الكون كما نعرفه

يجب على العلماء التوفيق بين المكونات الأساسية للواقع لكي يتسنى للبشرية فهم الكون.

جالساً في حانة فرنسية صغيرة على الجانب الآخر من ساحة بيرشينج في قلب لوس أنجلس، قام كليفورد جونسون Clifford Johnson بالإمساك بمصاصة الشرب ذات اللون البرتقالي بشكل موازي للطاولة.

"مبدئياً، لدى هذه المصاصة بُعدان. بإمكاني المشي عليها"، وقام بتمرير سبابته على طول المصاصة، "أو بإمكاني المشي حولها." وأدار إصبعه حول سطحها المنحني اللامع.

كان جونسون، الذي يعمل بروفيسوراً في الفيزياء والفلك في جامعة جنوب كاليفورنيا USC Dornsife، يشرح كيف يمكن للكون أن يحمل المزيد من الأبعاد المختبئة.

"ولكن لنتخيل أن هذه المصاصة طويلة جداً ورفيعة، وأنا أسير على طولها ولا أملك الأدوات للنظر للمسافات القصيرة جداً." مع هذه القيود سيتمكن المسافر من رؤية بُعدٍ واحد طولي فقط أمامه وخلفه.

أشار جونسون إلى نقطة على الجانب الآخر من الشارع خلف الازدحام المزعج والمشاة المارين وقال: "الأمر أشبه عندما أقوم بنقل المصاصة إلى هناك، سوف تتمكن من رؤية لونها البرتقالي ولكن لن ترى استدارتها"، وأدار بإصبعه مرة أخرى حولها وواصل الحديث "لاحظ أنني في كل مكان أسير على كون الُبعد الواحد، وبإمكاني الدوران إذا أردت ذلك، هذا البعد الإضافي بحوزتي دائماً". 

ويكمل حديثه قائلاً إنه بطريقة مماثلة, فإن الكون رباعي الأبعاد الذي يعرفه الناس، والمكون من ثلاثة أبعاد من الفضاء وواحد من الزمن، من الممكن في الواقع أن يحتوي أبعاداً أخرى أصغر من أن نكتشفها. 

لماذا يبدو هذا مهماً؟ كلمة واحدة:"الأوتار" (strings).

 

يعد جونسون، والذي يصف بحثه كمحاولة لفهم البنية الأساسية للطبيعة، بأنه خبير معروف في مجال نظرية الأوتار، وهي أقرب شيء لدى العلماء للوصول لنظرية واحدة تشرح كل شيء في الكون- الواقع بأكمله. 

إذا كان هو وزملاؤه الفيزيائيون على صواب، فمن المحتمل أن تكون الأوتار أكثر وحدة أساسية للوجود. كل جسيم من القوة أو المادة من الممكن أن يختزل إلى وتر مهتز بسيط وحيد البعد. 

 الكبيرة منها والصغيرة


بالنسبة لمعظم الوقت في التاريخ، ركزت رؤية البشر للكون وكيفية عمله على نظرية ذات نطاق واسع؛ حركة الكواكب، على سبيل المثال، خصائص مرئية للضوء وتأثيرات المجالات المغناطيسية. وعلى منعطف بداية القرن 20، عندما بدأ الفيزيائيون بدراسة الكون المايكروسكوبي المكوّن من الذرات وقطعها الأساسية، اكتشفوا أن العالم دون الذري يبدو وكأنه مترابط بواسطة مجموعة من القوانين المختلفة. بدأ ماكس بلانك، ألبرت أينشتاين، نيلز بور والمزيد من العلماء البارعين باكتشاف هذا الحقل عن طريق الرياضيات والتجارب المباشرة.

ببساطة، تقوم أنواع مختلفة من "البوزونات" (bosons) بنقل القوى بين أنواع مختلفة من "الفيرميونات" (fermions). على سبيل المثال، تقوم الفوتونات بنقل القوة الكهرومغناطيسية بين الفيرميونات المشحونة كالإلكترونات.

يقول جونسون: "هذا التقدم الكبير- وهو أنه يوجد جسيمات بإمكانها الربط بين القوى أو التفاعلات- كان قطعة رائعة من فيزياء الكمّ والتي تم فهمها في منتصف القرن الماضي". 

يبدو بأن النظام الكمي يعمل بشكل جيد لثلاثة من القوى المعروفة للطبيعة -"القوة النووية القوية" (strong nuclear force)، والتي تمسك الجسيمات في الأنوية الذرية ببعضها، "القوة النووية الضعيفة" (weak nuclear force) والتي تضغط لتكسر هذه الأنوية عن بعضها كتحلل مشع، والقوة الكهرومغناطيسية.

بتعبير آخر، هذه القوى دون الذرية تتوافق في نظرية واحدة موحّدة لفيزياء الكم.

القوة الوحيدة التي يبدو أنها ترفض اتباع القوانين الكمية -وبذلك أربكت وجود نظرية موحدة لكل شيء- هي الجاذبية.

لغز منحنٍ


وصف أينشتاين الجاذبية بأنها انحناء في بنية الزمكان. يبدو أن نظريته الثورية العامة للنسبية -والتي وافقت ذكراها المئوية في نوفمبر 2015- أنها تعمل بشكل كامل تقريباً على النطاقات الكبيرة (على مستوى الكواكب، النجوم والمجرات) وعند الطاقات المنخفضة. ولكنها تتوقف عند المساحات الصغيرة ذات الطاقة العالية والتي تتواجد فيها البوزونات والفيرميونات. ولكن بشكل آخر، تعمل فيزياء الكم بشكل أفضل عندما نتجاهل الجاذبية، وتعمل النظرية النسبية بشكل أفضل في الأنظمة الكبيرة -أعلى بكثير من المقياس دون الذري- عندما تكون التأثيرات الكمومية صغيرة للغاية.

إضافة إلى ذلك، لم يعثر الفيزيائيون بعد على جُسيم ناقل لقوة الجاذبية؛ والمعروف بـ"جرافيتون" (graviton). 

يذكر جونسون: "نعتقد أنه من المحتّم تواجد جسيم كالجرافيتون عندما نقوم بتكميم الجاذبية، وسنُفاجأ إذا لم تكن الجاذبية تابعة للميكانيكا الكمية. والحقيقة التي تقول بأننا لم ننجح بعد هي دليل على فشلنا نحن وليس الطبيعة". مع ذلك، لم تكن المحاولات غير مثمرة كلياً.

سحب الأوتار


في أواخر الستينات وبداية السبعينات، بدأ الفيزيائيون بأخذ تصور آخر للبوزونات والفيرميونات في نوى الذرات. اكتشفوا أنه من الممكن وصف الجسيمات المتضمنة بأوتار مهتزة في غاية الصغر وأحادية البعد. 

سرقت نظرية الأوتار الأضواء بشكل سريع، ولكنها بنفس السرعة خسرت الأفضلية بسبب نشوء بعض النماذج لتفاعلات الجسيمات. سوف يستمر هذا التذبذب في الاهتمام لبعض الوقت. 

يقول نيكولاس وارنر Nicholas Warner بروفيسور الفيزياء والفلك والرياضيات: "تأرجحت هذه النظرية بين القبول والأخذ بها وبين رفضها لعدة سنوات. لقد اختُرعت لأول مرة كنظرية للقوة الشديدة، وفشلت في ذلك. ولكنها عادت مجدداً في الثمانينات كنظرية للجاذبية الكمية، وعملت بشكل رائع للغاية". 

في الحقيقة، إحدى أهم الملاحظات التي برزت منذ البداية والتي بإمكان الأوتار المهتزة أن تصفها، هي الخصائص المتوقعة للجرافيتون. يقول وارنر: "الشيء الرائع حول نظرية الأوتار هي أنها النظرية الوحيدة التي توفِّق بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة"، يستخدم وارنر نظرية الأوتار لفهم فيزياء الكم للثقوب السوداء، وهي الظاهرة التي تملك أكثر كثافة جاذبية في الكون. ويواصل: "يبدو أنها قادرة على فعل ذلك، إلى الحد الذي كنا قادرين فيه على عمل حسابات." مع ذلك، هذه الحسابات تتطلب محذوراً أساسياً: يجب أن يمتلك الكون أبعاداً إضافية.

ما وراء البعد الرابع


لحسن الحظ، لا يجب أن تشكل الأبعاد الإضافية مشكلة. فكما فعل جونسون بالمصاصة البرتقالية، من المحتمل أن يمتلك الكون أبعاداً لا نهائية ولكنها أصغر بكثير من أن نكتشفها. ولكن لأن الأوتار أيضاً صغيرة للغاية -أصغر من أي شيء مكتشف سابقاً- وفي بعد واحد فقط، بإمكانها أن تهتز في أي من تلك الأبعاد. هذا مهم جداً، لأنه في حين أن نظرية الأوتار تصف بشكل جيد كل الجسيمات المرصودة -وحتى الجرافيتونات- فإنها لن تنجح إلا عندما يكون بإمكانها أن تهتز في 10 أبعاد على الأقل. 

يذكر جونسون: "عندما تبدأ بكتابة الرياضيات، تأتي الأوتار مرة أخرى لتخبرك بأن الرياضيات لن تعمل هنا إلا إذا أعطيتها الحرية لكي تهتز في أبعاد أخرى أيضاً. عندما تسمح للأوتار بأن تصبح ذات أبعاد إضافية… عندها ستعطيك نطاقاً غنياً أكثر من الاحتمالات، واحتمالية أن نتمكن من دمج كل شيء رصدناه في نظرية الأوتار ستصبح فجأةً احتمالية واقعية". بتعبير آخر، كل جسيم معين سيمكن وصفه كاهتزاز في الوتر في بُعد معين.

ويشرح وارنر: "يحاول علماء الأوتار النظريون أن يقولوا بأن هناك نوعاً واحداً أساسياً للجسيم وكل الأشياء الأخرى هي مجرد اهتزازات مختلفة للوتر. الجرافيتون عبارة عن تذبذب أو اهتزاز للوتر، الفوتون اهتزاز آخر… وهكذا". وفي النهاية من المحتمل أن كل شيء سيختزل، إلى نفس الشيء الأساسي: أوتار. 

باستثناء أنه ربما لا بكون الأمر كذلك


بينما أن نظرية الأوتار بارعة للغاية في وصف كل الجسيمات المعروفة للمادة والقوة، إل أنه لم يتم اختبارها بعد. يقول جونسون: "هناك احتمال دائماً بأن هذا الإطار المرجعي غير مكتمل، أو لنقل خاطئ كلياً. نحن بحاجة إلى الوصول إلى توقعات قابلة للقياس من هذه النظرية والتي بإمكاننا أن نختبرها- وهذه خطوة رئيسية لكل مسعى علمي". 

ويوضح جونسون أنه مع ذلك، فمن المحتمل أن تكون الأوتار صغيرة للغاية لكي يتم رؤيتها بشكل مباشر في أي تجربة يأمل العلماء في تصميمها قريباً. ولذلك يجب عليهم أن يبحثوا عن علامات غير مباشرة للأوتار، وحتى الآن لم تُفهم نظرية الأوتار بشكل جيد بما فيه الكفاية للكشف عن ماهية هذه العلامات.

ولكن هناك أمل حتى الآن. قد تحصل نظرية الأوتار على اختبار غير مباشر عند تطبيقها على مادة يبدو أنها الأكثر وفرة في الكون.

تشير الملاحظات الى أن المادة المظلمة والطاقة تشكلان أكثر من 95% من الكون. وقد اكتشف العلماء أنها أشكال جديدة من المادة والطاقة، ولكن حتى الآن طبيعتها الدقيقة غير معروفة. ويقول جونسون إنه قد يكون لديها المفتاح لتؤكد صحة نظرية الأوتار.

وأضاف: "إنها مدهشة حقاً. وهناك أشكال من المادة والتي يبدو أنها تظهر بشكل طبيعي في نظرية الأوتار التي يمكن أن تكون مرشحاً جيداً لتصبح المادة المظلمة. يأمل الناس بأن هذا قد يكون المفتاح للربط بين النظرية والطبيعة".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات