كيف تسطع الشمس

ما الذي يسبب سطوع الشمس؟ كيف تُنتج الشمس ذلك الكم الهائل من الطاقة اللازمة لدعم الحياة على الأرض؟ تحدّت هذه الأسئلة العلماء لمئة وخمسين عاماً، بداية من منتصف القرن التاسع عشر. وخاض علماء الفيزياء النظرية جدلاً محموماً مع علماء الجيولوجيا وعلماء البيولوجيا التطورية حول من يملك الإجابة الصحيحة. 

لماذا كانت كل هذه الضجة حول هذا اللغز العلمي؟ قدم جون هيرشيل John Herschel، عالم الفلك من القرن التاسع عشر، وصفاً بليغاً للدور الجوهري لأشعة الشمس في حياة البشر كلها في كتابه "رسالة في علم الفلك"، الذي صدر في العام 1833:

"أشعة الشمس هي المصدر المطلق تقريباً لكل حركة تجري على سطح الأرض. بواسطة حرارتها تنتج كل الرياح ... بواسطة فعلها المنشط تتخلّق الخضروات من المواد غير العضوية لتصبح، بدورها، مصدر دعم للحيوانات والإنسان، ومصادر لذلك المخزون الكبير من الكفاءة الديناميكية التي أعدت للاستخدام البشري فيما لدينا من طبقات الفحم". 

أشعة الشمس تجعل الحياة ممكنة على الأرض
أشعة الشمس تجعل الحياة ممكنة على الأرض


في هذه المقالة، سوف نستعرض، من منظور تاريخي، تطور فهمنا لكيفية سطوع الشمس (أقرب نجم)، مُستهلين في القسم التالي مع جدل القرن التاسع عشر حول عمر الشمس. وسنرى في الأقسام اللاحقة كيف أن اكتشافات الفيزياء الأساسية، التي بدت غير ذات صلة، أدت إلى نظرية في توليد الطاقة النووية في النجوم والتي أدت إلى حسم الجدل حول عمر الشمس، وفسرت مصدر الإشعاع الشمسي. وفي القسم السابق للموجز، سوف نناقش كيف كشفت التجارب، التي صُممت لاختبار نظرية توليد الطاقة النووية في النجوم، عن سر جديد، سر "النيوتريونات" (Neutrinos) المفقودة.

عمر الشمس


كم عمر الشمس؟ كيف تسطع الشمس؟ هذان السؤالان وجهان لعملة واحدة، كما سنرى.

من الممكن حساب معدل الطاقة المنبعثة من الشمس بسهولة بواسطة قياس المعدل الذي تصل به الطاقة إلى سطح الأرض والمسافة بين الأرض والشمس. تعادل الطاقة الكلية التي انبعثت من الشمس خلال حياتها تقريباً ما ينتُج عن المعدل الحالي الذي تنبعث به الطاقة، والذي يسمى "ضياء الشمس" (solar luminosity)، مضروباً بعمر الشمس.


كلما ازداد عمر الشمس، كلما ازداد القدر الإجمالي للطاقة الشمسية المنبعثة. وكلما ازدادت الطاقة المنبعثة، أو كلما ازداد عمر الشمس، كلما ازدادت صعوبة العثور على تفسير لمصدر الطاقة الشمسية.


لكي نُقدر بشكل أفضل مدى صعوبة إيجاد تفسير، دعونا نتأمل مثالاً محدداً عن المعدل الهائل لانبعاث الطاقة عن الشمس. لنفترض أننا وضعنا سنتيمتراً مكعباً من الثلج في الخارج في يوم صيفي على نحو يؤدي إلى امتصاص الثلج لكل أشعة الشمس. حتى مع المسافة الكبيرة بين الأرض والشمس، ستذيب أشعة الشمس مكعبات الثلج في حوالي 40 دقيقة.

 

وبما أن هذا سيحدث في أي مكان في الفضاء يقع على مسافة مساوية لبعد الأرض من الشمس، فإن قشرة كروية ضخمة من الثلج يبلغ قطرها 300 مليون كيلومتر (200 مليون ميل) ومتمركزة على الشمس ستذوب في نفس الوقت. أو بتقليص نفس الكمية من الجليد وصولاً إلى سطح الشمس، يمكننا حساب أن منطقة مساحتها أكبر من سطح الأرض بعشرة آلاف مرة وسماكتها حوالي نصف كيلومتر (0.3 ميل) أيضاً ستذوب في 40 دقيقة، بواسطة الطاقة التي تتدفق من الشمس.

في هذا القسم، سنناقش كيف حاول علماء القرن التاسع عشر تحديد مصدر الطاقة الشمسية، باستخدام عمر الشمس كمفتاح للحل.

تقديرات متضاربة للعمر الشمسي


اعتقد علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر أن مصدر طاقة إشعاع الشمس هو قوة الجذب (gravitation). في محاضرة مؤثرة قدمها في العام 1854، اقترح هيرمان فون هيلمولتز Hermann von Helmholtz، وهو أستاذ ألماني مختص في علم وظائف الأعضاء وأصبح أستاذاً وباحثاً متميزاً في الفيزياء، أن أصل الطاقة الهائلة المشعة من الشمس هو الانقباض الجذبي (gravitational contraction) للكتل الضخمة.

 

وفي وقت سابق إلى حد ما، في أربعينيات القرن التاسع عشر، اقترح كل من جي آر ماير J.R. Mayer (وهو عالم فيزياء ألماني آخر) وجي جي واترسون J.J. Waterson أن أصل إشعاع الشمس هو تحول الطاقة الجذبية إلى حرارة  [1] (gravitational energy)

اهتم علماء الأحياء وعلماء الجيولوجيا بآثار الإشعاع الشمسي، في حين ركز علماء الفيزياء على أصل الطاقة المنبعثة. في العام 1859، وفي الطبعة الأولى من كتابه "أصل الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي"، قدم تشارلز داروين حسابات فجة عن عمر الأرض، من خلال تقدير الزمن الذي ستستغرقه عوامل التعرية التي قد تحدث وفق المعدل الحالي المرصود لجرف وادي الويلد (Weald)، وهو واد كبير يمتد بين تلال الداوني الشمالية والجنوبية على عرض جنوب إنجلترا. وحصل داروين على رقم لـ "تعرية الويلد" في حدود 300 مليون عام، وهي على ما يبدو فترة طويلة بما فيه الكفاية لكي يُنتج الانتخاب الطبيعي هذا الطيف المذهل من الأنواع الحية التي توجد على الأرض.

وكما أكد هيرشيل، فإن حرارة الشمس هي المسؤولة عن الحياة وعن معظم التطور الجيولوجي على وجه الأرض. وبالتالي، فإن تقدير داروين للحد الأدنى لعمر النشاط الجيولوجي على الأرض ينطوي على تقدير الحد الأدنى لكمية الطاقة التي بثتها الشمس.

كان وليام طومسون William Thompson، الذي صار في وقت لاحق اللورد كالفن، وهو أستاذ لدى جامعة غلاسكو وأحد أعظم علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر، معارضاً راسخاً لنظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي. بالإضافة إلى مساهماته الكثيرة في العلوم التطبيقية والهندسة، صاغ طومسون القانون الثاني للديناميكا الحرارية (second law of thermodynamics) ونصّب مقياس الحرارة المطلقة، الذي سمي فيما بعد "مقياس كالفن" (Kelvin scale) تكريماً له.

 

ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية على أن الحرارة تتدفق بشكل طبيعي من الجسم الحار إلى الجسم البارد، وليس العكس. لذا، أدرك طومسون أن الشمس والأرض يجب أن تصبحا أبرد، ما لم يكن هناك مصدر خارجي للطاقة، وأن الأرض في نهاية المطاف ستصبح أكثر برودة من أن تدعم الحياة.

كان كالفن، مثله مثل هيلمولتز Helmholtz، مقتنعاً بأن ألقَ الشمس نتج عن تحويل طاقة الجذب إلى حرارة. وفي نسخة مبكرة (1854) من هذه الفكرة، اقترح كالفن أن حرارة الشمس ربما كانت تُنتَج باستمرار بسبب صدمة سقوط النيازك على سطحها. وقد أجبرت الأدلة الفلكية كالفن على تعديل فرضيته، ثم جادل بأن المصدر الأساسي للطاقة المتاحة للشمس كان طاقة جذب الشهب البدائية (primordial meteors) التي تشكلت الشمس منها.

وهكذا، بسُلطة عظيمة وبلاغة، أعلن اللورد كالفن في العام 1862


"حين نأخذ الأسباب التالية بعين الاعتبار، يكاد يتعذر الشك في أن شكلاً ما من أشكال نظرية النيزك هو بالتأكيد التفسير الحقيقي والكامل لحرارة الشمس:
 

  1. ​ ليس من الممكن تصور أي سبب طبيعي آخر غير النشاط الكيميائي.
  2.  النظرية الكيميائية غير كافية تماماً، لأن التفاعلات الكيميائية الأكثر نشاطاً التي نعرفها، والتي تجري بين مواد تعادل كتلتها كتلة الشمس الإجمالية، ستولد فقط حرارة 3000 سنة تقريباً.
  3.  ليست هناك صعوبة في حساب حرارة 20,000,000 سنة بواسطة نظرية النيزك.


واستمر كالفن في المهاجمة المباشرة لتقدير داروين، موجهاً سؤالاً خطابياً


إذن، كيف لنا أن نفكر في تقديرات جيولوجية من مثل [تقدير داروين] 300،000،000 سنة لـ "تعرية الويلد"؟

ولمّا كان كالفن يعتقد بأن داروين كان مُخطِئاً في تقديره لعمر الأرض، فقد اعتقد أيضاً أنه كان مُخطِئاً بشأن الوقت المتاح للأرض لكي يكون الانتخاب الطبيعي فاعلاً.

قدّر اللورد كالفن عمر الشمس، وضمنياً عمر الأرض، على النحو التالي: قام بحساب طاقة الجذب لجسم ذو كتلة تساوي كتلة الشمس ويساوي نصف قطره نصف قطر الشمس، وقسم الناتج على المعدل الذي تبث به الشمس الطاقة. نتج عن هذه العملية الحسابية عمر يبلغ فقط 30 مليون عاماً. وقد كان التقدير المقابل للعمر المستدام بواسطة الطاقة الكيميائية أصغر كثيراً، لأن العمليات الكيميائية تطلق كمية قليلة جداً من الطاقة.

من الذي كان على حق؟


كما رأينا للتو، كان بوسعك في القرن التاسع عشر أن تحصل على تقديرات مختلفة جداً لعمر الشمس، وفقاً لمن تتوجه له بالسؤال. وقد جادل علماء الفيزياء النظرية البارزون، بناءً على مصادر الطاقة التي كانت معروفة في ذلك الحين، بأن عمر الشمس يبلغ بضع عشرات الملايين من السنوات على أكثر تقدير.

 

وخلُص كثير من علماء الجيولوجيا وعلماء الأحياء إلى أنه لا بد وأن الشمس كانت تسطع منذ ما لا يقل عن عدة مئات من ملايين السنين، لكي تبرر التغيرات الجيولوجية وتطور الكائنات الحية، اللذيْن يعتمد كلاهما بشكل حاسم على الطاقة المستمدة من الشمس. لذلك كان عمر الشمس وأصل الطاقة الشمسية سؤالان مهمان، ليس فقط للفيزياء وعلم الفلك، بل وللجيولوجيا وعلم الأحياء أيضاً.

أرجفت داروين قوة تحليل كالفن وسلطة خبرته النظرية إلى حد أنه حذف كل ذكر لأي مقاييس زمنية محددة في الطبعة الأخيرة من كتابه أصل الأنواع. وكتب في العام 1869 لألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace، شريكه في اكتشاف الانتخاب الطبيعي، شاكياً من اللورد كالفن:

"رؤى طومسون بشأن عمر العالم الحالي كانت، منذ فترة، واحدة من أشد مشاكلي إيلاماً".

أما اليوم، فنحن نعلم أن اللورد كالفن كان مُخطِئاً وأن علماء الجيولوجيا وعلماء البيولوجيا التطورية كانوا على حق. فقد بيّن "التأريخ بواسطة النشاط الإشعاعي" (Radioactive dating) للنيازك أن عمر الشمس يبلغ 4.6 مليار سنة.

ما الخلل في تحليل كالفن؟ قد يساعد التشبيه في إيضاح الأمر. افترض أن أحد الأصدقاء راقبك وأنت تستخدم كومبيوترك وحاول تخمين مدة تشغيل الكمبيوتر. قد لا يزيد التقدير المعقول عن بضع ساعات، بما أن ذلك هو الحد الأقصى لمدى الفترة الزمنية التي تستطيع بطارية أثناءها أن توفر القدر المطلوب من الطاقة.

 

الخلل في هذا التحليل، هو افتراض أن كومبيوترك بالضرورة يُزود بالطاقة عن طريق البطارية. قد يكون تقدير بضع ساعات خطأً إذا ما كان كومبيوترك يعمل بواسطة منفذ الطاقة الكهربائية على الجدار. إن افتراض أن البطارية هي ما يزود كومبيوترك بالطاقة يماثل افتراض اللورد كالفن أن قوى طاقة الجذب هي ما يزود الشمس بالطاقة.

لما كان علماء الفيزياء النظرية في القرن التاسع عشر لا يعرفون شيئاً عن إمكانية تحويل الكتلة النووية (nuclear mass) إلى طاقة، فقد حسبوا حداً أقصى شديد القِصر لعمر الشمس. على الرغم من ذلك، فقد قدم كالفن وزملاؤه بإضافة راسخة لعلوم الفلك والجيولوجيا والأحياء من خلال الإصرار على مبدأ أن الاستنتاجات الصحيحة في جميع مجالات البحث يجب أن تكون متسقة مع القوانين الأساسية للفيزياء.


سنبحث الآن بعض التطورات الفارقة في فهم كيف تستخدم الكتلة النووية كوقود للنجوم.

ملاحظات


[1] آي اف دبليو استون (l. F.W. Aston)، "The Mass-Spectra of Chemical Elements," Philosophical Magazine and Journal of Science, 39, 611-625 (1920). في سياق برنامج منهجي لقياس كتلة الذرات، وجد أستون أن أربع نوى هيدروجين (البروتونات) هي أثقل من نواة الهليوم (جُسيم ألفا) وإلكترونين إيجابيين. كان هذا الاكتشاف الأساسي هو الأساس التجريبي لفهمنا كيفية سطوع النجوم من مثل الشمس. نادراً ما يستشهد بالورقة الأصلية، ربما كان السبب أن النص كان مخصصاً أساساً لوصف جهاز أستون الجديد ولمناقشة كتل كثيرة مختلفة قام بقياسها. ولم يُناقش اختلاف كتلة الهيدروجين - الهيليوم إلا بشكل موجز.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • كلفن (Kelvin): هي الواحدة الدولية الرئيسية لدرجة الحرارة الترموديناميكية وتُعرف على أنها جزء من 273.16 من درجة الحرارة الترموديناميكية للنقطة الثلاثية للماء. وللحديث بشكل عملي أكثر، يقيس سلم كلفن درجة حرارة الجسم التي تكون فوق الصفر المطلق، وهي درجة الحرارة النظرية الأشد برودةً. على مقياس كلفن، تكون نقطة التجمد للماء 273 كلفن (0 درجة سيلسيوس، 0 درجة كلفن) (الكلفن= 273 + سيلسيوس= 273+ 9/5 (فهرنهايت-32) ). غالباً ما يتم استخدام سلم كلفن لقياس درجات الحرارة في علوم مثل علم الفلك. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات