لماذا نحن هنا؟ وهل هناك داعٍ لوجود خالق خيِّر؟ وما هو المبدأ الإنساني؟

قدّم ديفيد سلوان (David Sloan) إجابة عظيمة لشخص يسأله عن العمل الذي يعيش من وراءه، لقد أجاب سلوان: "أحسب احتمالية وجود الكون".

 

جاء هذا الوصف المؤثر نتيجةً لعمل سلوان كطالب أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة كامبريدج، وهو يعمل في مشروع يُعرف بتأسيس فلسفة علم الكون (Establishing the Philosophy of Cosmology).

 

يهدف المشروع إلى جمع الفلاسفة وعلماء الكون معاً لمعالجة الأسئلة الفلسفية الكبيرة الموجودة في مجال علم الكون، ويعمل سلوان على مسألة القياس في علم الكون (measure problem)، والتي تُلخص بالسؤال التالي: "ما هو احتمال أن ينتهي بك المطاف في كونٍ يشبه كوننا، إذا افترضنا وجود شروط ابتدائية عشوائية".

 

استحضرت هذه الفكرة البسيطة مباشرةً نطاقاً واسعاً من الأسئلة الفلسفية وتلك التي تنتمي إلى علم الكون، وكان منها: كيف نتنبأ بالنهاية التي سيؤول إليها الكون، انطلاقاً من بعض الشروط الابتدائية؟ وكيف نحسب احتمالية أن يظهر كون ما مشابهٌ لكوننا؟ وماذا نعني بعبارة "كون مشابه لكوننا" على أية حال؟

 

 كيف جئنا إلى هنا؟


يُوصف تطور الكون بمعادلات فريدمان التي وضعها عام 1922 عالم الفيزياء الكسندر فريدمان (Alexander Friedmann)، حيث استخدم فريدمان نظرية أينشتاين في النسبية العامة للتنبؤ بتوسع الكون، وفي ذلك الوقت، كانت تلك الفكرة ثورية، وقادت أينشتاين إلى رفض معادلات فريدمان واعتبرها مثيرة رياضياً، لكنها أصبحت الآن جزءاً من الصورة القياسية لعلم الكون.

 

تصف المعادلات كيفية تطور الكون أثناء المراحل المبكرة من التضخم (inflation)، وهي الفترة القصيرة المؤلفة من توسع فائق حصل بعد وقتٍ قصير من الانفجار العظيم (Big Bang)، ومن ثم تشكلت أصداء البنية الناتجة عن الانفجار العظيم على شكل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB). يقول سلوان: "ركّز عملي على مجال المعاملات الابتدائية التي قادت إلى المراقبات التي نشاهدها، كتلك التي رصدتها الأقمار الصناعية بلانك و WMAP في الخلفية الكونية الميكروية، وركّز أيضاً على كيفية وضع قياس محتمل لتلك الخلفية".

 

هنالك العديد من الحلول المحتملة لمعادلات فريدمان، ويُمثل كلٌ منها كوناً محتملاً، فقد تكون بعض تلك الأكوان ككوننا، في حين تختلف أخرى كثيراً عنه، فمنها ما يستمر للحظاتٍ قليلة فقط، ومنها أكوانٌ لا تتشكل فيها مجرات ونجوم أبداً.

 

تُمثل كل الأفكار السابقة فضاء الحلول المحتملة، وتُشكل الأكوان ذات الخواص المختلفة مناطق مختلفة داخل هذا الفضاء، كما تُشير الأحجام النسبية لتلك المناطق إلى احتمالات مختلفة لظهور نوعٍ محدد من الأكوان التي ستتطور بشكلٍ مطابق لنموذجنا.

 

يعمل سلوان على تحديد شكل فضاءات الحلول تلك، وتحديد المناطق المختلفة، وكيفية حساب أحجامها لتقديم الاحتمالية الخاصة بتطور مجموعة من الأكوان التي تتمتع بخواص معينة.

لقد كانت الحسابات الفعلية التي عمل عليها معقدة للغاية، لكن بإمكانك تصور الأمر وتبسيطه كثيراً عند أخذ بعض القيم المحتملة للمعاملات بعين الاعتبار.

 

فلنفترض أنه لدينا معامل ما يُدعى x وهو موجود في نموذجنا الخاص بتطور الكون، ويُمكن لهذا المعامل أن يأخذ أي قيمة بين 0 و1، وستعتمد خواص الكون الناتج على قيمه. فإذا كانت x<= 1.4∗10^-11، لن يوجد بالتالي تضخم كافٍ ليُطابق المراقبات التي نشاهدها في بيانات الأقمار الصناعية التي تدرس الكون، وإذا كان x>= 1.4∗10^-11، يكون التضخم الحاصل كافٍ، والمراقبات الكونية الناجمة ستبدو كتلك الخاصة بكوننا. لذلك فعند الأخذ بعين الاعتبار أن x تستطيع أخذ مجموعة من القيم، فإنه من المرجح بشكلٍ ساحق (أي احتمالية بقيمة مشابهة لـ 0.99999) أن ذلك النموذج سيُعطي كوناً مشابهاً لكوننا.

 

معادلة فريدمان


تأخذ معادلة فريدمان الخاصة بكونٍ مسطح الشكل التالي:

\(H(t)^2=\frac{8\pi G}{3c^2} \in(t) \)

يُمثل التابع (أوبسيلون) طاقة الكون، المؤلفة من الطاقة المخزنة في الحقول والمادة بفضل معادلة أينشتاين، وتتغير هذه الطاقة بمرور الزمن. أما التابع H(t)فهو معامل هابل (Hubble parameter)، الذي يُوضح توسع الكون إذا لم تكن قيمته مساوية للصفر.

عندما رصد هابل انزياحاً نحو الأحمر في المجرات البعيدة (الانزياح نحو الأحمر هو المُكافئ الضوئي لمفعول دوبلر الذي تسمعه عندما تمر بجوارك سيارة إسعاف) برهن على أن قيمة H موجبة، أما الأجزاء المتبقية في المعادلة فكلها مألوفة بالنسبة لنا.

 

أنت هنا


لكن ماذا نعني بالتحديد عندما نقول "كون مشابه لكوننا"؟ تجيب الطريقة البراغماتية على هذا السؤال بالقول بأننا في كون يُقدم مراقبات مشابهة لتلك التي نرصدها بأنفسنا، فقد ساهمت بيانات كتلك الخاصة بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي وبشكلٍ جذري في رسم الصورة الخاصة بكوننا، ويجب أن ينتج أي كون "مشابه لكوننا" نفس المراقبات التي نراها في الـ CMB ومصادر البيانات الأخرى.

 

وعلى الرغم من ذلك إلا أن هنالك تعقيدٌ آخر، حيث أننا لا يوجد لدينا إلا كوننا لننظر إليه، ولا نمتلك أية أمثلة بديلة لإجراء عملية مقارنة، أو لسبر المعلومات. يقول سلوان: "ما يُميز علم الكونيات عن غيره من أقسام الفيزياء ويضعنا على نفس الخط المتصل مع العلوم الاجتماعية هو أنه بإمكاننا إجراء التجارب الطبيعية فقط، حيث أنه لا يُمكننا تصميم كون، ولا يُمكننا بناء آلة، ووضع بعض الشروط الابتدائية داخلها، ومن ثمَّ تشغيلها في المختبر ورؤية ما يحصل، لا يُمكننا إلا أن نرصد الكون كما هو".

 

هذا الأمر مشابه لحالة علم الفلك (astronomy)، لكن مع وجود فرق واحد أساسي، فحسبما يقول سلوان: "لا يحتاج علماء الفلك إلى بناء النجوم ومعرفة ما يحصل، إذ يُمكنهم رصدها فقط، إلا أن لديهم الكثير الكثير من النجوم لينظروا إليها، أما بالنسبة لنا، فلدينا نقطة بيانية واحدة فقط: كونٌ وحيد، هو ذلك الذي نعيش فيه، وكما سيقول لك أحد دارسي علوم GCSE، فإن النقطة البيانية الوحيدة تعد مشكلة كبيرة عند محاولة ممارسة العلوم".

 

صورة من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي
صورة من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي

 

يتطلب هذا النقص في نقاط البيانات استخدام نهجٍ مختلفٍ، وهنا بالتحديد تُصبح وجهة النظر الفلسفية مفيدة، فقد تؤدي مشكلة امتلاكنا لجزء مقنع من الدليل، وهو أن الكون موجود، وافتقادنا لأجزاء أخرى، إلى تفسير ينص على أن الكون ضُبط بشكلٍ دقيق من أجل ظهور الحياة.

 

إذا ما أخذت بالحسبان وفرة الكربون في الكون، فقد تعتقد أن تلك الوفرة ما هي إلا معجزة لأن الكربون ضروري لوجود الحياة كما نعرفها، ويُضيف سلوان: "إذا ما غيرنا المعاملات بطريقة ما، لن يكون هنالك أي كربون، وما كُنّا لنُوجد".

 

لكن قد يصيرُ ذلك التفسير ضعيفاً عند تغيير طريقة التفكير بالأمر، يقول سلوان: "طرح دوغلاس آدامز Douglas Adams فكرة جيدة عندما افترض أن هنالك حوضاً داخل ثقب، وحينها ستسأل: يا للعجب! أليس من المذهل أن يكون هنالك ثقب يبدو بشكل يُناسبني تماماً؟ لا بدَّ وأن هذا الثقب قد صُمم من أجلي".

 

إذاً، وبدلاً من تفسير الضبط المثالي لكوننا عبر إقحام وجود خالقٍ محبٍ للخير، تستطيع استدعاء شيء ما يُعرف بالمبدأ الإنساني (anthropic principle)، وهو ينص على أنّ كوننا مفضلٌ بالنسبة للحياة، لأنه ما كنّا لنرصده في حالاتٍ أخرى.

 

علينا العودة خطوة إلى الوراء، والنظر إلى طيفٍ واسعٍ من الأكوان المحتملة التي تنتج عن حلول لمعادلات فريدمان، فهل نحن مهتمون فقط بالأكوان التي يُمكننا أن نوجد داخلها، أو هل سيكون أي من الأكوان، التي تسمح بوجود مراقب ذكي، واحداً من تلك الحلول التي سنسمح بها وبإمكانية وجود كائنات كالبشر لتراقب؟

 

يُضيف سلوان: "إذا أجريت حساباً وكان العدد ثلاثة بدلاً من سبعة، وعرفت أنّ كلَّ شيءٍ سيكون كما هو الآن عدا فرق واحدٍ هو أن لوننا سيكون أخضراً، فهل سنقول حينها أنّ ذلك مقبولٌ أم لا؟ والآن، لنقل أن الأعداد المختلفة الناتجة أشارت إلى حالاتٍ مؤداها أن الأشياء الحية يجب أن تكون مركبة من السيليكون بدلاً من الكربون، فهل سيكون ذلك مقبولاً أيضاً؟ بالطبع، من الصعب جداً معالجة هذا النوع من الأسئلة، ولا نملك أي تكنولوجيا قادرة على تطوير الأشياء وصولاً إلى نقطة الحياة، ولكن ما نستطيع قوله، مع وجود شروط محددة، هو أنه سيكون هناك كمية اكبر بكثير من الإشعاع، وبالتالي فقد يتم استبعادنا من العملية، أو على الأقل فإنّ الحياة كما نعرفها لن تظهر، وبوجود شروطٍ أخرى، ستعيش النجوم لحوالي 15 ثانية، وبذلك يُمكننا استبعاد أي شيء قد ينتج عن تطور تلك النجوم".

 

 لماذا نحن هنا؟


يبدو كل ذلك مثل لعبةٍ ممتعة بالنسبة للفلاسفة وأولئك الساعين وراء تفسير مكاننا في الكون، إلا أن بحث سلوان يُقدم كذلك أداة عملية لاختبار نظريات الفيزياء، ويشرح سلوان الأمر قائلاً: "يُعطينا استكشاف (مسألة القياس) درجةً من الثقة، أو فقداناً للثقة في قدرة نماذج الفيزياء على التفسير".

 

فقد افترضْ مثلاً أنّ حساباته تقول أنّ نموذجاً معيناً في الفيزياء يشير إلى أن تطور كون مشابه لكوننا هو أمرٌ غير مرجح بشكلٍ كبير، بمعنى أن احتمالية تطور مثل هذه الأكوان ستكون قريبة من الصفر.

 

عندها، يُمكننا أن نسأل أنفسنا، هل يغلب على الظن أنّ النموذج صحيح، وبالتالي سينتهي بنا المطاف هنا، بصرف النظر عن الاحتمالية الصغيرة، أم أنّه من المرجح أكثر أنّ نموذجنا خاطئ منذ البداية؟

 

الخريطة الحالية للكون. المصدر: ناسا.
الخريطة الحالية للكون. المصدر: ناسا.

 

يُضيف سلوان: "إذا ادعيت أنه إمّا أن الفيزياء خاطئة، أو أنني رميت نرداً لستة مليارات مرة وحصلت على الرقم ستة في كل الأوقات، فأي الحالتين هي الأرجح؟ في تلك الحالة يغلب على الظن أن الفيزياء خاطئة، وكونك عالماً فإنك ستتخلى عن الفيزياء حينها".

 

بناءً على ذلك تفتح تلك الحسابات الاحتمالية نافذةً على أسئلة ما كنّا لنختبرها في أحوالٍ أخرى، ما يُقدم لنا طريقة لاختبار الأمور غير القابلة للاختبار.

 

يقول سلوان: "إن من طبيعة تلك الأمور أنه من العادي أن تكون الاحتمالات قريبة جداً من الصفر أو من الواحد"، فإذا ما تبيّن لك أن الاحتمالية قريبة من الواحد، يُمكنك أن ترتاح وتدعي أن نموذجك في الفيزياء يُقدم تفسيراً جيداً لتطور الكون.

 

فعلى سبيل المثال، استخدم سلوان هذا النهج لفحص نظريات الجاذبية الكمومية الحلقية (loop quantum gravity)، وفيها يرتد الكون من الانكماش إلى التوسع بدلاً من البدء من انفجارٍ عظيمٍ ابتدائي.

 

تكمن ميزة هذه النظرية عن غيرها في أنه بإمكانك إجراء الحسابات عند نقطة الارتداد، في حين تتحطم بقية النظريات عند تلك النقطة. يقول سلوان: "تجد هناك احتمالية كبيرة جداً لوجود كونٍ يظهر بنفس الشكل الذي يأخذه حالياً، وبوجود افتراضات معينة في النموذج، ستكون الاحتمالية التي ستحصل عليها من مراقبات WMAP مساوية لحوالي 1 مطروح منه جزء من مليون أو ما شابه، ولذلك، فإنّ هذه النظرية مرجحة كثيراً".

 

يعد ذلك دعماً كبيراً وقوياً لأنصار هذه النظرية، يُضيف سلوان: "إنها تقول: نعم إذا كانت هذه النظرية هي النظرية الصحيحة في الفيزياء، فلا تقلق، فعمليات الرصد لم تُخبرك أبداً أن تقوم بالاستغناء عن النظرية الفيزيائية هذه".

 

في النهاية، يود سلوان تطوير نوع من الصناديق السوداء لمعالجة مسألة القياس، ويقول: "إن أحد الأمور التي ستكون جميلة، إلا أنه سيتطلّب الكثير من العمل هو خلق نموذجٍ لأخذ النماذج الأساسية للفيزياء ويشمل ذلك نظريّات الأوتار، ونظريات السببية والاقتراحات اللاحدية، وكل امتدادات النسبية العامة هذه، وبعد ذلك القيام بمعالجتها، وسينتج عن كل ذلك رقم سيُخبرك أنها مرجحة على نحو مدهش، أو أنها غير مرجحة على نحو مدهش، ومن ثمَّ سيكون بإمكانك استخدام هذا (الصندوق) كاختبارٍ لنظريات ستكون في حالاتٍ أخرى غير قابلة للاختبار على الإطلاق".

 

تسمح لنا دراسة مسألة القياس بإلقاء نظرة على الإجابة عن أكبر سؤال على الإطلاق: لماذا نحن هنا؟ من يعرف متى سنجيب عن هذا السؤال، لكنّ بحث سلوان سيُعطينا بالتأكيد لمحةً عن تلك الإجابة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات