حيَوات هيو إيفيرت الثالث المتعددة


غرامي ستيمب-مورلوك Graeme Stemp-Morlock
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى على الموقع الإلكتروني لمجموعة FQXi، الذي يقدم للفيزياء وعلم الكونيات ما تقدمه مجلة Plus للرياضيات: تزويد الجمهور بفهم أعمق للاكتشافات العلمية، المعروفة منها والمستقبلية، في هذه المجالات العلمية، وآثارها المحتملة على نظرتنا للعالم. وFQXi هم شركاؤنا في مشروعنا "الخيال العلمي والحقيقة العلمية"، الذي طلب منكم ترشيح الأسئلة من جَبهات الفيزياء، التي ترغبون في الحصول على إجابة عنها. وستتناول هذه المقالة سؤال: "هل هناك أكوان متوازية؟".
انقر هنا للاطلاع على المواد الأخرى التي تتعلق بهذا الموضوع، وهنا للاستماع إلى البودكاست المرافق على موقع FQXi.



إنه لذو عقل جميل بالتأكيد. فلقد توصل هذا الرياضي ذو الموهبة الاستثنائية، والذي تخرج من جامعة برينستون، إلى استبصارات رئيسية في نظرية اللعب، إلا أنه كان طوال حياته مسكوناً بشياطينه الشخصية. ولكن هذه ليست قصة جون ناش John Nash، بما فيها جائزة نوبل والسيرة الذاتية الأكثر مبيعاً والفيلم الذي حاز جائزة الأوسكار. إنها القصة الآسرة، بالمثل، لهيو إيفريت الثالث Hugh Everett III، الرجل الذي اقترح نظرية الأكوان المتعددة لميكانيكا الكم.

لم يُجسد رسل كرو Russell Crowe شخصية إيفريت في فيلمه الهوليوودي الكبير (بعد). ولكن قصة عالم الفيزياء العبقري هذا ستروى، أخيراً، بفضل بيتر بايرن Peter Byrne، مراسل التحقيقات الصحفية في كاليفورنيا، الممول بمنحة تبلغ 35 ألف دولار، من FQXi.
إن ثيمة بايرن المعتادة هي "انتهاكات الشركات والحكومات للقانون"، وهو موضوع بعيد كل البعد عن فيزياء الكم والعوالم المتوازية. ولكن، في العام 2000، قام صديق بايرن، وهو ستيفن شينكير Stephen Shenker، عالم الفيزياء لدى جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا، بتعريفه بما يسميه "الفيزياء الغرائبية". وبعد أن كتب عدداً من المقالات في الفيزياء للعامة، أخذ بايرن يبحث عن قصة جيدة أخرى. وهل هناك ما هو أفضل من الرجل الذي اخترع نظرية الأكوان المتعددة؟
تناول المراسل المتمرس القصة مثل أي من مهمات التحقيق الأخرى. وكان "مُخبِرَهُ" الأول روسيٌ صاحب مطبعة مختصة بطباعة كتب الفيزياء المرجعية، هو يوجين تشيكوفيتسف Eugene Shikhovtsev، الذي كتب سيرة إيفريت على الإنترنت. لقد فٌتن بايرن بالبطل الرئيسي إيفريت، مدمن الكحول الذي يعاني الاكتئاب، والذي مات قبل أن يرى فكرته -التي رُفضت في البدء على أنها بلا معنى- تكسب الاحترام الذي تستحقه. ومع تقدم بايرن في تحقيقه، أخذت تتجلى لديه صورة لشخص مضطرب جداً وذو مواهب هائلة.

بيتر بايرن.
بيتر بايرن.

مولد فكرة



كانت حياة إيفريت الأسرية المبكرة مفككة للغاية. إذ كان والده العسكري ووالدته الفنانة قد انفصلا في زمن كان ما زال عليك فيه السفر إلى المكسيك للحصول على الطلاق. ولم يتصالح إيفريت حقاً أبداً مع والدته، التي كانت تعاني هي أيضاً من الاكتئاب، لكنه كان متيماً بوالده. أما على الجانب الأكاديمي، فقد كان إيرفيت متميزاً دائماً. وفي السنة الأولى له بكلية الدراسات العليا لدى جامعة برينستون، رافق كثيراً من المنظرين الرواد لنظرية اللعب، وكتب بحثاً لا زال يعد مرجعاً تقليدياً في هذا الحقل.

وفي السنة الثانية، استمال جون ويلر John Wheeler الموقر، وهو مساهمٌ أساسيٌ في مجالي ميكانيكا الكمّ والنسبية العامة، ليشرف على أطروحته. وقد كانت النظرية الثورية والخالدة عن العوالم المتعددة مُتضمَنة في أطروحة إفيريت للدكتوراة هذه. اكتشف بايرن موادّ جديدة عن النظرية، عندما التقى مع ابن إيفريت الوحيد، مارك، الذي يقود الفرق الموسيقية Eels. إذ كان مارك يحتفظ في قبو منزله بصناديق مكدسة فوق بعضها تحتوي ممتلكات والده ووثائقه.

يقول بايرن: "لقد كان الطابق السفلي حلم كاتب السيرة الذاتية في العثور على مواد لم تُمس مثل هذه". ويضيف: "لقد وجدت مشروع الأطروحة الأصلية بخط اليد. كما وجدت ثلاثة أبحاث قصيرة عن بعض العناصر المعينة في نظريته، والتي ألقَت بشيء من الضوء على تفكيره الحقيقي. لقد جدَدَتْ بالفعل كثيراً من النقاش حول ما كان يعنيه إيفريت حقاً".

هيو إيفريت في العام 1964. مصدر الصورة: مارك إيفريت.
هيو إيفريت في العام 1964. مصدر الصورة: مارك إيفريت.

كان إيفريت يبحث في أحجية القياس الأساسية في ميكانيكا الكمّ. وفي عشرينيات القرن الماضي، اجتمع بعض الآباء المؤسسين لنظرية الكم في كوبنهاغن، وحسموا ما صار التفسير المعياري للنظرية: لا توجد الجسيمات الكمومية في حالة مفردة، قبل رصدها، ولكنها تُوصفُ بدالة موجية (wave function) تتضمن تراكباً (superposition) لحالات عدة، ممثلة بقطة شرودنغر الحية الميتة في آن معاً داخل الصندوق. إلا أن الدالة الموجية، عند إجراء القياس، "تنهار"، ليستقر الجسيم الكمومي على حالة المجموعة المفردة.

إلا أن إيفريت لم يَقنعَ بهذه الصورة. وقد تساءل، جوهرياً، لماذا يجب على الدالة الموجية أن تنهار فقط لأن مراقباً تفاعل معها. وجادل بأنك لست بحاجة لانهيار، إذا ما اشتبك المراقب مع الجسيم المتراكب. بدلاً عن ذلك، ونظراً للارتباط التبادلي بين المراقب والجسيم، فإن المراقب ينقسم إلى نسخ عدة. وسيُشبعُ كل خيارٍ كمومي -القطة ستحيا وتموت- ولكن في عالمين متوازيين.
أثارت الفكرة إعجاب ويلر وعرضها على نيلز بور Niels Bohr، ذو الثقل في مجال الكم، والذي كان مسؤولاً إلى حد كبير عن تفسير كوبنهاغن. إلا أن بور رفضها. نتيجة لذلك، حُذف من الأطروحة ما يقارب ثلاثة أرباعها، وأعيدت صياغتها للحد من تعارضها مع رأي بور. وعندما نشرت في العام 1957، لم تستقطب استجابة فورية تُذكر.

إنقاذ العـوالم



تكدر إيفريت من رفض بور، لكنه لم يكن ينوي البقاء في الأوساط الأكاديمية. إذ أنه حصل، قبل نشر أطروحته، على وظيفة لدى مركز أبحاث تابع للبنتاغون يبحث في كيف تُشن الحروب النووية. واكتشف هناك أن الغبار الذري المتساقط (الهَيَال) (radioactive fallout) سيكون أكثر سوءً مما خطر على بال أحد سابقاً. كما عمل على تحسين "التكلفة والعائد" لكل من الأسلحة النووية الهجومية والأنظمة الدفاعية. بالإضافة إلى أنه كتب جزءً كبيراً من البرمجة الأصيلة للبرنامج التشغيلي المتكامل المفرد الأول، الذي يُعتبر القائمة فائقة السرية لمستهدفات القنبلة الهيدروجينية.

يقول بايرن: "لقد حقّ لإيفريت نفسه أن يكون الدكتور سترينجغلوف". (Dr. Strangelove هي شخصية من فيلم كوميديا سوداء أمريكي، تُمثل قائد سلاح جو أمريكي أصدر أمراً بإطلاق أول قنبلة نووية على الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة -المترجمة) ويضيف بيرن: "لقد كان الخبير الفني الأمثل للحرب الباردة. إن لدينا هنا رجلاً يصمم بالفعل سيناريوهات متعددة للحرب العالمية الثالثة، وهو يؤمن بأن هناك أكوانٌ متعددة توضع فيها تصاميمه موضع التنفيذ، ولكنه قام بذلك على أي حال".

إلا أنه في حين كان إيفريت يبني مستقبله المهني بعيداً عن الأسئلة المستبطنة عن العوالم الموازية، كان عمله السابق يكتسب ما يشبه الحركة السرية من المؤيدين. وكان من بين من تحدث إليهم بايرن طالب سابق من طلبة ويلر، هو لفويتشخ زوريك Wojciech Zurek، الذي يعمل الآن لدى مختبر لوس ألاموس الوطني، والذي بيّن أن إيفريت منح الإذن لجيل من علماء الفيزياء للنظر إلى الكون من منظور ميكانيكي كمومي. وقد مثل ذلك تناقضاً صارخاً مع تفسير بور، الذي قال إن بوسعك التحدث عن الكون فقط بمصطلحات تقليدية".

في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حازت فكرة إيفريت تأييد برايس ديويت Bryce DeWitt، وهو عالم الفيزياء النظرية والمحرر بالوكالة لدى مجلة Reviews of modern physics التي نشرت أطروحة إيفريت. وعلى الرغم من أن ديويت لم يكن مقتنعاً أصلاً بهذه الفكرة الغريبة، إلا أن فطنة إيفريت الحادة غلبته. فعندما كتب ديويت إلى إيفريت قائلاً إنه "لم يستطع الشعور بأنه ينقسم"، جاءه رد إيفريت سريعاً بأن منتقدي كوبرنيكوس أيضاً قالوا إنهم لا يستطيعون الشعور بأنهم يتحركون عبر السماء.
في تلك الأثناء، كان إيفريت وبعض زملائه قد أسسوا شركة خاصة تولت إدارة مسائل حاسوبية سرية لحساب البنتاغون. إلا أن الشركة فشلت بعد عدة سنوات، وانتهى الأمر بإيفريت بالعمل على مسائل حاسوبية غير مثيرة للاهتمام نسبياً، فقط ليكسب منها عيشه.

من الشمال إلى اليمين: تشارلز دبليو ميسنر Charles W. Misner هالي أف تروتر Hale F. Trotter ونيلز بور Niels Bohr وهيو إيفريت Hugh Everett وديفيد هاريسون David Harrison. مصدر الصورة: Eugene Shikhovtsev
من الشمال إلى اليمين: تشارلز دبليو ميسنر Charles W. Misner هالي أف تروتر Hale F. Trotter ونيلز بور Niels Bohr وهيو إيفريت Hugh Everett وديفيد هاريسون David Harrison. مصدر الصورة: Eugene Shikhovtsev

وقد عانى إيفريت على الصعيد الشخصي أيضاً. إذ كان مدمناً على الكحول، ويسرف في شربه على نمط غداء الثلاث كؤوس من المارتيني، (three martini lunches: مصطلح أمريكي، كان يستخدم للإشارة إلى وجبات غداء رجال الأعمال المترفة والطويلة، التي يشربون خلالها ثلاثة كؤوس من المارتيني كجزء أساسي منها-المترجمة) وكثير اللهو مع النساء في مقر العمل وخارجه. كما كان يأكل الهمبرغر نيئاً ويدخن ثلاث علب من التبغ يومياً. والأهم من ذلك، أنه كان منقطعاً تماماً عن أسرته. فعلى الرغم من المؤشرات الكثيرة التي تدعو للحذر، إلا أنه أصيب بالدهشة عندما حاولت ابنته المراهقة الانتحار قبل شهر واحد فقط من وفاته إثر نوبة قلبية حادة في العام 1982، عن عمر لم يتجاوز الحادية والخمسين.

إنه لمن المثير للحزن، أن إيرفيت لم يعش ليشهد التأييد الكبير الذي حازه عمله بين أوساط علماء الفيزياء وعلماء الكونيات، الذين يتلزمونه الآن. ويؤمن عدد من علماء الحواسيب الكمومية المبرزين بأن قوة هذه الحواسيب مستمدة من قدرة العناصر المتراكبة على حوسبة المسائل المعقدة في أكوان أخرى، ثم إعادة تجميعها في إجابة في هذا الكون. وفي العام 2007، احتُفيَ بالذكرى الـ 50 لنظرية أيفريت على غلاف مجلة نيتشر.

لا تزال النظرية، بطبيعة الحال، مثار جدل، ويجد كثيرون أنها صعبة البلع. والأخطر من ذلك، أن كريستوفر فووكس Christopher Fuchs، الأستاذ الزائر لمدة طويلة وعالم الفيزياء لدى (the Perimeter Institute for Theoretical Physics) في مدينة واترلو، بولاية أونتاريو الكندية، يعتقد أن النظرية ما هي إلا تفسيرٌ خالٍ من المحتوى، أي أنها لا تخبرنا بأي شيئٍ يتجاوز تفسير كوبنهاجن، على نحو يؤدي إلى تطورات جديدة في أُسس الكم.

يقول فووكس: "لقد كانت ردّ فعلٍ على تفسير كوبنهاجن الذي اتخذ اتجاها بعينه، وقد كان خطوة صحية، إذ ليس من المرغوب -في نهاية المطاف- الابتعاد في التفكير عن المراقبين باعتبارهم جزءً لا يتجزأ من ميكانيكا الكمّ، وتفسير كوبنهاجن يفعل ذلك". ثم يضيف فووكس: "ولكن، ما هو الثمن الذي سندفعه في مقابلِ تصورٍ عن العالم لا يختص كثيراً بهذا العالم؟".

فضح الماضي



ليست لدى بايرن خلفية علمية، لكنه يعتقد أن الاستقصاءات الصحفية التي أجراها كانت ذات قيمة كبيرة في كشف قصة إيفريت. يقول بايرن: "واحدة من مهاراتي هي قراءة كميات هائلة من الرطانة الحكومية المضحكة، واستخلاص بعض الحقائق المثيرة للاهتمام منها. حسناً، لقد قرأت الآن أعداداً هائلة من الأبحاث في الفيزياء -على الرغم من أن قراءاتي كانت في معظمها عن المعادلات- وقد خرجت من ذلك بما يكفي من الحقائق المثيرة لتأليف كتاب". ويتفق شينكير مع أن بايرن، كصحفي، يسلط الضوء على جوانب جديدة من حياة إيفريت، معطياً صورة مفصلة جداً عن عالِمٍ عظيم ذو عيوب إنسانية عميقة.
يقول شينيكر: "لقد نَدَفَ بيتر، من خلال الوثائق، العناصر الأساسية للقصة". ويضيف: "ليس الأمر أن تأخذ مقالة مطبوعة، ثم تحاول فهم معناها. بل هو الحفر عميقاً تحت السطح والعثور على دليل حقيقي على ما يدور بين البشر الذين كتبوا هذه القصة". إذن، هل يعتقد بايرن أن هناك عالم لم يعش فيه إيفريت حياة معذبة بائسة؟

يقول بيرن: "عندما تتأمل كيف يتعامل الناس مع الاحتمالية في كون متفرع، فإن كوننا مشابه تقريباً لمعظم الأكوان التي كان من الممكن أن ينتهي المطاف بإيفريت فيها، لذلك فهو لم يكن مقيماً سعيداً جداً في معظم الأكوان". ويضيف: "ولكن، تبقى هناك أعداد لا تحصى من هذه الأكوان حيث كان ليس فقط سعيداً، بل وحازت نظريته جائزة نوبل".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • التابع الموجي (wave function): يصف هذا التابع في ميكانيك الكم الحالة الكمومية لنظامٍ معزول مكون من جسيمٍ او أكثر.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات