مُصادِم الهادرونات الكبير ولغز الطاقة المظلمة

تمت كتابة هذه المقالة استناداً إلى حوار أجراه بين ألانيتش Ben Allanach مع طلاب إحدى المدارس في جامعة كامبريدج في يونيو/حزيران 2015، ويمكنكم الاطلاع على فيديو هذا الحوار بعنوان: 'The Dark Matter Mystery and the Large Hadron Collider' - Professor Ben Allanach.


 

كَوْني عالمَ فيزياء نظرية، فإنني أقضي وقتاً طويلاً في التفكير بالجسيمات الأولية التي يصغر حجمها عن حجم الذرة، إلا أنني مع ذلك أقضي بعضاً من وقتي في التفكير بالكون، وهو كون ضخم بقدر ما يمتد إليه خيالك، وهذا يكون خلال يومٍ واحد، حيث يتوجب عليّ أن أُقلِّص عقلي ومن ثم أُضَخِّمه. ذلك يذكرني بـ "أليس في بلاد العجائب" عندما تشرب ذلك الشراب لتغدو صغيرة ثم تأكل من الفطر لتصبح ضخمة، وهنا أود أن آخذكم معي في رحلة إلى أصغر الأشياء وأضخمها.

ما هي المادة المظلمة؟


لنَبدأ إذًا مع أكثر الأشياء ضخامة، نرى في الفيديو أدناه محاكاة لمجرة مثل مجرتنا وهي تتطور مع مرور الوقت، وكل واحدة من النّقاط الصغيرة تُمثِّل نجماً مثل شمسنا، نرى أن النجوم تدور حول مركز الكتلة، فالمجرّة هنا هي مجرة حلزونية. وإذا ما نظرنا إلى مجرّات أخرى يمكننا أن نحسب سرعة هذه النجوم وهي تدور حول المركز بشكل دقيق، وذلك باستخدام ضوء النجوم الصادر عنها، كما يمكننا استخدام نظرية الجاذبية للتنبؤ بالسرعة التي يُفتَرض أن تصل إليها أثناء دورانها. 


إذا ما قارنت تنبّؤات النظرية بالقياسات الفِعلية ستجد أن هنالك خطباً ما، فالنجوم المحيطة بالناحية الخارجية تتحرك بشكل أسرع بكثير بالمقارنة مع ما تَفتَرضه النظرية، وهكذا فلا بد أن يحدث شيء ما خارج التّوقعات. قد تكون نظرية الجاذبية خاطئة، أو ربما هنالك خطأ في مكان ما، وقد حاول العديد من الأشخاص العمل جزافاً على نظرية الجاذبية التي تَوصَّل إليها أينشتاين، وحتى على نظرية الجاذبية التي توصل إليها نيوتن والتي تُعَدّ أقدم بكثير من سابقِتها، وذلك بهدف جعل الصورة تبدو أكثر قرباً من المراقبات، إلا أنه من الصعب جداً فعل ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار جميع التنبؤات الأخرى للنظرية والتي تتفق مع المراقبات في الوقت ذاته.

أمّا الاحتمال الآخر فهو يتلخص في وجود مادة إضافية هناك، لا يمكنك رؤيتها إلا أن قوة الشد التجاذبي لديها هي المسؤولة عن حركة النجوم، وهي مادة شفافة لا تَعكس الضوء وتبدو سوداء اللون في السماء المظلمة، ولذلك فهي تُدعَى بالمادة المظلمة. إنه لمن المرجح وجود مادة مظلمة في مجرتنا، بل من المرجح في الواقع أن تكون هنالك رياحٌ من الطاقة المظلمة تمر من خلالنا في هذه اللحظة، فالمادة المظلمة لا تتفاعل مع المواد العادية على الإطلاق إلا عبر الجاذبية، كما أن معظمها يَمُرُّ من خلال الأرض مخترقاً إياها، فوِفقاً للتقديرات، يُفتَرض أنّك تحمِل ما يقارب 20,000 ضعف كتلة ذرة هيدروجين من الطاقة المظلمة في جسمك في أي وقت من الأوقات، كما أن رياح الطاقة المظلمة تمر من خلالك بسرعة تقارب 400 كيلومتر في الساعة، ولكن كما هو واضح، إن ثبت كل ذلك فلن تكون هذه الرياح مثل الرياح العادية. 

الدخول إلى جحر الأرنب


من أجل التعرف على ماهية المادة المظلمة وسلوكها يَتوجَّب علينا الوُلوج إلى داخل جحر الأرنب، إذ يجب علينا أن نُقَلِّص أنفسنا إلى حجم بروتون يبلغ حجمه أقل من واحد على كوادريليون [1] من المتر. كما يتوجب علينا أن نسافر إلى سيرن CERN على الحدود السويسرية الفرنسية، حيث اكتَشف مصادم الهادرونات الكبير LHC بوزون هيغز Higgs boson الشهير عام 2012.

صورة تظهر سيرن من الأعلى. المصدر: 2008 CERN.
صورة تظهر سيرن من الأعلى. المصدر: 2008 CERN.

تُشير الدائرة الصفراء على الصورة في الناحية اليمنى إلى موقع النّفق الذي يأوي مُصادِم الهادرونات الكبير، فهو يتواجد على عمق 100 متر تحت الأرض وهو ضخم الحجم: محيط الدائرة في لندن يصل إلى 17 ميل، كما يُعَدّ مصادم الهادرونات الكبير أضخمَ منشأةٍ تجريبية من صنع الإنسان على وجه الأرض. أمّا سبب كَوْن النفق تحت عمق كبير، فهو يكمن في أن مصادم الهادرونات الكبير يحتاج إلى الحماية من الأشعة الكونية القادمة من الفضاء، والتي من شأنها أن تؤثر على البيانات التي يحصل عليها العلماء من التّجارب. هذا ويحتوي الأنبوب الظاهر في الصورة أدناه على تدفقين من البروتونات يسيران في اتجاهين مختلفين.

المصدر: 2008 CERN.
المصدر: 2008 CERN.


يَهدِف مصادم الهادرونات الكبير إلى اكتشاف جسيمات جديدة عن طريق دفع البروتونات للاصطدام ببعضها البعض لرؤية الناتج عن هذا الاصطدام، أما السبب وراء حاجة البروتونات للتحرك بسرعة كبيرة فهو يكمن في معادلة أينشتاين \(E = mc2\)، حيث يمثل E الطاقة، و يمثل m الكتلة، و c يمثل سرعة الضوء. تُبيِّن المعادلة أنه يمكن تحويل المادة إلى طاقة والعكس صحيح، ولكن بما أن سرعة الضوء تعد كبيرة جداً، فسنحتاج إلى الكثير من الطاقة لخلق جزء ضئيل من الكتلة. وبذلك، فإذا ما أردنا الحصول على أمل ضئيل بإنتاج جسيمات غير مكتشفة من خلال التصادمات، يجب أن تمتلك البروتونات الكثير من الطاقة، كما يجب أن تتحرك بسرعة هائلة، أما سبب عدم اكتشاف بوزون هيغز قبل عام 2012 فهو يعود إلى ثقله نسبياً، ولم تكن مسرعات الجسيمات في السابق قادرة على تسريع البروتونات بسرعة كافية لإنتاج هيغز.

يظهر الفيديو أدناه تصوراً فَنياً للبروتونات وهي تتسارع في حلقة (وننبه إلى أن القياسات في الفيديو غير حقيقية، حيث أن البروتونات في الحقيقة أصغر بكثير). تمثل النقاط الثلاث الملونة في داخل البروتون جسيمات أصغر، وهي الكواركات، التي يتكوّن منها البروتون، كما نرى نقاط تقاطع يلتقي عندها الشُّعاعان الملتفّان والمتضادّان. ولأن البروتونات صغيرة الحجم، فإن التدفّقات تحتوي على مساحات فارغة كبيرة، ولذلك فإن البروتونات تمر بجانب بعضها البعض بشكل سريع جداً، إلا أنه في الوضع الطبيعي عندما يمر مليار بروتون بجانب مليار بروتون آخر فإن اثنين منها فقط سيصطدمان ببعضهما البعض ويتفاعلا فيما بينهما. 


 المصدر: 2008 CERN.

عندما يتصادم بروتونان اثنان فهما ينفجران إلى آلاف الأجزاء المندفعة (كما يظهر في الفيديو أدناه) التي يمكن قياسها باستخدام أجهزة الكشف.


 المصدر: 2008 CERN.


يمكننا قياس العديد من خواص هذه الأجزاء المندفعة ومن ثَمَّ التحرّي عما حدث لحظة اصطدام البروتونين ببعضهما البعض، حيث أن أجهزة الكشف في غاية التعقيد (يظهر في الصورة أدناه جهاز الكشف أطلس ATLAS) وهي تعمل مثل الكاميرات الرقمية ثلاثية الأبعاد، حيث يمكنها رصد شُحنة الجسيمات التي تمّ إنتاجها من خلال التصادمات وطاقتها. يمكنك باستخدام هذه الأجهزة التوصل إلى كل ما تريد معرفته حول الأجزاء المندفعة الناتجة عن التصادمات.

جهاز الكشف أطلس. يمكنك إدراك حجمه الهائل إذا ما قارنته بالأشخاص الواقفين في أدنى يسار الصورة. المصدر: 2008 CERN.
جهاز الكشف أطلس. يمكنك إدراك حجمه الهائل إذا ما قارنته بالأشخاص الواقفين في أدنى يسار الصورة. المصدر: 2008 CERN.


العودة إلى المادة المظلمة 


إذًا، ما علاقة كل ذلك بالمادة المظلمة؟ تتلخص الإجابة في شيء يسمى التناظر الفائق (supersymmetry)، فعُلماء الفيزياء يُدركون أن نظريتهم الحالية لوصف جميع الجسيمات الأساسية في الطبيعة غير صحيحة تماماً، ويعد بوزون هيغز الذي تم اكتشافه في مصادم الهادرونات الكبير عام 2012 أحد الأدلة على ذلك، فحسب النظرية المعتمدة يجب أن يكون بوزون هيغز أثقل بكثير من الجسيم الذي تم رصده، أي أثقل بثلاثة مليارات مرة، وهو ما ثبت عدم صحته إلى حد بعيد، إذاً فمن المؤكد أن هنالك جزء خاطئ في النظرية.

يعد التناظر الفائق امتداداً للنظرية العامة، التي يعتقد الناس أنه يمكنها حلّ مشكلة بوزون هيغز، إلا أن نتيجة مهمة أخرى تترتب على ذلك أيضاً، فلو كان التناظر الفائق صحيحاً، يتوجب على كل الجسيمات الأساسية التي رصدناها أن تكون مترافقة مع جسيمات مصاحبة أكثر ثقلاً وتدور بشكل مختلف قليلاً (حيث تتصرف الجسيمات تقريباً مثل البلبل الدوّار). 

واحد من هذه الجسيمات المفترضة فقط يمتلك الخصائص التي تُخَوِّله ليكون هو المادة المظلمة، ويمكنك قياس خصائصه باستخدام النظرية، فالجسيم ثقيل ومستقر ولذلك فهو سيتجول في الكون ولن يكتفي بالتلاشي في شيء آخر، وهو لا يملك شحنة كهربائية ولذلك فهو لا يتفاعل مع الضوء، ما يجعله شفافاً، كما يمكنك المُضِي إلى أبعد من ذلك والقول: "حسناً، لنتنبأ إذًا بالاعتماد على هذه النظرية التخمينية بكمية المادة المظلمة التي يفترض أنها تتواجد حولنا الآن"، وفي الواقع فإن الكمية المُفتَرضة تبدو صحيحة، وهي تبدو كبيرة كذلك.

المشكلة الوحيدة تتمثل في أننا لم نرَ بَعْد أياً من هذه الجسيمات المصاحبة ذات التناظر الفائق، إلا أن مصادم الهادرونات الكبير عاد مؤخراً للعمل من جديد بعد إجراء بعض التحسينات عليه، حيث قام بزيادة طاقته إلى الضعف تقريباً، ولذلك سيكون قادراً على رصد جسيمات أثقل، وأنا أعتقد بأن هنالك فرصة كبيرة في العام أو العامين المقبلين لرصد هذه الجسيمات إذا كانت نظرية التناظر الفائق صحيحة. 

أما عن شكل هذا الاكتشاف، فنشير إلى أن مصادم الهادرونات الكبير لا ينتج الجسيمات الثقيلة الجديدة بشكل كبير، حيث يكون ذلك في اصطدام واحد فقط من بين مليار اصطدام تقريباً، فهي تبدأ بالتلاشي بعد ذلك في جسيمات مرئية يمكنك رؤيتها وفي جسيمات مادة مظلمة كذلك.

تُظهِر الصورة أدناه نموذجاً مصغراً عن أحد أجهزة الكشف، حيث تُمثِّل الأسهم الحمراء البروتونات وهي تتدفق إلى الداخل بينما تمثل الأسهم الخضراء الجسيمات المرئية الخارجة، وكما نعلم جميعاً في ألف باء الفيزياء، فإن زخم Momentum أو (كمية حركة) جسم واحد أو أكثر هو مقدار محفوظ لا يتغير، وقبل حدوث التصادم بين الجسيمين، لا يكون هنالك زخم باستثناء ذلك الموجود في الاتجاهين المتعاكسين باللون الأحمر، ولأن الزخم ثابت، يجب أن يكون مقدار الزخم في أي اتجاه آخر بعيداً عن الاتجاهين باللون الأحمر، يجب أن يكون مساوياً للصفر.

وبذلك، إذا سار جزءٌ من الزخم بعد التصادم في الاتجاه ذي اللون الأخضر، فيجب على نفس المقدار أن يسير في الاتجاه المعاكس (الظاهر باللون الأسود)، وهكذا يمكن لكليهما إلغاء أثر بعضهما البعض. تتصرف المادة المظلمة مثل سارق يحمل الزخم بعيداً، وهكذا، فإذا رصدت في عدة مواطن وبشكل كافٍ زخماً يخرج باتجاه واحد (الاتجاه باللون الأخضر مثلاً)، يمكنك عندها القول بأنك رصدت جسيمات المادة المظلمة، إلا أنه يجب اختبار هذه الفرضية إحصائياً للتأكد من أن المراقبات ليست مجرد ضربة حظ.

تتصرف جسيمات المادة المظلمة وكأنها سارق زخم. المصدر: 2008 CERN.
تتصرف جسيمات المادة المظلمة وكأنها سارق زخم. المصدر: 2008 CERN.


هنالك الكثير من التجارب المفصّلة التي يمكنك إجراؤها و الصورة أدناه تُظهر إحداها، حيث تشير أننا توصلنا إلى نتائج مهمة، فهي تُظهِر الجسيمات التي يتم إنتاجها كما يظهر مقدار طاقتها في المحور العمودي، أما النقاط السوداء فهي تمثل البيانات التي تَم الحصول عليها في أول تشغيل لمُصادِم الهادرونات الكبير.

تم أخذ هذا الرسم البياني من هذه الورقة (https://cdsweb.cern.ch/record/1370064/files/SUS-11-010-pas.pdf) التي تم نشرها من قبل فريق تجربة لولب مركب للميونات Compact Muon Solenoid أو اختصاراً CMS.
تم أخذ هذا الرسم البياني من هذه الورقة (https://cdsweb.cern.ch/record/1370064/files/SUS-11-010-pas.pdf) التي تم نشرها من قبل فريق تجربة لولب مركب للميونات Compact Muon Solenoid أو اختصاراً CMS.


تُخبرنا النظرية العامة أنه يجب علينا الحصول على مدرج تكراري أزرق، فما نراه ليس إلا بيانات إضافية تم الحصول عليها بالصدفة، وهو أمر يمكن أن يحصل بشكل تام عن طريق الصدفة، ويمكنك النظر إلى الأمر كالتالي: إذا قُمت بإجراء التجربة في مئة مصادم هادرونات كبير، سترى تذبذبات مثل هذه بالصدفة في ثلاث تجارب منها. وذلك ليس مستبعداً بشكل كبير، إنما هو مستبعد إلى حد ما، ولذلك فقد افترضت مع زملائي آر راكليف Are Raklev وأندرس كفيليستاد Anders Kvellestad أن التصادم لا يحدث من قَبيل الصدفة، إنما يحدث بفعل إنتاج جسيمات فائقة التناظر، وهذا هو نوع التصادمات التي سنكون بانتظارها في التشغيل القادم لمصادم الهادرونات الكبير.

نحن لا ندري بَعْد إذا ما كانت المادة المظلمة تتواجد بالفعل، فهي لا تزال مجرد فكرة تخمينية، وإذا ما وجدناها في مصادم الهادرونات الكبير فستكون تلك نتيجة مبهرة ستُسجَّل في كتب التاريخ للألف عام المقبلة.

 

ملاحظة:


[1] الكوادريليون هو عدد يساوي مليون مليار، ويكتب كالتالي: 1,000,000,000,000,000. المصدر: ويكيبيديا.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.

اترك تعليقاً () تعليقات