بيانات مركبة فضائية تقترح احتمالية وجود نشاط هيدروحراري في أحد محيطات أقمار زحل

 

 قدّمت المركبة الفضائية كاسيني للعلماء أول دليل واضح حول إظهار إنسيلادوس [1] Enceladus لعلامات دالة على نشاط حرّمائي في الأيام الحالية، و التي تشابه نظيراتها في أعماق المحيطات هنا على كوكب الأرض، و لكن في عالم مختلف عن كوكبنا، فإنَّ تأثيرات نشاط كهذا تفتح المجال أمام احتمالات علمية لا مثيل لها.

 

يقول جون غرونسفيلد John Grunsfeld: "تضيف هذه النتائج إلى احتمالية كون إنسيلادوس -والذي يملك محيط تحت سطحي و يقدّم نشاط جيولوجي رائع- يحتوي بيئة ملائمة للكائنات الحيّة"، يعمل غرونسفيلد رائد فضاء و مدير مساعد في إدارة المهمّات العلمية التابعة لناسا في ولاية واشنطن، ليضيف لاحقاً: "إنّ المواقع في مجموعتنا الشمسية -حيث تَكمُن بيئات قاسية قد تتواجد فيها حياة- يمكن أن تُقرّبنا أكثر للإجابة عن هذا السؤال: هل نحن بمفردنا في هذا الكون؟" .

 

يحصل نشاط حرّمائي عندما تتسرّب مياه البحر و تتفاعل مع قشرة صخريّة، لِتنبثِق بعدها كمحاليل معدنيّة ثقيلة ساخنة، الأمر الذي يحدث بشكل طبيعي في المحيطات الأرضية، و وِفقاً لورقتين بحثيّتين فإنَّ هذه النتائج هي أولى المؤشرات الواضحة لاحتمالية أن يمتلك قمر جليدي عمليات نشيطة باستمرار كهذه.

 

نُشرت الورقة الأولى في هذا الأسبوع -الأسبوع الثاني من شهر آذار لعام 2015- في مجلة Nature، حيث تتعلق هذه الورقة باكتشاف حبيبات مجهريّة للصخور بواسطة كاسيني ضمن نظام زحل، و بشكل موسّع فلقد قادَ تحليل البيانات المستقبلة من المركبة الفضائية على مدار أربع سنوات و عمليات المحاكاة الحاسوبية و تجارب المختبرات الباحثين إلى استنتاج يفيد بأن الحبيبات الدقيقة تتشكّل غالباً عندما تندفع المياه الساخنة من جوف القمر الصخري - و المحتوية على المعادن المُنحلّة - لتحتكَّ بمياه أكثر اعتدالاً، و إن درجات الحرارة المطلوبة لإحداث هذه التفاعلات يجب ألّا تَقُل عن 194 درجة فهرنهايت (90 درجة مئوية) ليتم انتاج الحبيبات الصخرية الدقيقة.

كتب سين هسو Sean Hsu في ورقته: "إنّه لمن المثير جداً أننا نستطيع استخدام هذه الحبيبات الدقيقة من الصخور المقذوفة بواسطة السخّانات [2] (Geysers) باتجاه الفضاء، لتُطلِعَنا على أحوال - و ما وراء- قاع المحيط لقمر جليدي" و هو مؤلف رئيسي و باحث أنهى درجة الدكتوراه في جامعة كولورادو بمدينة بولدر.

 

تكتشف أداة كاسيني لتحليل الغبار الكوني (Cassini’s Cosmic Dust Analyzer - CDA) و باستمرار جسيمات صخرية ضئيلة غنية بالسيليكون (Silicon - Si)، و ذلك حتى قبل دخول كاسيني لمدار كوكب زحل في 2004، و من خلال تسلسل من عمليات التوقُّع و الإقصاء، استنتج فريق CDA أنّ هذه الجسيمات لابُدّ من أن تكون حُبيبات من السيليكا (Silica)، و التي تتواجد على كوكب الأرض في الرمال أو في فلزات الكوارتز، و إن الحجم المُراقَب لهذه الحبيبات بواسطة كاسيني -بحيث يكون أكبرها بين 6 إلى 9 نانومتر- كان الدليل الذي أطلَعَ الباحثين عن وجود عملية مميّزة محتملة. على الأرض، الطريقة الأكثر شيوعاً لتشكيل حبيبات السيليكا بهذا الحجم هي بنشاط حرّمائي ضمن مجال محدّد من الشروط، أي: عندما يتم إخضاع ماء مالح قليل القلويّة و عالي الإشباع مع السيليكا لهبوط حادّ في درجة الحرارة.

 

يقول فرانك بوستبيرغ Frank Postberg: "بحثْنَا بشكل منهجي لتفسيرات بديلة حول الحبيبات النانوية للسيليكا، لتُشير كلّ نتيجةٍ جديدةٍ لأصل وحيد أكثر احتماليةً" و هو مؤلف مساعد و أحد علماء فريق كاسيني-CDA في جامعة هايديلبيرغ في ألمانيا. عَمِلَ كل من هسو و بوستبيرغ بعناية مع زملائهم في جامعة طوكيو لإتمام التجارب المخبرية المفصّلة و التي تحقق صحة فرضيّة النشاط الحرّمائي، و لقد قام الفريق الياباني بقيادة ياسوهيتو سيكين Yasuhito Sekine بالتحقق من شروط تشكُّل حبيبات السيليكا بنفس الحجم المُكتشف بواسطة كاسيني، حيث يَعتقد الباحثون بأنّ هذه الشروط من الممكن أن تتحقق في قاع البحار على إنسيلادوس حيث تتلاقى المياه الحارّة من الجوف بالمياه الباردة نسبياً عند قاع المحيط.

 

توحي أيضاً جسيمات السيليكا شديدة الصغر باندفاعها عالياً بسرعات نسبيّة من أصلها الحرّمائي باتجاه المنابع السطحية القريبة من سخّانات القمر، و تُقدّر المسافة من القاع باتجاه الفضاء الخارجي بحوالي 30 ميل (50 كيلومتر) لتَقضي الحبيبات من بضعة أشهر إلى عدّة سنوات أثناء عملية النقل و إلّا ازداد حجمها. يشير المؤلفون إلى أنَّ قياسات الجاذبية المقدّمة من كاسيني تقترح نواة صخرية لإنسيلادوس تامّة النفوذية، فتسمح لمياه المحيطات بأن ترشح إلى جوف القمر، و هذا سيوفّر مساحة واسعة للتفاعل بين المياه و الصخور.

 

تمّ نشر الورقة الثانية مؤخراً في مجلة Geophysical Research Letters، لتقترح كون النشاط الحرّمائي هو واحد من منشأين محتملين للميتان داخل عمود من الجزيئات متكوّن من اندفاع جزيئات الغاز و الجليد في منطقة القطب الجنوبي لإنسيلادوس، و هذا الاكتشاف كان نتيجةً لنمذجةٍ واسعةِ النطاق أعدّها علماء أمريكيين و فرنسيين لمعرفة لماذا الميتان -كعينات ملتقطة مسبقاً بواسطة كاسيني- وفير بشكل غريب في هذا العمود من الجزيئات. اكتشف الفريق أنّه من الممكن تشكُل مواد متجمّدة تُدعى هيدرات الميثان أو الكلاثرات (Clathrates) في ظروف الضغوط المرتفعة المتوقّعة في محيط القمر، و الكلاثرات تحبس جزيئات الميتان ضمن البنية الكريستالية لجليد المياه، و قد أشارت نماذجها إلى كون هذه العملية فعّالة في استنزاف المحيط من الميتان، و لكن لايزال الباحثون بحاجة لتفسير غزارة الميتان في عمود الجزيئات.

 

يشرح أحد السيناريوات لتفسير غزارة الميتان، بأنه تقوم العمليات الحرّمائية بالإشباع الفائق للمحيط بالميتان، الأمر الذي قد يحصل في حال إنتاج الميثان بسرعة أكبر من تحوّله إلى كلاثرات، و من وجهة نظر ثانية، تنسحب كلاثرات الميثان من المحيط لتندفع متّجهة نحو فوهات القذف مُحررةً الميثان فور خروجها، مثل تشكل الفقاعات الغازية و فرقعتها في زجاجة شمبانيا. يتّفق المؤلفون على أن كِلا السيناريوين من المُحتمَل حدوثهما عند حدٍّ ما، لكنّهم لاحظوا وجود حبيبات السيليكا النانوية –كما تم توّثيقه بواسطة الورقة الأخرى- بشكل أفضل في السيناريو المعتمد على الفعل الحرّمائي.

 

يقول المؤلف الرئيسي أليكسيز بوكيه Alexis Bouquet: "لم نتوقع بأن دراستنا للكلاثرات في محيط إنسيلادوس ستقودنا إلى معرفة الآلية المستمرة لتشكّل الميثان بواسطة العمليات الحرّمائية" بوكيه طالب دراسات عليا في جامعة سان أنطونيو بولاية تكساس، يعمل بوكيه مع هانتر ويت Hunter Waite، و ويت هو مؤلف مساعد و قائد لفريق مطياف الكتلة المحايدة و المُتأيّنة على كاسيني (Cassini Ion and Neutral Mass Spectrometer - INMS) في معهد الأبحاث الجنوبي الغربي في سان أنطونيو.

 

اكتشفت كاسيني عام 2005 أولى العمليات الجيولوجية النشيطة على إنسيلادوس، و التي تتمثل بتدفق الرذاذ الجليدي من منطقة القطب الجنوبي للقمر و رصد درجات حرارة أعلى من المتوقع على السطح الجليدي هناك. كشفت المهمة -مع تركيبتها القوية للأدوات العلمية المتكاملة- وجود أعمدة متصاعدة تظهر من الشقوق الدّافئة نسبياً على السطح المتعرّج، حيث تتكون هذه الأعمدة من أملاح و بخار الماء و الجليد بالإضافة للمواد العضوية. نشرت نتائج علوم الجاذبية في 2014 اقتراحاً يؤكّد وجود محيط بعمق 6 أميال (10كيلومتر) في الأسفل من الغلاف الجليدي ذو السماكة التي تقدر بحوالي 19 إلى 25 ميل (30 إلى 40 كيلومتر).

 

مهمة كاسيني-هيغنز هي مشروع مشترك بين ناسا و وكالة الفضاء الأوروبية ESA و وكالة الفضاء الإيطالية، حيث يقوم مختبر الدفع النفاث التابع لناسا في باسادينا بكاليفورنيا بإدارة هذه المهمة بإشراف مجلس إدارة المهمات العلمية لوكالة ناسا في واشنطن. تمّ تصميم أداة كاسيني CDA بواسطة مركز الطيران الفضائي الألماني، حيث تأسس فريق التصميم في جامعة شتوتغارت بألمانيا و قام بقيادته رالف سراما Ralf Srama.

 

لمعلومات إضافية عن كاسيني: هنا و هنا

 

الملاحظات


[1] إنسيلادوس Enceladus: وهو سادس أقمار زحل من حيث الحجم، تم اكتشافه في 1789، قطره حوالي 310 ميل (500 كيلومتر).

[2] السخّانات Geysers: وهي ينابيع من المياه الحارة المندفعة بشكل متقطع. 

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الغبار (Dust): ليس الغبار الذي يقوم أحدهم بإيجاده حول المنزل فقط (الذي هو في العادة عبارة عن ذرات دقيقة من خلايا الجلد ومواد أخرى)، ولكن بالإضافة إلى ذلك، هذا الغبار في الفضاء عبارة عن الحبيبات شاذة الشكل مكونة من الكربون و/أو السليكون ويبلغ عرضها ميكرون واحد تقريباً، ويمكن إيجادها بين النجوم. يُمكن الاستدلال على وجود الغبار بشكلٍ أساسي عبر قدرته على الامتصاص، الأمر الذي يؤدي إلى تشكل أقسام كبيرة مظلمة في مناطق من مجرتنا درب التبانة ونطاقات مظلمة في كافة أرجاء المجرات الأخرى.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات