المادة المظلمة قد لا تكون مظلمة، وفيزياء جديدة كلياً في الأفق

أولى الإشارات على تفاعل المادة المظلمة مع نفسها

تُشكل المادة المظلمة نسبة تصل إلى 85% من إجمالي المادة الموجودة في الكون، ويرصد العلماء وجود هذه المادة عبر تأثيراتها الثقالية فقط، إلا أن دراسة جديدة مترافقة مع عمليات رصد تقترح وجود تفاعل ذاتي داخل المادة المظلمة، وقد يكون ناجماً عن وجود قوة جديدة لم نعرفها سابقاً، ويُوضح المقال تفاصيل هذه الدراسة التي اعتمدت على أداة MUSE الموجودة في التلسكوب الكبير جداً. 


قام فريق من علماء الفلك، باستخدام أداة MUSE الموجودة على متن التلسكوب الكبير جداً في المرصد الأوروبي الجنوبي، جنباً إلى جنب مع وجود صور قادمة من تلسكوب هابل الفضائي، بدراسة تصادم حاصل بين أربع مجرات في العنقود المجري (galaxy cluster) المعروف بـ Abell 3827.

وقد تمكن الفريق من تعقب أماكن وجود المادة داخل النظام ومقارنة توزع المادة المظلمة (dark matter) مع مواقع المجرات اللامعة، وعلى الرغم من عدم إمكانية رؤية المادة المظلمة، إلا أن الفريق استخلص موقعها باستخدام تقنية تُعرف بمفعول العدسة الثقالية (gravitational lensing)، وقد حصل التصادم بين المجرات مباشرةً أمام المصدر الأكثر بعداً بكثير والذي لا يرتبط بها.

 

قامت توزعات المادة المظلمة المحيطة بالمجرات بتشويه الزمكان بشكلٍ هائل، وحرفت مسار الأشعة الضوئية القادمة من المجرة الموجودة في الخلفية البعيدة، لتشوه بالتالي صورتها فتأخذ أشكالاً مشابهة للأقواس.

ينص فهمنا الحالي للعملية على أن كل المجرات موجودة داخل تكتلات من المادة المظلمة، ومن دون وجود مفعول التقييد الناجم عن جاذبية المادة المظلمة، فإن مجرات كمجرتنا درب التبانة قد تجد نفسها وهي تتمزق أثناء دورانها، ومن أجل منع حصول ذلك، يجب أن تكون 85% من كتلة الكون [1] مادة مظلمة، إلا أنه إلى الآن لا تزال الطبيعية الحقيقية لهذه المادة غامضة.

 

قام الباحثون في هذه الدراسة برصد أربع مجرات متصادمة ووجدوا أن أحد تكتلات المادة المظلمة ظهر على شكل غطاء خلف المجرة التي يُحيط بها، وتوجد المادة المظلمة حالياً على بعد حوالي 5000 سنة ضوئية (50 ألف مليون مليون كيلومتر) خلف المجرة، وسيتطلب الأمر حوالي 90 مليون سنة حتى تقطع المركبة الفضائية فوياجر هذه المسافة.

لقد تنبأ علماء الفلك بحصول تأخر بين المادة المظلمة ومجرتها المرافقة أثناء التصادم في حال تفاعل المادة المظلمة مع نفسها ولو بمستويات قليلة جداً وعبر قوى أخرى غير الجاذبية [2]، كما لم يتم في السابق رصد المادة المظلمة وهي تتفاعل بطريقة أخرى غير قوة الجاذبية.

 

يفسر ريتشارد ماسي (Richard Massey)، المؤلف الرئيسي للدراسة من جامعة دورهام هذا الأمر بقوله: "اعتدنا على التفكير بأن المادة المظلمة محيطة بنا فقط، تهتم بأمورها الخاصة إلا عندما يتعلق الأمر بالجاذبية. لكن إذا ما جرى إبطاء المادة المظلمة أثناء هذا التصادم، فقد يُشكل الأمر أول الأدلة على وجود فيزياء غنية جداً في القطاع المظلم -وهي تتجسد فس الكون المخفي والموجود في كل مكانٍ حولنا".

تُوضح هذه الصورة هياكلاً زرقاء باهتة ومحيطة بالمجرات المركزية؛ وينتج هذا الأمر عن مفعول العدسة الثقالية الناجم عن المجرة الموجودة بعيداً خلف العنقود المجري. وتوزع المادة المظلمة مُوضح بالخطوط الزرقاء في هذه الصورة. حقوق الصورة: ESO
تُوضح هذه الصورة هياكلاً زرقاء باهتة ومحيطة بالمجرات المركزية؛ وينتج هذا الأمر عن مفعول العدسة الثقالية الناجم عن المجرة الموجودة بعيداً خلف العنقود المجري. وتوزع المادة المظلمة مُوضح بالخطوط الزرقاء في هذه الصورة. حقوق الصورة: ESO

يذكر الباحثون أننا بحاجة إلى المزيد من البحث المتعلق بالتأثيرات الأخرى التي قد تنتج عن مثل هذا التأخر. ويجب القيام بالعديد من عمليات المحاكاة الحاسوبية والمراقبات لمثل هذه المجرات.

 

وتُضيف عضو الفريق ليليا ويليامز (Liliya Williams) من جامعة مينيسوتا: "نحن نعرف أن المادة المظلمة موجودة جراء طريقة تفاعلها الثقالي، وهو الأمر الذي ساعد على إعطاء الكون شكله، لكننا لازلنا نجهل الكثير عن طبيعة هذه المادة في الواقع. إن مراقباتها تشير إلى أن المادة المظلمة قد تتفاعل مع قوى أخرى غير الجاذبية، ما يعني أنه بإمكاننا استبعاد بعض النظريات الأساسية المتعلقة بطبيعة المادة المظلمة".

 

لقد تبعت هذه النتائج نتائجاً أخرى وقد عرضها فريق علمي رصد 72 تصادم بين عناقيد مجرية [3]، ووجد الفريق أن المادة المظلمة تتفاعل بشكلٍ قليل جداً مع بعضها البعض، ومع ذلك، يُركز العمل الجديد على حركة المجرات المنفردة بدلاً من عناقيد المجرات، ويقول الباحثون أن التصادمات الحاصلة بين تلك المجرات قد تستمر لفترة من الزمن أطول من التصادمات التي تمَّ رصدها في الدراسة السابقة، ما يسمح لتأثيرات قوة احتكاك صغيرة جداً بالتراكم مع مرور الوقت وخلق تأخر قابل للقياس [4].

 

وبالنظر إلى الدراستين معاً، نجد أننا ندرس هذه الأمور المميزة والمتعلقة بسلوك المادة المظلمة للمرة الأولى على الإطلاق، حيث تتفاعل المادة المظلمة أكثر من ذلك، ولكن أقل من هذا (في إشارة إلى نتائج الدراستين). ويُضيف ماسي: "في النهاية، هي المرة الأولى التي نُحكم فيها الخناق على المادة المظلمة من فوق ومن تحت -ضاغطين معرفتنا في كلا الاتجاهين".


ملاحظات

[1] وجد علماء الفلك أن المحتوى الكلي للطاقة والمادة في الكون يتألف من 68% طاقة مظلمة، و27% مادة مظلمة، و5% مادة عادية. وتصل نسبة المادة المظلمة إلى حوالي 85% من إجمالي المادة الموجودة في الكون.
 
[2] تُوضح عمليات المحاكاة الحاسوبية أن الاحتكاك الزائد والناجم عن التصادم قد يتسبب في إبطاء المادة المظلمة، ولا تزال طبيعة تلك التفاعلات مجهولة، وقد تكون ناجمة عن تأثيرات معروفة جيداً، أو عن قوة مجهولة وغريبة، فكل ما يُمكننا قوله الآن هو أن تلك القوة ليست الجاذبية أبداً.
 
قد تكون المجرات الأربع انفصلت عن مادتها المظلمة، إلا أننا وجدنا قياسات جيدة جداً لمجرة واحدة فقط لأنها تحاذت مصادفةً وبشكلٍ جيد جداً مع جسم عدسة ثقالية موجود في الخلفية، أما بالنسبة للمجرات الثلاث الأخرى، فإن الصور المُعدسة أبعد بكثير، وبالتالي فإن القيود المفروضة على موقع مادتها المظلمة ستكون فضفاضة جداً على أن تسمح بالحصول على استنتاجات إحصائية معتبرة.
 
[3] تحتوي العناقيد المجرية ما يصل إلى ألف مجرة مفردة.
 
[4] يكمن الارتياب مبدئياً في النتائج في الامتداد الزمني للتصادم: فالاحتكاك الذي أبطأ المادة المظلمة قد يكون ناجماً عن قوة ضعيفة جداً ولعبت دوراً على امتداد فترة زمنية وصلت إلى مليار سنة، أو أنها قوة أقوى نسبياً ولعبت دوراً على امتداد فترة وصلت إلى 100 مليون سنة "فقط".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المفعول العدسي التثاقلي (gravitational lensing): المفعول العدسي التثاقلي: يُشير إلى توزع مادة (مثل العناقيد المجرية) موجودة بين مصدر بعيد والراصد، وهذه المادة قادرة على حرف الضوء القادم من المصدر أثناء تحركه نحو الراصد. ويُترجم أحياناً بالتعديس الثقالي أيضاً.
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.
  • المجرة (galaxy): عبارة عن أحد مكونات كوننا. تتكون المجرة من الغاز وعدد كبير (في العادة، أكثر من مليون) من النجوم التي ترتبط مع بعضها البعض، بوساطة قوة الجاذبية. و عندما تبدأ الكلمة بحرف كبير، تُشير Galaxy إلى مجرتنا درب التبانة. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات