ثقب أسود يجعل المواد تتأرجح حوله

لقد أثبت تلسكوب نيوتن (XMM-Newton) للأشعة السينية المداري التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، وجود دوامة ثقالية (gravitational vortex) حول ثقب أسود. ويشكل هذا الاكتشاف المدعوم بمعطيات مهمة مصفوفة مقاريب الطيف النووي "نوستار" (NuSTAR) التابعة لناسا، حلا للغز حير الفلكيين لأكثر من 30 سنة، وسيمكنهم من رسم خريطة تشرح سلوك المادة بالجوار الملاصق للثقوب السوداء (black holes). وقد يفتح الباب أمام بحوث مستقبلية في النسبية العامة لالبرت اينشتاين.

تسخن المادة المنهارة إلى ثقب أسود خلال غوصها إلى حتفها. وقد تصل حرارتها لملايين الدرجات قبيل أن يبتلعها الثقب الأسود ويخفيها عنا للأبد. عند درجات حرارة عالية كتلك، تُشع أشعة سينية إلى الفضاء.

في الثمانينيات (1980)، اكتشف الفلكيون الأوائل باستخدام أولى تلسكوبات الأشعة السينية أن الأشعة السينية الصادرة عن ثقوب سوداء ذات كتل شمسية في مجرتنا تومض. يتبع هذا الوميض نمطا محددا. ففي البداية يفصل بين الومضة والخفوت ما يقارب الـ 10 ثوان. ومع تقادم الأيام، والأسابيع، والشهور؛ تقصر هذه الفترة لدرجة يتذبذب فيها الوميض 10 مرات في الثانية الواحدة. ثم فجأة، يختفي هذا التذبذب نهائيا.


هذا الرسم التخيلي يمثل القرص التراكمي (accretion disc) المحيط بثقب أسود، وفيه تترنح المنطقة الداخلية من هذا القرص. وكما تبين الصور الثلاث، فإن القرص الداخلي المترنح يصدر إشعاعات عالية الطاقة تصدم المادة في القرص التراكمي المحيط، حاثة ذرات الحديد في ذلك القرص على إصدار أشعة سينية، ويمثل ذلك بالوهج على يمين القرص التراكمي (في الصورة a)، وفي الأمام (في الصورة b)، وعلى اليسار (في الصورة c). قامت دراسة مبنية على المعطيات التي وفرها مرصد [نيوتن] [XMM-Newton] للأشعة السينية التابع لوكالة الفضاء الأوروبية [ESA] ومقراب [نوستار] [NuSTAR] التابع لناسا، بقياس هذا <التأرجح> في خط طيف الحديد ضمن انبعاثات الأشعة السينية، وتفسيره كدليل على تأثير [لينز-ثيرنغ] [Lense-Thirring] في الحقل الثقافي الشديد لثقب أسود. المصدر: وكالة الفضاء الأوروبية [ESA] / [ATG Medialab].
هذا الرسم التخيلي يمثل القرص التراكمي (accretion disc) المحيط بثقب أسود، وفيه تترنح المنطقة الداخلية من هذا القرص. وكما تبين الصور الثلاث، فإن القرص الداخلي المترنح يصدر إشعاعات عالية الطاقة تصدم المادة في القرص التراكمي المحيط، حاثة ذرات الحديد في ذلك القرص على إصدار أشعة سينية، ويمثل ذلك بالوهج على يمين القرص التراكمي (في الصورة a)، وفي الأمام (في الصورة b)، وعلى اليسار (في الصورة c). قامت دراسة مبنية على المعطيات التي وفرها مرصد [نيوتن] [XMM-Newton] للأشعة السينية التابع لوكالة الفضاء الأوروبية [ESA] ومقراب [نوستار] [NuSTAR] التابع لناسا، بقياس هذا <التأرجح> في خط طيف الحديد ضمن انبعاثات الأشعة السينية، وتفسيره كدليل على تأثير [لينز-ثيرنغ] [Lense-Thirring] في الحقل الثقافي الشديد لثقب أسود. المصدر: وكالة الفضاء الأوروبية [ESA] / [ATG Medialab].


سميت هذه الظاهرة الذبذبة الدورية الظاهرية (QPO). "حالما اعُترف بهذه الظاهرة كشيء مذهل لأنها صادرة عن مصدر قريب جدا من ثقب أسود،" هذا كما عبر آدم إنغرام Adam Ingram من جامعة أمستردام-هولندا؛ وهو الذي بدأ العمل على فهم الذبذبة الدورية الظاهرية (QPO) ضمن أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في عام 2009.

بدأ يساور علماء الفلك شك خلال التسعينات بارتباط الذبذبة الدورية الظاهرية بتأثير ثقالي تنبأت به النسبية العامة؛ أي أن كل جسم يفتل، يولد نوعا من الدوامات الثقالية.

 
ويشرح ذلك إنغرام بقوله: "أن الأمر شبيه بفتل ملعقة في جرة عسل. تخيلوا أن العسل هو الفضاء، وكل ما هو مغروس في العسل (سيسحب) معه بتأثير فتل الملعقة. في الواقع، هذا يعني أن حركة أي شيء يدور حول جسم يفتل، ستتأثر." وفي حالة مدار مائل، فإنه "سيترنح". وهذا يعني أن المدار بكامل سيغير وجهته حول الجرم المركزي. ويعرف الوقت الذي يستغرقه المدار للعودة إلى التوجه البدئي بدورة الترنح (precession cycle).

في عام 2004، أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا مسبار الجاذبية بي (Gravity Probe B) لقياس ما يدعى بتأثير لينس-ثيرينغ (Lense-Thirring Effect) حول الأرض. وبعد تحليل دؤوب، أكد العلماء أن المركبة الفضائية ستتم دورة ترنح كاملة كل 33 مليون سنة.

ولكن حول ثقب أسود، يكون هذا التأثير ملحوظا أكثر بكثير بسبب الحقل الثقالي الأقوى. قد تستغرق دورة الترنح ثوان أو أقل لتتم دورة كاملة. وتقارب هذا مع فترات الذبذبات الدورية الظاهرية (QPOs) حث الفلكيين على الاشتباه بوجود رابط بينهما.

بدأ إنغرام العمل على هذه المسألة بمراقبة ما يحدث بالقرص المسطح من المادة المحيط بثقب أسود. ويعد ما يسمى بالقرص التراكمي (Accretion Disc) المكان الذي تنهار فيه المواد بشكل حلزوني للداخل نحو الثقب الأسود. وكان العلماء قد اقترحوا سابقا أنه في جوار الثقب الأسود، ينفث القرص التراكمي المسطح ليغدو مصلا حارا (بلازما حارة)، حيث تنزع فيها الإلكترونات من ذراتها الأصلية. يتقلص حجم هذا المصل والذي يدعى اصطلاحا "الدفق الداخلي الحار"، على مر الأسابيع، والشهور مع التهام الثقب الأسود له.

بالتعاون مع زملائه، نشر إنغرام ورقة بحث في عام 2009 تقترح أن الذبذة الدورية الظاهرية QPO تعزى إلى ترنح لينس-ثيرينغ لهذا الدفق الحار. ذلك لأنه كلما صغر الدفق الداخلي، كان أقرب للثقب الأسود، وبالتالي تصبح دورة الترنح بتأثير لينس-ثيرينغ أقصر مدة. ولكن السؤال الذي طرح نفسه، كيف يمكن إثبات ذلك؟

"قضينا وقتا طويلا في محاولة إيجاد أثر مباشر يدل على هذا السلوك،" على حد تعبير إنغرام.

الإجابة على هذا السؤال تتلخص بان الدفق الداخلي يطلق إشعاعات عالية الطاقة تصدم المادة في القرص التراكمي المحيط، مما يحث ذرات الحديد فيه على أن تشع كما يشع أنبوب المصباح الفلوري. يصدر عن الحديد أشعة سينية بطول موجة محدد - يشار إليه باسم خط الطيف (Spectral Line).

وبما أن القرص التراكمي يدور، فإن طول موجة خط طيف الحديد تتشوه نتيجة لتأثير دوبلر (Doppler)؛ لأن خط الطيف المنبعث من الجانب الذي يدور نحونا من القرص ينضغط -ينزاح نحو الأزرق- بينما خط الطيف المنبعث من الجانب الذي يدور مبتعدا عنا يتمدد - ينزاح نحو الأحمر. فإذا كان الدفق الداخلي يترنح فعلا، فسوف يشع مرات على مادة القرص التي تدور نحونا، ومرات على مادة القرص التي تدور مبتعدة عنا، مما يجعل خط الطيف متأرجحا للأمام والخلف خلال كل دورة ترنح.

ويعود الفضل في رصد هذا التأرجح لتلسكوب "إكس إم إم نيوتن". تقدم إنغرام وزملاؤه من أمستردام وكامبريدج وساوث هامبتون وطوكيو بطلب لرصد طويل الأمد قد يمكنهم من مراقبة الذبذبات الدورية الظاهرية (QPO) بشكل متكرر. وقع اختيارهم على الثقب الأسود "إتش 1743-322" (أو H 1743-322)، والذي كان يبدي ذبذبات دورية ظاهرية (QPO) تستغرق 4 ثوان، آنذاك. راقبوه لـ 260,000 ثانية باستخدام تلسكوب نيوتن. وراقبوه أيضا لـ 70,000 ثانية بمرصد نوستار للأشعة السينية التابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا.
 
"لو استطعت أن تحيط علما بأدق تفاصيل الفيزياء الفلكية، عندها يمكنك أن تختبر النسبية العامة حقا،" كما صرح إنغرام. إن أي شذوذ عن تنبؤات النسبية العامة سيكون محط ترحيب الكثير من علماء الفلك والفيزياء. لأنه سيكون إشارة راسخة لوجود نظرية أعمق للجاذبية.

ربما
 ستساعد تلسكوبات الأشعة السينية الأكبر في المستقبل في هذا البحث، لأنها ستكون أقوى وأكفأ في التقاط الأشعة السينية. وقد يسمح ذلك للفلكيين بالتحري عن ظاهرة الذبذبات الدورية الظاهرية بالتفصيل. ولكنهم في الوقت الحالي، راضون بمشاهدة جاذبية آينشتاين تقوم بعملها حول ثقب أسود.

كما وعلق نوربيرت شارتيل Norbert Schartel، وهو عالم في مشروع تلسكوب نيوتن لصالح وكالة الفضاء الأوروبية ESA بقوله: "تعد هذه الدراسة إنجازا معرفيا كبيرا لأنها تجمع بين المعلومات عن توقيت وطاقة فوتونات الأشعة السينية، حاسمة بذلك جدلا استمر 30 سنة حول مصدر تلك الذبذبات الدورية الظاهرية (QPOs). وقد لعبت القدرة التجميعية للفوتونات لتلسكوب نيوتن دورا محوريا في هذا العمل."

نشرت النتائج المذكورة في هذا المقال في "التغيرات الدورية الظاهرية لطاقة تمركز خط طيف الحديد في الثقب الأسود المزدوج إتش 1743-322" (A quasi-periodic modulation of the iron line centroid energy in the black hole binary H1743-322)، بقلم آدم إنغرام وزملاؤه؛ وضمنت في [الإشعارات الشهرية للمجتمع الفلكي الملكي،461 (2): 1967-1980] [Monthly Notices of the Royal Astronomical Society, 461 (2): 1967-1980.
 

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • قرص التراكم أو التعاظم (accretion disc): هي الكتلة المتشكلة جراء انتشار المادة في مدارٍ حول جسم مركزي فائق الكتلة.
  • الثقب الاسود (Black hole): جسمٌ جاذبيته قوية إلى درجة لا يمكن معها حتى للضوء الإفلات منه.
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات