نظرية الأوتار من نيوتن إلى أينشتاين ومَن بعدهما

توحيد القوى

لفهم أفكار وأهداف نظرية الأوتار، من المفيد العودة إلى الوراء ومشاهدة كيفيّة تطور الفيزياء من وقت نيوتن إلى وقتنا الراهن. فكرة واحدة حاسمة قادت الفيزياء، ألا وهي "التوحيد"، وهو عبارة عن محاولة لشرح ظواهر مختلفة بواسطة مفهوم واحد شامل. قد تكون أولى المحاولات جاءت من نيوتن نفسه، ففي العام 1687 أثناء عمله «مبادئ الرياضيات»، وضح أن حركة الكواكب في النظام الشمسي، وحركة القمر حول الأرض، والقوة التي تربطنا بالأرض، عبارة عن جزء من الشيء نفسه، ألا وهي قوة الجاذبية. نتعامل اليوم مع هذه القوة كأمر بديهيّ، لكن قبل عَهدِ نيوتن، كان الربط بين سقوط التفاحة ودوران القمر حول الأرض غير واضح ومذهلا تماما.

ظهر المفتاح الآخر للكشف عن القوة الموحدة بعد نحو 180 عاما من نيوتن، وذلك عندما بيّن عالم الرياضيات الإسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل Maxwell أن الكهرباء الساكنة والمغناطيسية، والتي للوهلة الأولى لا تبدو ظواهر متشابهة، هما فعليا جوانب مختلفة للشيء نفسه، ألا وهو الكهرومغناطيسية. وخلال العمل، اكتشف ماكسويل الأمواج الكهرومغناطيسية، التي هي في الحقيقة عبارةٌ عن ضوء. وقد وضح ماكسويل بذلك، عن غير قصدٍ، جانبا مختلفا من جوانب الطبيعة.

بعد 200 عام أخرى، وتحديداً في العام 1984، وضّح كل من الباكستاني عبدالسلام، والأمريكي ستيفن وينبيرغ Weinberg أن القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة الناتجتان عن الانحلال الإشعاعي، هما جانبان مختلفان لقوة واحدة تسمى: القوة الكهربائية الضعيفة.

هذا يضعنا أمام ثلاث قوى أساسية في الطبيعة: الجاذبية، والقوة الكهربائية الضعيفة، والقوة النووية القوية التي تربط البروتونات بعضها ببعض.



توحيد المادة


يتعامل ما ذكر آنفاً مع القوى، ولكن، ماذا عن المادة؟ افترضت العديد من النظم القديمة - والواقع نفسه - أن المادة مكونة من عدد محدد من العناصر، وقد أكدت الفيزياء الحديثة هذه الفكرة، حيث أظهرت التجارب الجارية في مسرع الجسيمات سيرن CERN في جنيف أن هنالك اثني عشر بناءً كتلياً للمادة فقط، وتعرف بالجسيمات الأولية. ولتكون الصورة بسيطةً، فإن أي شيء نراه في أي تجربة هنا على سطح الأرض أو في النجوم البعيدة مصنوع من هذه الجسيمات الأولية.

هذا مثير للإعجاب! كل الكون، ومادته، وديناميكيّته، تتحكم فيها ثلاث قوى، واثنا عشر جسيماً أولياً. هذا جيد، ولكننا نريد أفضل من ذلك، وهنا تظهر أول مداخلةٍ لنظرية الأوتار، حيث تعتبر محاولةً أكبر للتوحيد. ولفهم ذلك، نحتاج إلى التحدث عن قصة أخرى.



الجاذبية الكمومية (التثاقل الكمومي)


حدث تقدمان عظيمان في مجال الفيزياء خلال القرن العشرين، أحدهما نظرية النسبية العامة لأينشتاين، والتي غالباً ما تعتبر الأشهر، لكنها ليست أعلى شأناً من النظرية الأخرى، ألا وهي نظرية ميكانيكا الكم.

 

الأجسام العملاقة تحني الزمكان
الأجسام العملاقة تحني الزمكان

تعدُّ نظرية النسبية العامة موحدةً بحد ذاتها، حيث اعتبر أينشتاين أن الفضاء والزمان هما جانبان لشيء واحد يدعى الزمكان (spacetime) . يمكن للأجسام ذات الكتل العملاقة (مثل الكواكب) أن تُشَوِّهَ وتَحرِفَ الزمكان، والجاذبية التي عرفناها كقوة مؤثرة، هي في الحقيقة نتيجة لهذه الإنحرافات. عندما نضع كرات البلياردو على الترامبولين، فإنها ستصنع انحناءات في النسيج المجاور، وفي حال وجود كرة قريبة هناك، فإنها ستتدحرج نحو هذا الإنحناء، لكيلا نبتعد عن موضوعنا، فإن الأجسام ذات الكتل العملاقة (مثل الكواكب) تُشَوِّهُ الفضاء بنفس الطريقة، مما يسبب جذب الأجسام القريبة منها.

إن التكهنات التي وضعتها النسبية العامة دقيقة بصورة لافتة للانتباه. الحقيقة أن معظمنا جرّب أو اختبر بطريقة غير مقصودة النسبية العامة، فإذا كانت النظرية خاطئة، فإن نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) سيكون مخطئاً بمقدار 50 متراً لليوم الواحد، لكن الحقيقة هي أن نظام "GPS" يعمل بمقدار خطأ يقدر بـخمسة أمتار لكل 10 سنوات، وهذا يظهر مدى دقة النسبية العامة.

التقدم الآخر خلال القرن العشرين هو نظرية ميكانيك الكم. إحدى الأفكار الرئيسية في هذه النظرية هي أنه كلما صَغُرَ المقياس الذي ننظر به إلى العالم، أصبحت الأشياء أكثر عشوائية. مبدأ الريبة لهايزنبرغ (Heisenberg's uncertainty principle) هو ربما المثال الأشهر على ذلك. يخبرنا هذا المبدأ أنه عند النظر إلى جسيمات متحركة (كإلكترون يدور حول نواة الذرة مثلا)، فنحن لا نستطيع تحديد موقعه أو زخمه كما نريد. يسمح لنا النظر إلى الفضاء ضمن نطاق ضئيل بقياس الموقع بدقة عالية، ولكن، ليس هناك الكثير مما نستطيع قوله عن الزخم، وذلك ليس بسبب عدم دقة أدوات القياس، بل ببساطة، لا توجد قيمة حقيقية للزخم، ولكن، يمكن أن نأخذ كل القيم الممكنة مع كل الاحتمالات، باختصار، إنها العشوائية، وهي تظهر عندما ننظر إلى الجسيمات متناهية الصغر، وكلما كانت الجسيمات أصغر، ازدادت هذه العشوائية.

إن الفكرة التي تقول أن العشوائية جزء من نسيج الطبيعة كانت فكرة ثورية. سبق واعتمدنا -بشكلٍ مسلّمٍ به - أن قوانين الفيزياء لا تعتمد على حجم الجسم، لكن ميكانيكا الكم تعتمد على ذلك. حجم الأشياء مهم، وعند النظر بمقياس صغير للطبيعة، يصبح العالم مختلفا جداً عما نشاهده يومياً، حيث إن العشوائية تسيطر وتحكم العالم المصغر.

كانت هذه النظرية جيدةً جداً عند الأداء التجريبي. فالتطبيقات التكنولوجية لها تتضمن الليزر، والرقائق الدقيقة الموجودة في جميع الحواسيب، والهواتف المحمولة، ومشغل "MP3".



ماذا يحدث للزمكان في المقاييس الصغيرة
ماذا يحدث للزمكان في المقاييس الصغيرة

ولكن، ماذا يحدث إذا جمعنا ميكانيكا الكم مع النسبية؟ وفقاً للنسبية العامة، فإن الزمكان هو الشيء الذي يمكنه التمدد والانحناء، وتقول ميكانيكا الكم إنه في المقاييس الصغيرة تكون الأمور عشوائية، ووضع هاتين الفكرتين معاً يعني أن الزمكان نفسه سيكون عشوائياً في المقاييس الصغيرةِ جداً، حيث إنه سيسحب ويمدّد نفسه حتى يتمزّق في نهاية المطاف.

من الواضح أن الزمكان موجود ولم يتمزق، إذن لا بد من وجود شيء خاطئ في عملية الجمع بين النسبية العامة وميكانيكا الكم، لكن، ما هو؟ كلتا النظريّتين تم اختبارهما بشكل جيد ويعتقد أنهما صحيحتان.



أقمنا ربما بافتراض خفيّ؟


نعم، هذا ما حصل حقيقةً، فقد افترضنا أنه من الممكن البحث في مسافات أصغر وأصغر حتى الوصول إلى النقطة التي يمزّق بها الزمكان نفسه، وبسبب هذا الافتراض، استقرّ في عقلنا الباطن أن لبنات الطبيعة الأساسية غير القابلة للتجزئة تشبه النقطة، ولكنّ هذا ليس صحيحاً بالضرورة.



الأوتار هي المنقذ


هنا جاءت نظرية الأوتار للإنقاذ. تقترح النظرية وجود أصغر مقياس نستطيع عنده النظر إلى العالم، ونستطيع الوصول إلى هذا المقياس الصغير، ولكن، لا يمكن الوصول إلى أصغر منه. تؤكد نظرية الأوتار أن اللبنات الأساسية للطبيعة ليست مشابهةً للنقاط، ولكنها – كالأوتار - تملك امتدادات، بعبارة أخرى: أي أن لديها أطوالاً. وهذا الطول يملي علينا أصغر مقياس نستطيع به رؤية العالم.

ما الفائدة الممكنة من ذلك؟ الجواب هو أن الأوتار يمكن أن تهتز. في الحقيقة، يمكن أن تهتز الأوتار بعدد لا حصر له من الطرق. هذه هي فكرة طبيعية في الموسيقى، حيث إننا لا نعتقد أن أي صوت منفرد في قطعة موسيقية يُنتَج من آلة مختلفة، نحن نعلم أن مجموعات غنيّة ومتنوعة من الأصوات يمكن أن تُنتَج من آلة كمان واحدة. تستند نظرية الأوتار على الفكرة نفسها، وما الجسيمات والقوى المختلفة سوى أوتار أساسية تهتز بعدة طرق مختلفة.

العمليات الرياضيّة خلف نظرية الأوتار طويلة ومعقدة، غير أنها حُلّت بالتفصيل. لكن، هل رأى أي شخص هذه الأوتار؟ الجواب بصدق هو "لا". يبلغ الطول التقديري لهذه الأوتار تقريباً \(10^{-34}\) متر، أي أنه أصغر بكثير مما يمكن رؤيته اليوم، حتى في سيرن CERN. ومع ذلك، فإن نظرية الأوتار، حتى الآن، هي الطريقة الوحيدة للجمع بين الجاذبية وميكانيكا الكم، والتميز الرياضي لها هو سبب اهتمام كثير من العلماء بها.



تنبؤات النظرية


إذا كانت نظرية الأوتار في الواقع نموذجاً دقيقاً للزمكان، إذن، ماذا يمكن أن تخبرنا عن العالم غير ذلك؟

إحدى توقعاتها المذهلةُ والأكثرُ أهميةً هي أن الزمكان ليس رباعيَّ الأبعاد، بل يتكون من عشرة أبعاد. لا تعمل نظرية الأوتار إلا بوجود هذه الأبعاد الزمكانية العشرة. إذن، أين هذه الأبعاد الستة الأخرى؟ في الحقيقة، وَضَعَ فكرة الأبعاد الستة الخفية هذه الألماني تيودور كالوتسا Theodor Kaluza والسويدي أوسكار كلاين Oskar Klein قبل عدة سنوات من نظرية الأوتار.


منظر جوي لسيرن (CERN) في منطقة خارج جنيف. يسمح مسرع الجسيمات الذي يقع تحت الأرض (بمحيط 27 كم وقطر 7كم) للعلماء بالنظر بمقاييس صغيرة
منظر جوي لسيرن (CERN) في منطقة خارج جنيف. يسمح مسرع الجسيمات الذي يقع تحت الأرض (بمحيط 27 كم وقطر 7كم) للعلماء بالنظر بمقاييس صغيرة

بعد فترة وجيزة من وصف أينشتاين لانحناء الفضاء في النسبية العامة، فكر كالوتسا وكلاين في ما قد يحدث لو انحنى البعد المكاني على نفسه وشَكّلَ دائرة. حجم هذه الدائرة صغير جداً، بحيث إنها لا ترى. هذه الأبعاد ستكون مخفية عن الأنظار أيضاً. أظهر كالوتسا وكلاين أنه على الرغم من هذا، يمكن أن يبقى لهذه الأبعاد تأثير على العالم الذي نعرفه، وستكون الكهرومغناطيسية نتيجةً لهذه الدائرة الخفيّة المتحركة في الأبعاد الخفيّة، التي تكوّن الشحنة الكهربائية. الأبعاد الخفية محتملة، ويمكن أن تُظهِر في الواقع قوىً في الأبعاد المرئية.

احتضنت نظرية الأوتار فكرة كالوتسا وكلاين، وتُجرَى حالياً تجارب مختلفةٌ في محاولةٍ لرصد هذه الأبعاد الخفية، على أمل أن تكون هذه الأبعاد الإضافية قد تركت أثراً في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB)، الذي خلفه الإشعاع من الانفجار العظيم، وأن الدراسة التفصيلية لهذا الإشعاع قد تكشفها. هناك تجارب أخرى مباشرة أكثر. قوة الجاذبية تعتمد بصورة مباشرة على العديد من الأبعاد، لذلك إذا درسنا قوى الجاذبية على المسافات القصيرة، يمكن أن نأمل في الكشف عن الانحرافات في قانون نيوتن، ونرى مرة أخرى وجود أبعاد إضافية.

لطالما تأثرت الرياضيات والفيزياء كل منهما بالأخرى، فالرياضيات الجديدة اخترعت لوصف الطبيعة، واتضح أن الرياضيات القديمة تقدم الوصف المثالي لظواهر فيزيائية مكتشفة حديثاً. ونظرية الأوتار لا تختلف عن ذلك، حيث إن العديد من الرياضيين يعملون على أفكار مستوحاة منها. تشمل هذه الأشكال الهندسية المحتملة للأبعاد الخفية، والأفكار الهندسية الأساسية عندما يكون هناك حد أدنى للمسافة، والطرق التي تنفصل بها هذه الأوتار وتجتمع معاً، والسؤال عن الكيفية التي ترتبط بها هذه الأوتار بالجسيمات في العالم المرئي.

تعطينا نظرية الأوتار رؤية مثيرة للطبيعة كقطع ضئيلة من الأوتار المهتزة في فضاء بأبعاد ملتوية مُخفاة. جميع الآثار المترتبة على هذه الأفكار تحت الدراسة، وتُعتَبَرُ نظرية الأوتار منطقةً فعالةً للأبحاث، وذلك بوجود مئات الأشخاص العاملين على معرفة كيفية تناسب النظرية مع بعضها، وكيف تُنتِجُ العالم الذي نراه حولنا.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات