المشهد الأكثر حِدَّة لعملية تشكل نجمي تحدث في أقاصي الكون

عملية رصد لحلقة أينشتاين بواسطة ألما تكشف عن تفصيل استثنائي.

أنتجت الحملة القاعدية لألما أرصاداً مذهلةً وجمعت معلوماتٍ مفصّلةٍ بشكلٍ غيرِ مسبوق حول مكونات الكون القريب والبعيد، وقد أُجريَتْ الأرصاد في نهاية العام 2014 كجزء من حملة استهدفتْ مجرة بعيدة تُسمى (HATLAS J090311.6+003906)، وتُعرف أيضاً بـ (SDP.81).

ينتُج ضوءُ هذه المجرة عن تأثيرٍ كونيٍّ يُعرف بمفعول العدسة الثقالية (Gravitational lensing)، وتلعب المجرة الكبيرة التي تقع بين ألما [1] (ALMA) و SDP.81 دور العدسة حيث تحرُف وتُكبّر مشهد المجرات الأبعد، وتخلق مثالاً شبه تام عن ظاهرة تعرف باسم حلقة أينشتاين [2] (Einstein Ring) 

حلّلت -على الأقل- سبعُ مجموعاتٍ من العلماء، كلٌ بشكلٍ مستقل، بيانات ألما المتعلقة بـ SDP.81، وقد كشفتْ هذه السّلسلة من الأوراق البحثية معلومات غير مسبوقة عن المجرة، بما في ذلك تفاصيل عن هيكلها ومحتوياتها وحركتها والخصائص الفيزيائية الأخرى. يلعب مرصد ألما دور مقياس تداخل، وببساطة تعمل مجموعة الهوائيات المتعددة في تزامن مثالي لجمع الضوء كتلسكوب افتراضي ضخم [4]. 

وفي المحصلة، كانت دقة هذه الصور الجديدة لـ  [5] SDP.81 أكبر بـ 6 مرات من تلك التي أخذها تلسكوب هابل الفضائي بالأشعة تحت الحمراء. وداخل SDP.81 تكشف النماذج الدقيقة التي وضعها علماء الفلك بشكلٍ واضحٍ عن هيكلٍ لم يُرى مثله سابقاً، ويتخذ شكل سحب من الغبار يُعتقد أنّها مستودعاتٌ عملاقةٌ للغاز الجزيئي البارد، الذي يُمثل أماكن ولادة النجوم والكواكب؛ وقد كانت تلك النماذج قادرة أيضاً على تصحيح التشوهات الناجمة عن العدسات الثقالية المُكبرة. 

كنتيجة لذلك، كانت أرصاد ألما واضحة جداً بحيث يستطيع العلماء رؤية تكتُّلات التشكل النجمي في المجرة وصولاً إلى تلك التي تمتد على عرض يصل إلى حوالي 200 سنة ضوئية، أي ما يعادلُ رصد نُسخٍ عملاقة من سديم أورايون (الجبار)، التي تُنتِج عدداً من النجوم أكبر بآلاف المرات في الجانب البعيد من الكون، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها النظر إلى هذه الظاهرة من مسافة هائلة كهذه.

يقول روب ليفيسون Rob Ivison، المؤلف المشارك لاثنين من الأوراق ومدير العلوم في المرصد الأوروبي الجنوبي: "صورة ألما المُعاد إنشاؤها مذهلة، لقد قاد كلٌ من مساحة الجمع العملاقة، والتباعد الكبير لهوائياته، والجو المستقر فوق صحراء أتاكاما إلى الحصول على تفاصيل رائعة في الصّور والأطياف، وهذا يعني الحصول على مراقبات غاية في الحساسية، وكذلك معلومات حول الأجزاء المختلفة المتحركة من المجرة". 

ويتابع: "يمكننا دراسة المجرات الموجودة في النهاية الأخرى من الكون أثناء اندماجها وتشكُّل عدد هائل من النجوم. هذا هو نوع العمل الذي يجعلني أستيقظ في الصباح!".

قاس الفلكيون، باستخدام المعلومات الطيفية التي جمعتها ألما، كيفية دوران المجرة البعيدة وقدّروا كتلتها؛ في حين أظهرت البيانات أنّ الغاز في المجرة غير مستقرٍّ، إذ تنهارُ تكتلات منه باتّجاهِ الدّاخلِ، ومن المرجح أن تتحوّل إلى مناطقِ تشكُّل نجمي عملاقة في المستقبل.

ومن الجدير بالذّكر أن نمذجة مفعول العدسة تُشير إلى وجود ثقبٍ أسودٍ فائقِ الكتلة (Supermassive black hole) في مركز المجرة "الُمكبِّرة" الموجودة في المقدمة. [6]

الجزء المركزي من SDP.81 خافت جداً ولا نستطيع رصده، مما يؤدي إلى استنتاج أن المجرة الموجودة في المقدمة تحتوي ثقباً أسوداً فائق الكتلة، حيث تبلغ كتلته 200 إلى 300 ضعف كتلة الشمس.

يدل عدد الأوراق التي نُشرت باستخدام بيانات ألما بمفرده على الإثارة الناتجة عن القدرة الكامنة للدقة العالية لألما ولطاقة جمعها للضوء، ويُوضح أيضاً كيف أنّ ألما سيمكِّن علماء الفلك من القيام بمزيد من الاكتشافات في السنين القادمة، ومن الإجابة عن المزيد من الأسئلة المتعلقة بطبيعة المجرات البعيدة.

ملاحظات: 


[1] المجرة المُكبرة مُشاهدة عند زمنٍ كان عمر الكون فيه مساوٍ لـ 15% من عمره الحالي، أي 2.4 مليار سنة بعد الانفجار العظيم (Big Bang). احتاج الضوء ضعفي عمر الأرض للوصول إلينا (حوالي 11.4 مليار سنة) حيث ينحني على طول الطريق الذي أخذه حول المجرة فائقة الكتلة الموجودة في المقدمة والقريبة نسبياً إلينا، إذ يبلغ بعدها حوالي 4 مليار سنة ضوئية.

[2] تنبّأ ألبرت أينشتاين بتأثير العدسة الثقالية كجزء من نظريته في النسبية العامة، إذ تخبرنا نظريته؛ أن الأجسام تحني المكان والزمن، وأي ضوء يقترب من الزمكان المنحني سيتبع الانحناء الناجم عن هذا الجسم، ويتيح هذا الأمر للأجسام فائقة الكتلة –وخاصة المجرات والعناقيد المجرية– لعب دور نظارات كونية مُكَبّرة. 

حلقة أينشتاين هي نوعٌ خاصٌ من العدسات الثقالية، وفيها يكون كلٌ من الأرض والمجرة المُكبِرة الموجودة في المقدمة، والمجرة الموجودة في الخلفية متحاذين مع بعضهم بشكلٍ مثالي، مما يخلق تشوهاً متجانس على شكل حلقة من الضوء، وهذه الظاهرة موضحة في الفيديو التالي الفيديو


[3] قائمة الفريق العلمي موجودة في الأوراق العلمية المرفقة بالمقال.

[4] قدرة ألما على رؤية أدق التفاصيل تنتج عندما تكون المسافة بين هوائياته أكبر ما يُمكن، أي ما يصل إلى 15 كيلو متر. وللمقارنة، يُمكنك هنا رؤية عمليات رصد مفعول العدسات الثقالية، التي جرت باستخدام ألما وبوجود تشكيل أكثر انضغاطية، إذ وصلت المسافة إلى حوالي 500 متر.

[5] في هذه البيانات يُمكننا قياس التفاصيل التي تصل أبعادها إلى 0.023 ثانية قوسية (أي 23 ميلي ثانية قوسية). رصد هابل هذه المجرة في مجال الأشعة القريبة من تحت الأحمر وبدقة وصلت إلى 0.16 ثانية قوسية. لاحظ أنه عند الرصد عند الأطوال الموجية الأقصر، فإن هابل يستطيع الوصول إلى دقة أعلى، حوالي 0.022 في مجال الأشعة القريبة من فوق البنفسجية. يمكن تعديل دقة ألما اعتماداً على نوع الأرصاد، ويتم ذلك عن طريق تحريك الهوائيات أبعد عن بعضهما أو تقريبها، وفي مثل هذه الأرصاد يُستخدم أوسع تباعد ممكن، مما يؤدي إلى الحصول على أفضل دقة. 

[6] تُتيح صورة ألما عالية الدقة للباحثين البحث عن الجزء المركزي من المجرة الموجودة في الخلفية، والذي من المتوقع أن يظهر في مركز حلقة أينشتاين. إذا كان لدى المجرة الموجودة في المقدمة ثقب أسود فائق الكتلة في المركز؛ سيصبح مركز الصورة أكثر خفوتاً. يُوضح الخفوت الموجود في الصورة المركزية مقدار كتلة الثقب الأسود الذي تمتلكه المجرة الموجودة في المقدمة. 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المفعول العدسي التثاقلي (gravitational lensing): المفعول العدسي التثاقلي: يُشير إلى توزع مادة (مثل العناقيد المجرية) موجودة بين مصدر بعيد والراصد، وهذه المادة قادرة على حرف الضوء القادم من المصدر أثناء تحركه نحو الراصد. ويُترجم أحياناً بالتعديس الثقالي أيضاً.
  • حلقة اينشتاين (Einstein ring): هي التشوه الحاصل في الضوء القادم من مصدر بعيد (مجرة أو نجم). ويأخذ هذا التشوه شكل حلقة جراء معاناة ضوء المصدر من مفعول العدسة الثقالي (gravitational lensing) الذي ينتج عن وجود جسم فائق الكتلة أو ثقب أسود بين الراصد والمصدر. المصدر: ناسا.

اترك تعليقاً () تعليقات