توضح الصورة مشهداً معززاً فنياً أنتجته الحجرة الفقاعة الأوربية الكبيرة (BEBC)، التي بدأت العمل في سيرن عام 1973. Credit: BEBC
الجسيمات دون الذرية (Subatomic particles) أصغرُ كثيرًا من أنْ تُرى، ولذلك ابتكر علماء الفيزياء، على مدار كثير من الأعوام، طرقاً عبقرية لكشف تلك الجسيمات وتصويرها، وغالباً ما تُشكّل هذه الصور أنماطاً جميلة للعمليات.
انطلاقاً من التجارب الأولى التي جرت باستخدام الحجرات الضبابية (cloud chambers)، ووصولاً إلى الرسوم المتحركة المتطورة التي تُوضّحُ تفككات بوزون هيغز ( Higgs - boson)، نجد أن تمثيلَ البيانات في فيزياء الجسيمات قطع طريقاً طويلاً جداً، وإليك بعضاً من أكثر الصور إذهالاً لتفاعلات الجسيمات التي تم تصويرها على مدار سنوات.
الحجرات الضبابية
تستطيع بعض الكواشف اكتشاف الجسيمات دون الذرية عبر جعل مساراتها مرئية للعين المجردة؛ وكانت الحجرة الضبابية أولى الأجهزة التي تعتمد هذه التقنية، فقد طوّرها عالم الفيزياء تشارلز ويلسن Charles Thomson Rees Wilson من كامبريدج بالمملكة المتحدة عام 1911، وحصل نتيجةً لذلك على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1927.
الحجرة الضبابية هي صندوق يحتوي بخارًا فائقَ التشبع (supersaturated vapour)، ومع مرور الجسيمات داخلها، فإنها تؤيّن البخار، ما يؤدي إلى تكاثفه ليُشكّل قطرات على الأيونات.
تُصبح مسارات الجسيمات مرئية على شكل ذيول للقطرات، وهو ما يجعل تصويرها ممكنًا. خلال النصف الأول من القرن العشرين، نظرت التجارب إلى الأشعة الكونية المارّة داخل الحجرات الضبابية، وكشفت عن وجود بعض الجسيمات العنصرية، بما في ذلك البوزيترونات (positron)، والميون (muon)، وأولى الجسيمات الغريبة.
اليوم تستخدم تجربة القطرات الخارجية الكونية (CLOUD) الموجودة في منظّمة الأبحاث النووية الأوروبية اختصاراً "سيرن"، حجرةً ضبابية خاصّة لدراسة الرابط المحتمل بين الأشعة الكونية المجرية وتشكل السحابة.
تُستعمل حجرة CLOUD في إنماء بذور جسيمات الهباء الجوي لقطرات السحب، وتستخدم أيضًا في تشكيل السحب نفسها. يقول جاسبر كريكبي Jasper Kirkby عضو تجربة CLOUD : "تستخدم CLOUD المبدأ نفسه المستخدم في التبريد الأدياباتي للهواء الرطب كما هي الحالة في حجرة ويلسن الضبابية"، ويتابع: "لكن الشروط الموجودة في عملية إنتاج سحب طبيعية تشمل كميات قليلة من بخار الماء فائق التشبع؛ ولذلك لا تتشكل آثار الجسيمات".
يُمكن إيجاد الحجرات الضبابية في المختبر البارد في سيرن، حيث يبني الطلاب أجهزتهم الخاصة لرؤية كيفية قيام الجسيمات المشحونة بتشكيل قطرات في البخار.
الحجرات الفقاعية
بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أصبحت مسرّعات الجسيمات عالية الطاقة متاحة، جرى استبدال الحجرة الفقاعية (bubble chamber)، وبشكل تدريجي، بالحجرات الضبابيّة. الحجرات الضبابية.
اخترع دونالد كلاسر Donald A. Glaser الحجرة الفقاعية في العام 1952، لكنّ المسارات في هذه الحجرة تتشكل على هيئة ذيل من الفقاعات الموجودة داخل سائل فائق التسخين وعلى وشك الغليان.
كان لحجرة سيرن الفقاعية الشهيرة (Gargamelle) دورٌ فعال في اكتشاف التيارات الحيادية الضعيفة عام 1973 (weak neutral currents)، وأكد هذا الاكتشاف عملية التنبؤ بمثل هذه التيارات من قبل النظرية الكهروضعيفة (electroweak theory)، التي تُعالج القوة الضعيفة (weak force) والقوة الكهرومغناطيسية على أنهما وجهان مختلفان للتفاعل نفسه.
فقاعات من البيانات
في الحجرات الفقاعية والضبابية، يتطابق كلٌ من عرض الحدث والحصول على البيانات. تمتلك كواشف جسيمات أخرى (غير بصرية) كاميرات لالتقاط الصور في الحجرة، وبعد ذلك يتم تحليل تلك الصور فوق طاولة خاصة.
في ستينات القرن الماضي، عمل الناس في سيرن على مدار الساعة لتحليل مثل تلك الصور، وانتقلوا بين الآلاف منها بحثاً عن أحداث قد تكون مهمة لعلماء الفيزياء، وبعد ذلك قاسوا طول واتجاه المسارات الجسيمية المهمة.
لكن الحجرة الفقاعية حسّاسة للجسيمات التي تمرُّ عبرها فقط عندما يكون محتواها فائق التسخين بعد أن تتعرض إلى تمديد سريع. تتشكل الفقاعات عند هذه النقطة، ويجب أن يُعاد ضغط الحجرة لإيقاف عملية نمو الفقاعات لتصويرها.
يحدُّ ذلك من معدل جمع الأحداث؛ فعلى سبيل المثال، التقطت الحجرة الفقاعية الأوروبية العملاقة (BEBC)، التي بدأت العمل في 1973، 6.3 مليون صورة على فترة امتدت 11 عامًا في الخدمة، في حين سجّلت التجارب الحالية في مصادم الهادرونات العملاق (LHC) هذا العدد من الأحداث في أقل من ساعتين.
حسّنت حجرة الشرارة من عمل الحجرة الفقاعية حيث يُمكن التقاط التفاعلات بسرعة أكبر بكثير، وفي هذه الحجرة تمرّ الجسيمات داخل غاز النيون لتشكّل بالتالي مساراتها؛ ويُطبّق فرق جهد على صفائح في الحجرة، مما يتسبب في صنع ذيل مشتعل يُضيء على طول الغاز.
شارباك والانتقال إلى الرقميات
كانت حجرات الشرارة أسرع من الحجرات الفقاعية، لكنها لم تتمكن من تقديم التفاصيل - الدقة - التي تُقدّمها الحجرة الفقاعية. في العام 1968، طوّر عالم الفيزياء الفرنسي جورج شارباك الحجرة التناسبية متعددة الأسلاك للتغلب على القيود المفروضة على حجرة الشرارة، سواءً من حيث الدقة أم السرعة.
كانت حجرة شارباك مكونة بشكلٍ أساسي من صندوق مليء بالغاز مع وجود عدد كبير من الأسلاك الكاشفة المتوازية، وكلٌ منها متصل بمضخّم ترانزستوري مفرد؛ وبالتالي، لا يُوجد حاجة إلى الشعلة، إذ يستطيع السلك الكاشف المتصل بالمضخم اكتشاف الأحداث الأصغر بكثير. وبوصلها مع حاسوب، تُنجز حجرة شارباك معدلات عد أفضل بألف مرة من الكواشف الموجودة.
قاد اختراع شارباك، الذي قاده إلى الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1992، إلى ثورة في عالم اكتشاف الجسيمات؛ فقد جعل من عملية الحصول على البيانات أسرع، وآلية وإلكترونية. ونتيجة لذلك، غيرت من طبيعة عرض الحدث.
لم تعد الصور الطريقة الوحيدة لتمثيل مسارات الجسيمات بتفصيل كبير؛ فقد أصبحت عروض الحدث تمثيلات بصرية لأنماط من الإشارات الرقمية التي تتعلق بالجسيمات المُنتجة داخل تفاعل ما. أكثر من ذلك، يُمكن عرض الحدث بطريقة تسمح فقط برؤية المسارات التي يجدها علماء الفيزياء مهمة؛ ولذلك صار العرض تمثيلاً بصرياً للجزء الأكثر أهمية من الأحداث الحاصلة في الكاشف.
مع استمرار الكواشف في أن تصبح أكثر تعقيداً، وقدرةً على كشف الكثير جداً من الجسيمات في الوقت نفسه، زادت كمية البيانات المترافقة مع كل حدث، وأصبح عرض الأحداث أكثر تعقيداً. ولذلك، طور الباحثون برمجيات يُمكنها تفسير أنماط الإشارات المُلتقطة من الكواشف، ومن ثمّ إعادة صنعها على هيئة صور ثلاثية الأبعاد.
سمح مجيء شاشات الحواسيب في سبعينات القرن الماضي لعلماء الفيزياء، وللمرة الأولى، بتقديم عروض حدث ملونة، ما قاد إلى نقاشات متعلّقة بأي الألوان هي الأفضل لتمثيل الجسيمات المختلفة. ومن ثمّ بوجود أنظمة حاسوبية مثل Megatek، صار بالإمكان التلاعب بتلك العروض لتصبح ثلاثية الأبعاد في ذلك الوقت.
تصادمات بروتون - بروتون مضاد في كاشف UA1 في سيرن عام 1983، وقام النظام الحاسوبي Megatek بتقديم هذا العرض. Credit: CERN
البيانات الرقمية
يقوم توم ماكولي Tom McCauley من جامعة نوتر دام في الولايات المتحدة بصناعة عروض الحدث لتجربة CMS في سيرن؛ يقول ماكولي: "يُنتج مصادم الهادرونات الكبير الملايين من تصادمات البروتون - البروتون في الثانية الواحدة، مما يُؤدي إلى أحداث معقدة جداً، ومن ثمّ يتبع ذلك تطور في الكواشف. تعكس العرض هذا التعقيد، لكنها مفيدة لأنّ بإمكانها تقديم ملخص بصري عمّا حصل، ويُمكنك وصف الجغرافيا والمسار بالكلمات، لكن في بعض الأحيان، لا شيء يهزم خريطة تحتوي خطاً يرسم الطريق".
لصنع عرض ما في هذه الأيام ، يُشغل فريق التجربة برنامجاً يُحوّل البيانات إلى أجسام مصورة، ومن ثمّ تُعالج تلك الرسوم بتطبيق متخصص، وتعتمد تفاصيل العرض - المشاهد، والألوان، وما هو مرئي أو غير مرئي - على حالة الاستخدام الخاصة.
يستخدم علماء فيزياء من سيرن عروض الحدث لمشاهدة الأشكال الهندسية، وتطوير خوارزميات، ومراقبة الكواشف. و تستخدم هذه العروض بشكلٍ متكرر أيضاً في علوم الاتصال لـ LHC لتوعية العامة ووسائل الإعلام، وتستمر دقة تلك الصور بالتطور دوماً.
يقول ماكولي: "اليوم وبفضل التطوّر في الحساب، نحن قادرون على الحصول على رسومات أكثر دقة وتفصيلاً، ويُمكننا تشغيل العديد من الأجهزة والمنصات المختلفة. اليوم، أجد أنه من المذهل أن أستطيع تشغيل تطبيق عرض الحدث على هاتفي المحمول!"
تغيرت طبيعة وتعقيد، وكيفية توليد عروض الحدث بشكلٍ كبير منذ وقت التقاط صور حجرة ويلسن الضبابية في العام 1911، لكنّ شيئاً واحداً لم يتغيّر "نقل الفيزياء بدقّة هو الاعتبار الرئيسي دوماً" وفقاً لماكولي.