لماذا ميكانيكا الكم مهمة؟

مع نهاية القرن التاسع عشر اعتقد الناس أنّ معرفتنا العلمية في الفيزياء قد اقتربت من الكمال. حيث وصفت النظريات الرائعة كل الظواهر الطبيعية التي رصدها العلماء ولم يتبقى سوى ترتيب بعض التفاصيل الصغيرة، لكن خلال العقود القليلة التالية بدأت مؤشرات مثيرة للقلق بالظهور داخل النظرية. فقد أظهرت عمليات الرصد أن الطبيعة، عند النظر إليها على نطاق صغير جداً، لا تتصرف كما تصور الناس. وطُورت ميكانيكا الكم (Quantum mechanics) لشرح هذه الصورة الناشئة حديثا لإعطائك فكرة عما يحدث. سنلقي نظرة موجزة على اثنين من تلك الاكتشافات الجديدة الخارقة.

الضوء الفصامي Schizophrenic light


يتعلق الاكتشاف الأول بطبيعة الضوء، فقد كان الفيزيائيين واثقين منذ عام 1870 بأن الضوء يتحرك على شكل أمواج -أمواج كهرومغناطيسية لنكون دقيقين أكثر- وربما لست بالغريب عن هذه المعلومة. وتعود الأمواج ذات الترددات المختلفة إلى أضواء ذات ألوان مختلفة، وعند مزج موجات عديدة من ترددات مختلفة نرى الضوء الأبيض.


موشور يقسم الضوء الأبيض إلى الترددات المكونة له. لكن هل يمكن حقاً اعتبار الضوء كأمواج؟
موشور يقسم الضوء الأبيض إلى الترددات المكونة له. لكن هل يمكن حقاً اعتبار الضوء كأمواج؟


كان ولازال تفسير الضوء كأمواج كهرومغناطيسية يُوصف على أنه تقدما عظيما في مجال الفيزياء، ولكن نتجت مجموعة من المشاكل. وتتجلى إحداها عندما يُسلط شعاع من الضوء على معدن. وكما هو متوقع سيقتلع الضوء شحنات سالبة من المعدن، ولكن ذلك حصل بطريقة لم يكن باستطاعة موجة إنتاجها -تُسمى هذه الظاهرة بالمفعول أو التأثير الكهروضوئي (photoelectric effect)، وقد حيرت الناس لبعض الوقت.

كان ألبرت أنشتاين هو الذي اكتشف حلاً لهذه المسألة، إذ اقترح أن نفكر بالضوء، ليس كأمواج، وإنما كرزمات طاقة صغيرة (أو وحدات quanta). فسرت هذه الطريقة الجديدة للنظر إلى الأمور التأثير الكهروضوئي، لكنها لم تحل محل الصورة الموجية للضوء. ولشرح جميع الظواهر التي تتضمن الضوء، تحتاج إلى التمسك بالصورة الموجية أيضاً، فالضوء لا يستطيع الاستقرار لأنه يتصرف كأمواج في بعض الحالات وكرزمات شبيهة بالجسيمات في حالات أخرى.

 الذرات المنهارة collapsing atoms 


شملت عملية رصد أخرى وجديدة بنية الذرة؛ فحتى نهاية القرن التاسع عشر اعتقد الفيزيائيون أنّ الذرات تشبه حلوى الخوخ فهي تحتوي الكترونات سالبة الشحنة (الخوخ)، محاطة بشحنة موجبة منتشرة بالتساوي (الحلوى). على أية حال وفي عام 1911 توصل الفيزيائي إرنست رذرفورد Ernest Rutherford وبعض زملائه إلى اكتشاف غريب أثناء إطلاق جسيمات صغيرة جداً وموجبة الشحنة -تسمى جسيمات ألفا- نحو طبقة رقيقة من الذهب.

 

انهيار الذرات نموذج بور للذرة يسمح للإلكترونات بالاقتراب من المركز لمسافات معينة فقط.
انهيار الذرات نموذج بور للذرة يسمح للإلكترونات بالاقتراب من المركز لمسافات معينة فقط.

 

ووفقاً لصورة التشبيه بحلوى الخوخ كان على الجسيمات بكل بساطة أن تعبر من خلال طبقة الذهب، لكن اندهش الباحثون كثيراً عندما رأوْا ارتداد بعض تلك الجسيمات، وفي وقتٍ لاحق قال روذرفورد أنّ ذلك كان غريباً كغرابة "إطلاق كرة معدنية نحو قطعة قماش لتشاهدها ترتد بعد ذلك". 

وإضافةً إلى كونه ذكيا، كان تفسير رذرفورد بسيطاً: فإذا تجمعت الشحنات الموجبة في ذرات الذهب في المركز بدلاً من الانتشار ستكون حينها قوية بما يكفي لتحرف جسيمات ألفا غير المحظوظة كفاية لتصدم المركز. تقود فكرة رذرفورد هذه إلى نموذج "النظام الشمسي" للذرة بحيث تمتلك الأخيرة شحنة موجبة في المركز يدور حولها إلكترونات سالبة الشحنة. 


يظهر في الأعلى طيف إصدار ذرة الهيدروجين. لاحظ وجود خطوط منفصلة بدلاً من ألوان مستمرة. وفي الأسفل من الصورة يظهر طيف الامتصاص.
يظهر في الأعلى طيف إصدار ذرة الهيدروجين. لاحظ وجود خطوط منفصلة بدلاً من ألوان مستمرة. وفي الأسفل من الصورة يظهر طيف الامتصاص.


لكن تكمن مشكلة هذا النموذج في أنّ الإلكترونات التي تدور حول النواة -وفقاً للنظرية- ستستمر بإشعاع بعض من طاقتها. وبدوره سيؤدي فقدان الطاقة هذا إلى تسارع الإلكترونات نحو النواة على طول مسارات حلزونية، مما يتسبب في النهاية بانهيار الذرات على نفسها. وأكثر من ذلك فإن نمط الطاقة الذي سيصدر حينها سيكون مستمرا ولا يشبه ما رصده الناس في الواقع -أي الخطوط الحادة الموجود في طيف طاقة ذرة الهيدروجين التي جرى رصدها لأول مرة عام 1885. 

توصل نيلز بور Niels Bohr إلى حل هذا اللغز عام 1913، واقترح أنه لا يمكن للإلكترونات أن تدور حول نواة الذرة عند أي مسافة تريدها، فهنالك مسافات محددة مسموح بها. وعندما يفقد إلكترون الطاقة فهو لا يندفع إلى الداخل نحو النواة، وإنما يقوم بقفزة -قفزة كمية (quantum jump)- إلى المسافة المسموحة التالية. وعندما يصل إلى أصغر مسافة مسموحٌ بها، لا يستطيع حينها الاقتراب أكثر من النواة بل يبقى مكانه ولذلك تظل الذرة مستقرة. كان لنموذج بور (Bohr's model) ميزة أخرى: لقد فسّر الطيف المتقطع لذرة الهيدروجين المذكورة أعلاه، وهي القضية التي حيّرت الناس. 

بيّنت الظواهر الجديدة وتفسيراتها وجود شيء ما خاطئ وبشدة في النظريات الكلاسيكية. ففي السابق، لم يكن هناك اعتقاد بأن الطبيعة "تقوم بالقفزات" أو تلجأ إلى سلوك فصامي. وقد كانت الحاجة إلى نظرية جديدة أمراً واضحاً، وعلى تلك النظرية أن تشمل تلك السلوكيات الجديدة والغريبة دون الحاجة إلى أي ترقيعات لملء الفراغات، وكان ميكانيكا الكم تلك النظرية.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المفعول الكهروضوئي (photoelectric effect): هو ظاهرة فيزيائية تُرصد في الكثير من المعادن، وتتضمن إصدار الإلكترونات من سطوح تلك المعادن جراء تسليط الضوء عليها، وتُعرف الإلكترونات الصادرة في هذه الحالة بالإلكترونات الضوئية (photoelectrons).

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات