كيف نَحسب المسافات في كونٍ يتوسّع؟

إذا قُلنا أنَّ الضوء القادم من مجرّة بعيدة استغرق 10 مليارات سنة للوصول إلى الأرض (وذلك في حال كانت هذه المجرة تبعد 10 مليارات سنة ضوئيّة عن الأرض)، فلماذا لا يصحّ أن تكون المجرّة في الواقع أبعد من ذلك طالما أنّها ما زالت تواصل الإبتعاد خلال فترة العشرة مليارات سنة تلك منذُ أن بدأَ الضوءُ رِحلتَه نحونا؟

 

وإذا ما كان هناك أي قدرٍ من الصحة في ذلك، فإنَّ المجرات الأبعد والتي تتحرك مبتعدةً عنّا بسرعة مقاربة لسرعة الضوء ستكون على مسافة مقاربة لضعف المسافة الآن مما كانت عليه عندما بدأ الضوء رحلته (28 مليار سنة ضوئية تقريباً إذا كان عمر الكون يبلغ 14 مليار سنة)!

 

من الجائز تماماً أن نقول إنَّ المجرة تبعُد الآن 10 مليارات سنة ضوئيّة من الأرض، إذا كُنت تستخدم تعريفاً معيّناً لـ المسافة إلى المجرّة. ولسوء الحظ فإنّ المسافة هي واحدة من تلك الأشياء ذات المعنى البديهي في الحياة اليومية، ولكنّها ليست بتلك البديهيّة في كوننا الذي لا يزال يتوسّع! إنّ علماء الفلك (وغيرهم من الناس) ليسوا دائماً على بيّنةٍ بشأن ما يعنونه بالضبط حين يتحدّثون عن بُعد الجسم، مما يؤدي إلى كثير من اللَّبَس حول هذا الموضوع.

 

أولاً، وقبل كلِّ شيء، فإنّ توسع الكون لا يقتصر على مجراتٍ تتحرك عبر مساحةٍ ثابتة ما، بل هو تمدد الفضاء نفسه. يتحرّك الضوء خلال هذا الفضاء الذي يتوسّع، وبذلك يتوجب عليه أن يقطع المسافة الأوليّة بالإضافة إلى أيّ مسافة أخرى إضافيّة ناجمة عن توسّع الكون أثناء مسار الرحلة. إنَّ الأمر مماثل للجري على مضمار السباق وهو يتمدد، إذا بدأ مضمار السباق بطول 100 متر لكنّه تمدد أثناء جريك عليه إلى طول نهائي قدره 400 متر من خطّ البداية إلى النهاية، فإنَّ المسافة الإجمالية التي قطعتها جرياً تزيد عن 100 متر.

 

في الواقع، إنّك حينَ تتحدّث عن المسافة بين خطّي البداية والنهاية لمضمار السباق هذا، فإنّك قد تعني عدداً من الأشياء المختلفة:

  1.  قد تعني 100 متر، بما أنّ هذه هي المسافة التي بدأتَ الجري عندها. كما أنَّها هي المسافة المسجّلة على العلامات الموجودة في المضمار.
  2. وقد تعني 400 متر، لأنّ هذه هي المسافة بين خطي البداية والنهاية عند لحظة وصولك إلى خط النهاية.
  3. وقد تعني المسافة الفعليّة التي قطعتها جرياً، والتي تزيد عن 100 متر (بما أن المسار كان يتمدد أثناء جريك عليه)، ولكنها أقلّ من 400 متر (بما أنّ بعض الأجزاء تمددت بعد أن عبرتها فعلاً).

 

سيتضّح لك من المثال أعلاه أنّه عندما يتحدّث علماء الفلك عن "المسافة" إلى مجرّة بعيدة، فإنّ هناك معانٍ متعددة لما قد يقصدونه! تتضمن دروس نيد رايت Ned Wright التدريبية في علم الكونيات مناقشة تقنيّة شاملة لأنواع مختلفة من المسافات التي يستخدمها علماء الفلك (على الرغم من أنك قد تواجه شيئاً من الصعوبة في فهمها إذا بدأت بالاطلاع عليها دون قراءة الأجزاء السابقة من برنامجه التعليمي أولاً). بعض هذه المسافات مماثلٌ لتلك التي نوقشت أعلاه بخصوص مضمار السباق، في حين أنّ البعض الآخر مختلفٌ تماماً. كما أنّه كان قد نشر بعض الإجابات عن أسئلة مماثلة لسؤالك.

 

إذا علمنا بطريقة ما أنّ الضوء القادم من المجرّات البعيدة استغرق 10 مليارات سنة للوصول إلى الأرض، كما يفترض سؤالك، فإنه من الواضح أن المسافة إلى المجرة تبلغ 10 مليارات سنة ضوئية إذا ما كنا نستخدم التعريف رقم (3). أما إذا كنا نستخدم التعريف رقم (1)، فإننا سنقول إن المسافة إلى المجرة هي أقل من 10 مليارات سنة ضوئية (أي أنها كانت أقرب من 10 مليارات سنة ضوئية عندما انبعث الضوء). وإذا كنا نستخدم التعريف رقم (2)، فسنقول إنّ المسافة إلى المجرة هي أكبر من 10 مليارات سنة ضوئية (أي أنها أكبر من 10 مليارات سنة ضوئية في الوقت الراهن، عندما وصل الضوء إلينا).

 

وكما ترى، إذا قلنا إنّ المجرّة تبعد 10 مليارات سنة ضوئية فإن هذه العبارة ملتبسة! وهذا لن يعني شيئاً في الواقع، إلا إذا حددت بالضبط ما هو التعريف الذي تستخدمه للمسافة. وعلى الرغم من أن التعريف رقم (2) هو على الأرجح التعريف الأكثر انسجاماً مع حدسك لماهية المسافة، إلا أنه ليس دائماً التعريف الأفضل في علم الفلك! ففي نهاية الأمر يشكلُ الضوء الذي يصلنا من مجرة بعيدة المصدر الوحيد لمعلوماتنا عن هذه المجرة. لذا، فإننا قد نولي اهتماماً أكبر نوعاً ما بالمسافة التي قطعها الضوء (التعريف رقم 3) من اهتمامنا بمدى بُعد المجرة الآن (التعريف رقم 2)، وذلك لأن مدى بُعد المجرة الآن ليس ذو أثر على ما نراه عندما ننظر إلى المجرة.

 

إلا أنّ كل ما ناقشناه من تعريفات للمسافة هنا يعاني مشكلةً عمليّةً صغيرة. لكي نستخدم القياسات الفلكية في قياس المسافة التي تفصلنا فعلياً عن مجرة معينة، فإننا بحاجة لأن نعرف شيئاً عن تاريخ توسع الكون (وبعبارة أخرى، كيف تمدد مضمار السباق مع مرور الزمن؟). تعطي النماذج المختلفة لتوسع الكون أرقاماً مختلفة عن المسافة إلى المجرة، وعلى الرغم من أن القياسات الحديثة (لا سيما تلك التي تم الحصول عليها من المسبار WMAP) تساعدنا على اكتساب المزيد من المعرفة عن كيفية توسع الكون، إلا إننا ما زلنا نجهل كل التفاصيل.

 

ولذلك، فإنّ قياس المسافة إلى المجرات البعيدة، الذي يشيع استخدامه بين علماء الفلك، هو أكثر بساطة وأقل غنىً بالمعلومات من تعريفات المسافة التي نوقشت أعلاه، ولكن قياسه أكثر سهولة! يعرف قياس المسافة هذا بـ الانزياح نحو الأحمر (redshift) لمجرة بعيدة. ويستفيد علماء الفلك من حقيقة أن الضوء في أثناء انتقاله عبر الكون المتسع، فإنه هو نفسه يتمدد بفعل ذات العامل، مما يتسبب في زيادة طوله الموجي وتغير لونه أكثر نحو القطاع الأحمر من الطيف. ويشير الانزياح نحو الأحمر للضوء إلى مقدار تمدده، وهو أساساً مقياسٌ لمدى توسع الكون أثناء رحلة الضوء من المجرة البعيدة إلينا.

 

يستطيع علماء الفلك قياس الطول الموجي للضوء الذي نتلقاه على الأرض، كما يستطيعون عادة تخمين الطول الموجي الذي كان عليه الضوء حين انبعاثه أيضاً، وذلك بناءً على ما يُعرف عن العمليات الكيميائية المتعلقة بإنتاج الضوء. وبالتالي، فبوسعهم بسهولة حساب الانزياح نحو الأحمر لأي جسم بعيد تقريباً.

 

لقد تمدد المسار بعامل يبلغ 4 (من 100 متر إلى 400 متر) في مثال مضمار السباق الذي نوقش أعلاه. سيقول علماء الفلك إن الانزياح نحو الأحمر في هذه الحالة هو 3 (يُعرّف الانزياح نحو الأحمر بأنه أقل بواحد من المعامل الذي اتسع الكون بموجِبه، وبهذه الطريقة فقط يمكن للانزياح نحو الأحمر أن يساوي الصفر إذا لم يكن هناك أي توسع على الإطلاق). فإذا كنت تجري على مضمار السباق وتَصرّف جسمُك مثل سلوك الضوء، فإنك ستصل إلى خط النهاية لتجد أن جسمك أصبح أكبر بأربع مرات عما كان عليه عندما بدأت!

 

إن الانزياح نحو الأحمر ليس مقياساً تقليدياً للمسافة بالمعنى المعتاد. فالوقوف عند خط النهاية والقول بأن خط البداية قد انزاح نحو الأحمر 3 درجات لا يخبرنا شيئاً عن مدى كبر حجم المضمار أو بُعد المسافة التي قطعتها لتوك جرياً (وربما كان هذا هو السبب في عدم استخدام الصحافة العلمية للانزياح نحو الأحمر في وصف المسافات، على الرغم من أن هذا ما يستخدمه علماءُ الفلك طوال الوقت - إنه ليس شيئاً يمكن للقراء إدراكه حدسياً). ومع ذلك، فإن هناك معنى ما لهذا المفهوم -ففي كون يتسع، تكون الأجسام الأكثر انزياحاً نحو الأحمر هي الأبعد. لذلك، إذا أظهرت قياساتنا أن انزياح مجرة ما نحو الأحمر يبلغ 3 درجات وانزياح مجرة أخرى يبلغ 3.5 درجة، فقد لا نتمكن من تصور كم سنستغرق من الوقت للوصول إلى أي منهما في مركبة فضائية، ولكن يمكننا على الأقل أن نحدد إلى أيهما سنصل أسرع!

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات