماغك كل ما تسمع أو ترى أو تحس أو تشم على نفس القدر من الأهمية. إن الدماغ الواعي يتجاهل تقريبا كل هذه البيانات الواردة ولا يعير الانتباه إلا لما له اعتبار فقط. ولكن، مرة أخرى، يمكن لهذه المعلومات أن تكتسب المعنى من سياقها: إذا كان صوت سقوط الصخرة مؤشراً على انهيار جليدي، فإنك ستفر عدواً.
إلا أن المعلومات المحايدة تخزن قوة هائلة، وهذا ليس فقط من حيث الحفاظ على البقاء لحظيا. وبما أنها تنتج عن العمليات الفيزيائية (سقوط الصخرة بفعل الجاذبية)، فستؤدي نظرة فاحصة عليها إلى الكشف عن طبيعتها الضمنية. هذا هو شأن العلم: تحليل المعلومات العرضية التي يقدمها لنا العالم، لكي نفهمه على نحو أفضل. إذ أنها، في نهاية المطاف، هي مصدر كل ما نعرفه عن العالم.
المعلومات غير البشرية
يبدو أن هذا كله يشير إلى أن المعلومات يمكن أن تكون لها عواقب في الواقع، فقط إذا قام شخص، أو حيوان على درجة معقولة من الذكاء، بتفسيرها واتخاذ إجراء ما للاستجابة لها. إلا أن البيولوجيا تعلمنا أن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. إن قاعدة البيانات الأكثر أهمية ليست مصممة ولا متحكم بها ولا يفسرها البشر: إنها المعلومات المخزنة في أحماضنا النووية، والتي تحدد أي نوع من الأشخاص نحن. "المعلومات ذات مركزية مطلقة بالنسبة للبيولوجيا"، وفقا لإليس. "ومن الواضح أنها فعالة، لأننا ما كنا لنصير على الشكل الذي نحن عليه، لو لم تكن هذه المعلومات مخزنة".
تعد الخلايا الجذعية مثالا عظيما على قوة المعلومات، حتى في حالة عدم وجود كائنات ذكية. إذ أن "كل الخلايا في أجسامنا تبدأ متطابقة"، كما يوضح إليس. ويضيف، أن "المعلومات الموضعية تتأثر بالإشارات الكيميائية، التي توجه الخلية إلى موضعها بالجسم وما يجب أن تصير عليه. هذه، الآن، معلومات ذات معنى بيولوجياً. ومن الصعب عدم استخدام كلمة "مقصودة". فهذه المعلومات "مقصودة" لإبلاغ الخلية بأنها ستصبح قليلا من الشعر، وتلك ستصبح قليلا من العين، والأخرى ستصبح قليلا من العظام، وهلم جرا. المعلومات تُقرأ وتُفسر، ثم تُنقل إلى الخلايا لتخبرها بما ستصير عليه".
من أين تأتي هذه القصدية؟ من الذكاء أن نبحث عن الإجابة في عمليات التكيف في العالم المادي، الذي يدخر ويخزين المعلومات المناسبة لتعزيز فرص البقاء في سياقات بيولوجية وإيكولوجية محددة. ومثله مثل أي شيء آخر في العالم، يتألف الحمض النووي من الجزيئات، التي تتألف من الذرات، التي تتألف من الجسيمات الأساسية للطبيعة: الإلكترونات والكواركات، وما إلى ذلك. وتشكل العمليات التي تحدث عند أصغر المقاييس الفيزيائية أساس العمليات الكيميائية والبيولوجية، بما فيها تلك التي تتعلق بالحمض النووي والمعلومات التي ينقلها. والسؤال الكبير هو: "كيف"؟ إذ أن "هناك فجوة كبيرة بين المعلومات [من مثل تلك المخزنة في الحمض النووي] والفيزياء، ولكن الفيزياء تشكل أساس الفاعلية السببية لتلك المعلومات"، حسب تعبير إليس. لذا، فإن "أحد الأسئلة المثيرة للاهتمام حقا هو، ما هي الطريقة التي تشكل من خلالها العلميات الفيزيائية أساس معالجة المعلومات في المسارات السياقية الضرورية للبيولوجيا؟
تُعد أجهزة الكمبيوتر مثالاً جيداً للدراسة. فهي المعالجات القصوى للمعلومات. إننا نتفاعل مع هذه الأجهزة من خلال التطبيقات سهلة الفهم، مثل المتصفحات ومعالجات النصوص. وعلى مستوى الجهاز، تُمثلُ كل المعلومات التي تخزنها وتعالجها بـأصفار (0s) وواحدات (1s). وعلى المستوى الأدنى من هذا كله يتم التطبيق بواسطة التيارات الكهربائية. في هذه الحالة، نحن نفهم كيف تسمح الفيزياء الأساسية، التي تنطوي على الإلكترونات والفوتونات وما شابهها، للمعلومات بالقيام بعملها. كما أننا نفهم كيف تحول المُجمِعات والمترجمات أنماط المعلومات المتشابهة بين مستويات التنفيذ المختلفة في الكمبيوتر. وبالمثل، نستطيع أن نأمل في فهم كيف تجعل الفيزياء الأساسية تحويل المعلومات واستخدامها ممكناً في سياقات أخرى أيضا.
المصفوفة
إلا أن هناك احتمال آخر يبدو أكثر راديكالية: أن المعلومات ليست مجرد جزء من الواقع، بل إنها تحدد الواقع. ومرة أخرى، تقدم أجهزة الكمبيوتر مقارنةً عظيمةً لفهم هذه الفكرة. تخيل عالماً خلقته لعبة الكمبيوتر المفضلة لديك. إن ما يحدد هذا العالم، ليس الجسيمات التي تشكل الشاشة، ولا حتى الجسيمات التي تشكل دوائر الكمبيوتر الإلكترونية. بل إن ما يحدده هو البرنامج الذي يُشغّله. وبرنامج الكمبيوتر، سواء كان ممثلاً في لغة البرمجة أو في سلسلة من الأصفار والواحدات، هو معلومات. ولعل ما يجري في العالم الذي نحيا فيه كان شيئا من هذا القبيل. ربما كان من المضلل شيئاً ما القول بأن الواقع مبني من الجسيمات الأساسية، حيث أن المهم هو القواعد التي تحدد كيفية تواؤمها وتفاعلها معاً. إن المهم حقا هو المعلومات.
لقد التقطت جملة عالم الفيزياء الشهير جون أرشيبالد ويلر John Archibald Wheeler "الشيء من البت" ("it from bit") فكرة أن المعلومات هي حقا ما يصنع العالم. ويوضح ويلر أنه "قد لا تكون المعلومات هي ما "نعرفه" عن العالم فقط. بل ربما كانت ما "يصنع" العالم".
إنه لأمرٌ يُعملُ الفكر، ولكن المؤكد هو أن التفكير من حيث المعلومات قد ثبتت فائدته الجمة في الفيزياء. على سبيل المثال، لقد كان القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي يقول بأن الحرارة تتدفق بشكل طبيعي من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة، موضع حيرة علماء الفيزياء لمدة طويلة، لأنه ليس في قوانين الفيزياء ما يمنع الجزيئات "الساخنة" و"الباردة" من التحرك في الاتجاه المعاكس. وفي نهاية الأمر، كان التفسير القائم على المعلومات هو ما أوضح هذا قانون. وبالمثل، فإن الثقوب السوداء، التي تبلغ شدة سحبها الثقالي قدراً لا يستطيع معه حتى الضوء الإفلات من جوارها، من الممكن فهمها على نحو أفضل إذا ما فكرت بها كأشياء تبتلع المعلومات، بدلا من أشياء تبتلع المادة.
هناك أمرٌ واحدٌ مؤكد: المعلومات شيء مثير للاهتمام يطرحُ كثيراً من الأسئلة المستفزة. وبالتعاون مع معهد الأسئلة التأسيسية (Foundational Questions Institute)، نود التصدي لهذا التحدي. وسيعمل مشروعنا "معلومات عن المعلومات" على أن يقدم لكم مقالات تبحث في وتجيب عن بعض من هذه الأسئلة، استنادا إلى مقابلات مع كبار الخبراء.
عن المؤلف
ماري آن فرايبيرغر، محررة مجلة Plus.