هل سبق وسمعت بسائل كمومي؟ ما هي السوائل الكمومية المغزلية؟

تعتبر الخاصية المغناطيسية إحدى أقدم خواص المواد التي تم التعرف إليها، فمنذ العصور القديمة، تصف سجلاتٌ من القرن الثالث قبل الميلاد كيفية استخدام الحجر المغناطيسي (lodestone)، والذي هو عبارةٌ عن حديدٍ خامٍ ممغنط، يتواجد طبيعياً في البوصلات المغناطيسية البدائية. 


ونفهم اليوم -بفضل نظرية ميكانيكا الكم- الطبيعة المغناطيسية للمواد، بالإضافة إلى مفهوم اللّف الذاتي "السبين spin" الذي يفسر سلوك جسيماتٍ أوليةٍ كالإلكترونات في المواد التي تكسبها صفة المغناطيسية.

اللّف الذاتي (أو السبين) هو خاصيةٌ تتمتع بها الجسيمات دون الذرية مثل الإلكترونات والكواركات (quarks)، حيث يجعل كل إلكترونٍ منفردٍ يتصرف كما لو أنه إبرة بوصلةٍ مغناطيسيةٍ صغيرة. 


تتفاعل سبينات ملايين أو مليارت الإلكترونات في قطعةٍ من المادة مع بعضها البعض بطرقٍ متعددة، وتستقر مشكّلةً الحالات المغناطيسية المحتملة والمختلفة للمادة الصلبة، وبالأخذ بعين الاعتبار العدد الكبير للإلكترونات المغزلية، فإن سبين الإلكترونات يمنح المادة نفسها نفس خصائصه المغناطيسية. 

تعتبر المغناطيسية عنصراً أساسياً في البهارج الأساسية للحداثة، فالمواد المغناطيسية تُشكل أساس الإلكترونيات الحديثة وتخزين المعلومات، وبأخذ ذلك بعين الإعتبار، يسعى العلماء إلى اكتشاف موادٍ تتمتع بسلوكٍ مغناطيسيٍّ جديدٍ تماماً، أو حالاتٍ جديدةٍ للمادة ذات خصائص غير مسبوقة وقد تكون مفيدة. 

السائل الكمومي السبيني (quantum spin liquid) هو أحد تلك المواد، وقد اقترحه لأول مرةٍ عالم الفيزياء النظرية الحاصل على جائزة نوبل فيليب وارين أندرسون Philip Warren Anderson في أوائل السبعينيات، ومن ثمّ، بيّن فريق بحثٍ يقوده البروفيسور ستيفين ناغلر Stephen Nagler من مختبر أوك ردج الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية، طبيعة ذلك السائل في المادة المغناطيسية كلوريد الروثينيوم الثلاثي (α-RuCl₃) في ورقةٍ علميةٍ نُشرت في مجلة Nature Materials.


كيف تتشكل السوائل الكمومية السبينية (المغزلية)؟


كثيراً ما توجد السوائل الكمومية المغزلية في صنفٍ من المواد يُعرف باسم المغانط المحبطة (frustrated magnets). ينتج عن التفاعلات بين السبينات في المغانط التقليدية، تشكيلاتٍ مستقرةً تُعرف بترتيبها طويل المدى، حيث تتحاذى الاتجاهات المغناطيسية لكل إلكترونٍ منفرد. 

 

الهربت سميثايت Herbertsmithite، وهو مصدرٌ مرشحٌ للسوائل الكمومية المغزلية.
الهربت سميثايت Herbertsmithite، وهو مصدرٌ مرشحٌ للسوائل الكمومية المغزلية.

أما في المغانط المحبطة، فترتيب سبينات الإلكترونات (اللف الذاتي للإلكترونات) يحول دون تشكيلها لتحاذٍ منتظم، مما يجعلها تنهار إلى حالةٍ متذبذبةٍ وشبيهةٍ بالسائل (fluctuating, liquid-like state).

 

 وفي حالة السائل الكمومي المغزلي، لا تصطف سبينات الإلكترونات أبداً، حيث تستمر بالتذبذب حتى تحت درجة حرارة الصفر المطلق المنخفضة جداً، والتي تتجمد عندها سبينات الحالات المغناطيسية الأخرى الخاصة بالمادة. 

عادةً ما توجد الظروف اللازمة لتشكل السائل الكمومي المغزلي في الطبيعة، وأحد الأمثلة الأكثر شهرةً على ذلك، هو معدن الهربت سميثايت (Herbertsmithite) ذي الأساس النحاسي، إذ يوجد دليلٌ قويٌّ يقترح أن السائل الكمومي المغزلي يتواجد بين طبقات المغانط المحبطة لأيونات النحاس التي تشكل هيكلها.

أين يمكن أن نجد السوائل الكمومية المغزلية؟ 


تكمن إحدى التحديات التي يواجهها العلماء، في إعادة تكوين الظروف اللازمة لتشكل عناصر مرشحة لتكون سوائل كمومية مغزلية صناعياً وداخل المختبر للسماح بفهمٍ كاملٍ لخصائصها، فالشخصية المراوغة لتلك السوائل تجعل من الصعب تأكيد وجودها وتحديد طبيعتها بدقة. 


لكن يمكن الاستدلال على وجودها عن طريق رصد الافتقار لتحاذي سبينات الإلكترونات، لكن تأكيد ذلك بشكلٍ نهائيٍّ أمرٌ صعب، وكما يردد القول المأثور: غياب الأدلة ليس دليلاً على الغياب. وللحصول على تأكيدٍ إيجابيٍّ لوجودها، يهدف نهجٌ آخر أكثر تطوراً، إلى كشف الخصائص الفريدة من نوعها والأكثر تميزاً للسوائل الكمومية المغزلية. 

ولذلك السبب فإن دراسة ناغلر جديرة بالملاحظة، فلقد بيّن الفريق في تجارب استخدموا فيها التحليل الطيفي النيوتروني (neutron spectroscopy) أنّ كلوريد الروثينيوم الثلاثي يُطلق شيئاً قريباً جداً من نكهةٍ مميزةٍ للسائل الكمومي المغزلي، ويُعرف ذلك الناتج باسم سائل كيتاف المغزلي (Kitaev spin liquid). 


وإحدى الشروط الأساسية لحالة السائل الكمومي المغزلي هذه، هي أنّ سبينات أيونات الروثينيوم تُشكل شبكةً "محبطة" على هيئة خلية النحل: بنية طبقية ثنائية الأبعاد وسداسية الشكل تُشابه بنية ذرات الكربون في الغرافيت (graphite). 

وفي تجربتهم، تم تشتيت حزمةٍ من النيوترونات قادمة من مسرع، على عينةٍ من كلوريد الروثينيوم الثلاثي بهدف نقل الطاقة بين النيوترونات والعينة خلال العملية، ومن ثم، جرى حساب تلك الطاقة المنتقلة باستعمال مجموعةٍ من الكواشف محيطة بالعينة، وقد تلاءمت الاستجابة المرصودة مع تلك التي قدمتها نظرية سائل كيتاف المغزلي تحديداً. 

ماذا يمكننا أن نفعل بالسوائل الكمومية المغزلية؟


نعلم الآن أن السوائل الكمومية المغزلية توجد بأنواع مختلفة وبصفات متنوعة، لكنها تتشارك جميعاً القدرة على دعم ظواهر غريبة في ميكانيكا الكم، وهذا ليس بالأمر المثير من وجهة نظرٍ علميةٍ فقط، إذ يمكن استغلال هذه الحالات في تطوير الحواسيب الكمومية (quantum computers)، بالإضافة إلى تقنياتٍ كموميةٍ تحويليةٍ أخرى، من المتوقع أن تُحدث تغييراتٍ ثوريةٍ في طريقة معالجتنا وتخزيننا للبيانات خلال القرن الـ 21. 

سنتمكن في عصر الحوسبة الكمومية من تطبيق حساباتٍ لم تُحل حالياً حتى باستخدام أقوى الحواسيب الفائقة (supercomputers) في يومنا هذا. وسيُحدث ذلك ثورةً في مجالاتٍ واسعة، حيث نواجه مشاكل في حل أكبر التحديات في عصرنا انطلاقاً من اكتشاف الأدوية ووصولاً إلى تصميم مواد أكثر ذكاءً لكثيرٍ من التطبيقات. 


ومع اكتشافنا للمزيد من المواد المرشحة لتكون سوائل كمومية وزيادة فهمنا لسلوكها، سنزيح النقاب عن المزيد من الفيزياء الغريبة، ونجد طرقاً للتلاعب والتحكم بهذه الحالات الجديدة من المادة لتسخيرها لمصلحتنا!

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الحواسيب الكمومية (Quantum computers): هي الحواسيب التي تعتمد على مبادئ ميكانيك الكم وظواهره مثل التراكب الكمي والتشابك الكمي لمعالجة البيانات. تُقاس البيانات في الحواسيب التقليدية بواحدة البت، أما في الحواسيب الكمومية فتقاس بالكيوبت Qubit
  • التحليل الطيفي (Spectroscopy): التحليل الطيفي ببساطة هو علم قياس شدة الضوء عند الأطوال الموجية المختلفة. وتُسمى المخططات البيانية الممثلة لهذه القياسات بالأطياف (spectra)، وهي المفتاح الرئيسي لكشف تركيب الأغلفة الجوية للكواكب الخارجية. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات