فيزياء الجسيمات الأولية: الجزء الثاني

في الجزء الأول من هذا المقال قمنا بمراجعة الجسيمات الأولية والقوى التي تشعر بها. وسوف نقوم الآن باكتشاف بعض الألغاز حول فيزياء الجسيمات والتي لا تزال مفتوحة. 

فيزياء النيوترينو


تعد "فيزياء النيوترينو" (Neutrino physics) أحد أكثر المجالات إثارةً في فيزياء الجسيمات في السنوات الأخيرة، ففي تجارب الستينات الميلادية أظهرت أشعة النيوترينو في مسرعات المختبرات بأن النيوترينات المرتبطة بالإلكترونات تختلف عن النيوترينات المرتبطة بالميونات (muons). وفي العام 2000 تم اكتشاف النوع الثالث من النوترينات، ويعرف بـ"نيوترينو تاو" (tau neutrino)

في آواخر الستينات الميلادية، اكتشف العالم ريموند ديفس Raymond Davis بأن عدد النيوترينات التي تصل إلى الأرض عن طريق الشمس يعادل تقريباً ثلث العدد المتوقع وصوله من الحسابات النظرية لتفاعلات الاندماج النووي. كانت هذه التجربة بالغة الصعوبة، ولكنها استمرت لعدة سنوات وتمت إعادة الحسابات للتفاعلات بداخل الشمس. 


فيزياء الجسيمات
فيزياء الجسيمات


أظهرت جميع التجارب اللاحقة والتي تمت باستخدام طرق مختلفة للكشف والتي كانت حساسة لطاقات مختلفة من نيوترينات الشمس عن وجود خلل في النتائج. أحد الحلول المقترحة لمشكلة النيوترينات الشمسية هذه هو أن النيوترينات التي تتولد في الشمس (وهي نيوترينات الإلكترون، انظر لجدول الجسيمات الأولية) تحولت إما إلى نوع واحد من الإلكترونات الأخرى أو إلى كلا النوعين، وهذا لن يتم الكشف عنه في التجارب. يتطلب "خلط النيوترينات" (neutrino mixing) بهذه الطريقة أو ما يعرف بـ "تذبذب النيوترينات" (neutrino oscillations) بأن تمتلك النيوترينات كتلة أكبر من الصفر. 

في التسعينات الميلادية، أُنشئت عدة كاشفات ضخمة جداً مدفونة في باطن الأرض لحمايتها من الأشعة غير المرغوبة، بهدف الكشف عن النيوترينات الشمسية وكذلك النوترينات ذات الطاقات العالية جداً المتولدة من تحللات الأشعة الكونية. وفي تجربة مهمة أُخرى تم قياس تدفق نيوترينات الإلكترون في موقع مركزي يبعد حوالي 140 حتى 210 كم عن عدد كبير من المفاعلات النووية في اليابان. وقد ظهرت صورة واضحة الآن، خلط النيوترينات يحدث بالفعل! 


حصل كل من ريموند ديفس وماساتوشي كوشيبا Masatoshi Koshiba، وهو رائد الكاشف الكبير كاميوكاندي Kamiokande، على جائزة نوبل للفيزياء لعام 2002 بسبب نتائجهم حول هذه التجارب. ومنذ ذلك الوقت بدأ البحث عن نيوترينات المسرعات في الكواشف الضخمة في باطن الأرض. 

مختبر مكعب الثلج (The Ice Cube) مضاء بنور القمر. حقوق الصورة: ايمانويل ياكوبي، مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية - Emanuel Jacobi, NSF.
مختبر مكعب الثلج (The Ice Cube) مضاء بنور القمر. حقوق الصورة: ايمانويل ياكوبي، مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية - Emanuel Jacobi, NSF.

في الآونة الأخيرة بنيت العديد من كاشفات النيوترينات الضخمة، أحدها هو "مكعب الثلج" (Ice Cube) والذي يستخدم واحد كيلومتر مكعب من الثلج في القطب الجنوبي للكشف عن النيوترينات الكونية ذات الطاقة العالية جداً. التفاعلات التي تتم في الأرض لهذه النيوترينات تعطي الضوء لإلكترونات أو ميونات عالية الطاقة، والتي يتم الكشف عنها بعد ذلك عن طريق الضوء الذي يتم انبعاثه على الثلج (ويعرف بإشعاع شيرينكوف "Cherenkov radiation")، والتي يتم امتصاصها في مضاعفات ضوئية (photomultipliers) مدفونة بداخل الثلج. 

وجدت النيوترينات بأنها تمتلك لف مغزلي (سبين) باتجاه واحد (اليد اليسرى)، والنيوترينات المضادة في الاتجاه المعاكس. هذا التصرف الشبيه بالمفتاح يعرف بـ"الحلزونية" (helicity). وبالرغم من ذلك، عندما تسير في إطار مرجعي بسرعة أكبر من النيوترينات، سوف تنقلب السرعة بالنسبة لللف المغزلي، بما أن النيوترينات تمتلك كتل سكون. 


لهذا من الممكن أن النيوترينات والنيوترينات المضادة هما في الحقيقة متطابقتان، وأن الاختلافات التجريبية حصلت بسبب الخاصية الحلزونية. أجسام كهذه سوف يطلق عليها "نيوترينات مايورانا" (Majorana neutrinos) تيمناً بالعالم ايتوري مايورانا Ettore Majorana، الذي قدم هذا الإقتراح في أواخر الثلاثينيات. في هذه الحالة سوف يحصل لبعض الأنوية الثقيلة تحلل بيتا والذي سينتج عنه إلكترونين ولن ينتج أي نيوترينات. ولا تزال الأبحاث في هذا المجال مستمرة.

نظرية الجسيمات


في هذه النبذة القصيرة، ذُكر القليل جداً حول التقدمات النظرية في فيزياء الجسيمات. هناك بعض المخططات الرياضية التي توحد القوة الشديدة (strong interaction) بالنظرية الكهروضعيفة (electroweak theory). تعرف هذه بالـ"النظريات الموحدة العظمى" (grand unified theories)، أو اختصاراً GUTs. 


نظرية أخرى، وهي "التناظر الفائق" (supersymmetry)، وهي التي تربط اللبنات الأساسية -الكواركات (quarks) واللبتونات (leptons)- بناقلات القوة. وهذا يتطلب أزواج جديدة لكل من هذه الجسيمات، والتي لم يكتشف أي منها حتى الآن.


والعديد من النظريات المثيرة والعصرية كنظريات "الأوتار الفائقة" (Superstring theories)، واتساعها مؤخراً، "نظريات-إم" (M-theories)، والتي تتطلب التناظر الفائق. ويتم فيها معاملة الجسيمات كإثارات لأوتار صغيرة للغاية. وبهذا يتجنب النهايات غير المرغوبة والتي تبدأ بالظهور في الرياضيات عندما يتم معاملة الجسيمات كأجسام نقطية. 


بالنسبة لنظريات الأوتار الفائقة فهي تتطلب أكثر من الفضاءات الثلاث المعتادة والبعد الزمني الوحيد. من المفترض أن تكون الأبعاد غير المرئية ملتفة بإحكام (compactified) -منحنية بحيث أنها أصغر من أن نراها، كما يبدو سلك التلفون المربوط بالبرج عندما نراه على بعد مسافة وكأنه على بعد واحد فقط-. وتمتلك الإمكانيات لكي تقدم نظرية كمية للجاذبية (quantum theory of gravity)، وتربط الجاذبية بالقوى الأخرى، وهناك المزيد من النشاطات في هذا المجال.

 روابطها مع علم الكون


تبين صورة الانفجار الكبير الحار بأن الكون البدائي كان عبارة عن حساء بدائي من الجسيمات الأولية، واليوم تقدم الآلات ذات الطاقة العالية طاقات تصادم تشابه تلك الطاقات المتولدة عندما كان عمر الكون أقل من واحد نانوثانية. 


صورة من تلسكوب هابل الفضائي للمستعر الأعظم 1994D والذي يقع في حافة المجرة NGC 4526.  أدت المرصودات للمستعر الأعظم لنتيجة أن الكون يتوسع بمعدل متسارع.  المصدر: ناسا NASA
صورة من تلسكوب هابل الفضائي للمستعر الأعظم 1994D والذي يقع في حافة المجرة NGC 4526. أدت المرصودات للمستعر الأعظم لنتيجة أن الكون يتوسع بمعدل متسارع. المصدر: ناسا NASA

قدمت القياسات الدقيقة للتقلبات في "الخلفية المايكروية الكونية" (cosmic microwave background)، والرصد للتسارع في التوسع الكوني، ورسم النماذج بواسطة الكومبيوتر لتشكيل المجرات والتجمعات النجمية مؤخراً منظر ثابت للكون. 

الكون مسطح هندسياً: أشعة الضوء المتوازية لا تتقاطع ولا تتباعد. وتحتل المادة المرصودة في الكون، التي يمكن الكشف عنها في أي جزء من أجزاء المطياف الكهرومغناطيسي، ما يعادل 5٪‏ فقط من كثافة الطاقة في الكون، ويذهب 27٪‏ إلى "المادة المظلمة الباردة" (cold dark matter) والجزء المتبقي 68٪‏ يعود إلى الطاقة المظلمة (dark energy). ومن المحتمل أن النيوترينات تحتل 0.5٪‏ فقط من المجموع. إذن نحن نعلم الكثير حول فيزياء الجسيمات، ولكن حول الـ5٪‏ فقط! 

الجسيمات المرشحة لتنضم إلى المادة المظلمة هي WIMPs، "الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل" (weakly interacting massive particles)، والجسيم الأكثر تفضيلاً منها هو "نيوترالينو" (neutralino) جسيم التناظر الفائق الأقل حجماً. يجري الآن البحث عن جسيمات WIMPs في عدة مختبرات تحت الأرض. 

 

وننتقل للأكثر غموضاً وهي "الطاقة المظلمة" (Dark energy)، تظهر هذه الطاقة وكأنها ضغط سلبي للفضاء، تذكير للثابت الكوني الذي وضعه آينشتاين في معادلاته لكي يمنع انحلال الجاذبية للكون الساكن، قبل أن يكتشف تلسكوب هابل بأن الكون يتوسع.

الآفاق المستقبلية


تعتبر خطط تطوير المصادم الهادروني الكبير LHC في مرحلة متقدمة حالياً. ويتم الكشف عن امكانية بناء مصادم ضخم بروتون-بروتون في سيرن. ووصلت التصاميم لمصادم خطي ضخم إلكترون-بوزيترون إلى مراحل متقدمة، وهناك تأمل بأن يتم الموافقة على آلة كهذه في السنوات القليلة القادمة، ويتم بناءها كمشروع تعاوني عالمي. حالياً الموقع الأكثر احتمالية لها هو في اليابان. 


وفي المستقبل الأبعد قليلاً من المحتمل أن يكون هناك إمكانية لعمل أشعة نيوترينات ذات طاقة عالية وأكثر شدة ومتحكم فيها بشكل جيد ناتجة من تحللات الميونات في حلقة التخزين، على الرغم من أنه في الوقت الراهن توجد عدة مشاكل تقنية لم يتم حلها.

أصل أكثرية المادة على المادة المضادة غير معروف حتى الآن. وهناك أمل بأن يتم اكتشاف الأصل في السنوات القليلة القادمة. إذا كانت الجسيمات فائقة التناظر موجودة، فسيتم العثور عليها في المصادم الهادروني الكبير. وإذا لم يتم العثور عليها هناك، فإنه من المحتمل أن يتم تجاهل التناظر الفائق وستحل محله نظرية بديلة.

 ماذا سيظهر أيضاً؟


يأخذ الفيزيائيون بشكل مؤكد أن شحنات الإلكترونات والبروتونات متساوية عددياً، وبالفعل هما متساويتان تجريبياً لأكثر من جزء واحد من \(10^{21}\). ولكن بالنسبة لللبتونات والكواركات فإنهما مختلفتين تماماً. 


ما هي الحدود الأخيرة لفيزياء الجسيمات؟
ما هي الحدود الأخيرة لفيزياء الجسيمات؟

شحنة ثلاث كواركات تساوي عددياً شحنة إلكترون واحد، ولا يمكن أن يكون هذا صدفة. من المحتمل أنه عند طاقات عالية، كالتي تواجدت في بداية الكون، بأن اللبتونات والكواركات ترابطت مع بعضها البعض. أما عند الطاقات المنخفضة، فإن هذا التناظر ينكسر بشكل مماثل إلى "كسر التناظر الكهروضعيف" (electroweak symmetry breaking). 

في عام 1997 كان هناك إثارة عندما أظهر تصادم بين بوزيترونات وبروتونات في آلة "هيرا" (HERA) في "ديسي" (DESY) بعض العلامات حول وجود جسيمات "لبتوكواركات" (leptoquarks). ولكن أظهرت المزيد من البيانات بأن هذا التأويل كان خاطئاً، ولكن يبدو أنه من المحتمل في المستقبل القريب جداً بأن يظهر مفهوم أفضل للعلاقة بين اللبتونات والكواركات. 

ومن الممكن أن تأتي نظرية التناظر الفائق بتخمينات قابلة للتجربة والاختبار. وعلى الرغم من أن "الجرافيتون" (graviton) وهو الناقل الكمومي لقوة الجاذبية، يتناسب بشكل جيد مع صورة الأوتار الفائقة، يبدو أنه من غير المحتمل أن يتم العثور عليه في المستقبل القريب. ومع ذلك، فإنه يتم توقع اشعاع الجاذبية من النسبية العامة، ويستدل على تواجده من القياسات الدقيقة على مدى سنوات عديدة من التغير في الفترة من النجم النابض ثنائي.

 

وتقع عدة أجهزة للكشف عن إشعاع الجاذبية في المراحل النهائية من البناء. وهي أجهزة ضخمة لقياس التداخل البصري (optical interferometers)، وتأتي بأذرع يتراوح طولها بين 0.6 كم وحتى 4 كم، وتبحث عن تشويه الفضاء الناجم عن الأحداث الفلكية العنيفة. وبالتالي فإن خصائص الجاذبية ستفتح نافذة جديدة في علم الفلك. وسوف يكون هناك مفاجآت غير متوقعة بلا شك، كما حدث في الماضي. 

 

الكاتب


أتوقع أن تستمر الروابط بين فيزياء الجسيمات والفيزياء الفلكية وعلم الكونيات بأن تكون مثيرة في المستقبل القريب جداً. 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الجسيمات فائقة الكتلة وضعيفة التفاعل (Weakly Interacting Massive Particles): أو اختصاراً WIMPs، وتُعتبر من بين المرشحين الفيزيائيين الأقوى لتكون جسيمات المادة المظلمة، ويُعتقد أن هذه الجسيمات تتفاعل مع غيرها من الجسيمات عبر قوى الثقالة والقوى النووية الضعيفة.
  • إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (cosmic microwave background): أو اختصاراً CMB، وهو الإشعاع الحراري الذي خلفه ورائه الانفجار العظيم، وهي موجودة في كل الاتجاهات بالكثافة نفسها، وتعادل درجة حرارة 2.725 درجة كلفن.
  • مقياس التداخل (interferometer): عبارة عن أداة تقوم بقياس التداخل (Interferometry)
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.
  • الطاقة المظلمة (Dark Energy): هي نوع غير معروف من الطاقة، ويُعتقد بأنه المسؤول عن تسارع التوسع الكوني.
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات