مستقبل السمّاعات: كيف سنتحدث إلى تقنياتنا مستقبلاً؟

يفتتح واحد من أفضل مشاهد مسلسل "لاري ديفيد" (Larry David) المثير للأعصاب، "إكبح حماسك" (Curb Your Enthusiasm)، مع لاري وهو يجلس في أحد المطاعم. وفيما كانت الموسيقى السمجة تعزف، كانت الكاميرا تبتعد بالمشهد، لتكشف عن رجل يجلس على الطاولة المجاورة له. كان يجلس وحيداً، لكنه كان يتذمر بصوتٍ عالٍ، مذكراً شخصاً ما بأننا لا نستطيع أن نرى أن "علبة حفظ الأحذية لا تصلح كهدية على أي كوكب من الكواكب".

ثم يتبين الأمر: أنظر إلى الجانب الآخر من رأس هذا المهرج، وستجد سماعته البلوتوث. بدأ لاري، بعد أن أتعبته حماقة الرجل، بالحديث بصوت عالٍ إلى نفسه. وفي نهاية المطاف، تجادل مع الرجل الذي بجواره، ثم عاد كل منهما يتذمر للمقاعد الفارغة أمامهما... حمقى.

بُثت هذه الحلقة في العام 2007. وقد كان من باب الرحمة أن غابت مشكلة "الوابل الأزرق" (Bluedouche) لفترة بعد ذلك، استُبدلت بأناس يجلسون صامتين محدّقين في شاشاتهم، مما يجعل الجلوس إلى جوارهم على الأقل أسهل. لكن الأمور أخذت تتغير مرة أخرى: صرنا أكثر اعتماداً على سيري و Google Now و Cortana، وعالم من المساعدين الافتراضيين والتطبيقات القائمة على الصوت والمنصات، لقد بدأنا في التحدث إلى هواتفنا مرة أخرى. إلاّ أن هذه المرة يجب أن تكون أفضل بكثير.

 

مصدر الصورة: THEN ONE/WIRED
مصدر الصورة: THEN ONE/WIRED


حالياً، ليس لدينا حقاً إلا طريقة واحدة فقط للتحدث إلى أجهزتنا: نضغط على زر، نقرب النصف الأسفل من هاتفنا إلى فمنا، ونتحدث فيه بوضوح شديد. لكن قلة فقط يعتقدون أن هذا ما ستكون عليه الحال دائماً، ولديهم كثير من الأمثلة من الثقافة الشعبية عن هذا المستقبل. السماعات داخل الأذن من فيلم "Her"، أو عالم الشاشات المنتشرة في كل مكان في فيلم "Total Recall"، أو كمبيوتر مسلسل ستار تريك. ولكن، على الأغلب، هي السماعات داخل الأذن من فيلم Her.

أينما التفت، ستجد هناك شركة تعمل على مثل هذه السماعات اللاسلكية غير المزعجة، التي يمكنك أن تنسى وجودها في أذنك. وربما كانت سماعات داش (Dash)، من شركة "براغي" Bragi، هي المثال الذي يشيع الاستشهاد به. ولكن هناك أيضاً سمّاعات "بيير بدز" (Pearbuds)، و"أون فونز" (OwnPhones)، وسماعة "هينت" (Hint) من موتورولا، و"هيير نوتس" (HearNotes)، و"إير إن بدز" (Earin buds)، و"ترو بدز" (Truebuds)، وغيرها من السماعات التي لا تحصى من الشركات الصغيرة والكبيرة. يمتلىء موقع (Kickstarter) بهذه الأشياء. إنها ليست فقط سماعات بلوتوث بدون فخامة، بل هي وسيلة كلية الوجود لأن تَسمع ويُستمع لك رقمياً.

 

سماعات داش من شركة براغي، هي سماعات لا سلكية توضع داخل الأذن، لكي ترتديها طوال الوقت. حقوق الصورة: BRAGI
سماعات داش من شركة براغي، هي سماعات لا سلكية توضع داخل الأذن، لكي ترتديها طوال الوقت. حقوق الصورة: BRAGI


إلا أن لاري ديفيد لم يغضب من الأحمق الذي كان إلى جواره لأن سماعات الرجل انتهكت حسَّه الجمالي الراقي. لقد جن جنونه، لأن الرجل كان يصرخ على لا أحد. و وفقاً لـ "ديان غوتسمان" Diane Gottsman، خبيرة الإتيكيت التي تعمل مع المدراء التنفيذيين على أدبيات الأعمال: "إن القاعدة الأولى هي، أنه لا ينبغي أن يكون هذا لهو يسبب العرقلة". وتضيف: "إنه من المريح للغاية التحدث إلى سيري"، ولكن، لا تفعل ذلك بغباء. ولحسن الحظ، فقد أصبح القيام بذلك أسهل شيئاً ما.

أحد الأسباب، هو تحسّن الميكروفونات. لقد قضينا زمناً طويلاً ونحن نصرخ في سماعاتنا فقط لكي نوصل أصواتنا عبر الرياح أو ضوضاء حركة السير، أو تحويل ميكروفوناتنا إلى شارب فوق شفاهنا ببوصتين. أما الآن، فقد صارت ميكروفوناتنا أقوى وأكثر وضوحاً، فقط أفضل. وكذلك الأمر مع برمجياتها الخاصة.

في غرفة عرض "تلفزيون أبل" (Apple TV)، بعد حدث أبل المهم الأخير، كان الموظفون يعملون جاهدين على رد الناس عن وضع جهاز التحكم قرب أفواههم وهم يوجهون أسئلة البحث لسيري. كانوا يقولون، إنه سيعمل على ما يرام لو أنكم تركتموه إلى جانبكم فقط. إن هذا يمثل انتصاراً لإلغاء الضوضاء، باستخدام برنامج لطرد كل ضوضاء الخلفية وعزل ما نريد أن نسمعه فعلاً بشكل أفضل. تماماً كما هو حال هواتفنا التي تجمع التقنية، من أمثال تقنية الصوت عالي الجودة (HD)، التي تجعل أصواتنا أفضل أيضاً، والمعالِجات الجديدة منخفضة الطاقة، التي تضمن بقاء الهواتف منصتة طوال الوقت.

أحدث معالجات "كوالكوم" (Qualcomm)، الـ "سناب دراغون 820" (Snapdragon 820)، الذي ستجده في كل هاتف رائد تقريباً، يتضمن تقنية مدمجة تستطيع الاستماع دائماً، دون أن تستهلك أي طاقة تقريباً. كما يمكن لبرنامجه الصوتي "سينس" (Sense) رصد مكانك من خلال الاستماع إلى البيئة المحيطة بك، ثم إلغاء ضوضاء الخلفية المزعجة بشكل انتقائي. ويمكن استخدام شريحة شركة "إنتل" (Intel) "أديسون" (Edison) بطرق مشابهة، وهو ما وجدت إنتل أنه وسيلة مثيرة على نحو خاص لإثباته في وقت سابق من هذا العام.




عملت إنتل مع شركة BMW لبناء خوذة متصلة، تمكنك من التحدث مع دراجتك (المتصلة بالمثل) بإنجليزية جلية. لقد أخذوا أكثر الواجهات (interfaces) غموضاً -وهو مؤشر فحص المحرك- وأجبروه على تفسير نفسه. إنه يستطيع سماعك، والرد عليك، عبر كل ضجيج الطرق المفتوحة.

إنه مجرد نموذج أولي، هذا ما يردّدونه مراراً وتكراراً حين يُروني إياه في قاعة المؤتمرات الصغيرة بمقر شركة إنتل. وكأن الدوائر المكشوفة أو الإعدادات المعقدة بشكل مستحيل لا تفشي السر، كما تعلمون. لكنه يعمل. فحين تقول: "مرحباً، أيتها الدراجة الذكية" في الجزء الأمامي من خوذة HJC الرمادية المعدلة، سيرد عليك صوت رجل بريطاني خافت: "مرحباً".

 

ثم تنطلق. قُل: "حالة الدراجة"، وستحصل على قائمة صوتية سريعة بالمعلومات الحيوية لدراجتك الـ R1200GS. إسأل عن "المسافة"، وستحصل على تقدير دقيق للوقود المتبقي. كما يمكنها أن تزوّدك بإرشادات الطريق، وأن تحولك إلى محطة الوقود إن لم يكن لديك ما يكفي من الوقود للوصول إلى وجهتك، أو حتى تنبيهك عند بلوغك منعطف أعمى. إنك لن تحتاج أبداً للنظر إلى هاتفك، أو حتى للعرض التوجيهي المسبق. فكل شيء يحدث من خلال سماعتي الأذن، وميكرفون قريب من فمك.

ستستمر الميكروفونات في أن تصبح أفضل وأبسط وأكثر ذكاءً. هذا هو ببساطة "قانون مور" [1]. ولكنها سوف تعمل دائماً بالطريقة التي كانت تعمل بها دائماً. وفي الوقت نفسه، تهدد التقنيات الجديدة تماماً بقفزات أكبر من ذلك بكثير في كيفية تحدثنا إلى أجهزتنا. كلاهما عبارة عن تقنيات قديمة، يقف ورائها علم مؤكد، بدأت لتوها فقط بشق طريقها إلى رفوف المتاجر.

و وفقاً لـ "بروس بورينستاين" Bruce Borenstein، الرئيس التنفيذي لشركة "آفتر شوكس" AfterShokz لتصنيع سماعات الرأس، التي مقرها مدينة سيركيوز في نيويورك: "يبلغ حجم تجارة سماعات الرأس ما يزيد عن بليوني دولار أمريكي" ، وأضاف: "ولكن الجميع يفعلون ذلك بنفس الطريقة".

 

لقد تأسست آفتر شوكس قبل أربع سنوات، عندما عرض صديق على بورينستاين سماعات رأس تستخدم الاهتزازات، لتمرير الصوت مباشرة إلى قوقعة أذنك، بدلاً عن ضخه عبر قناة الأذن. تسمى هذه الطريقة "التوصيل العظمي" (bone conduction)، وهي موجودة منذ عشرات السنين، غالباً في البيئات العسكرية. ولكن بورينستاين أدرك أنه يستطيع بيعها للناس العاديين، بدلاً من ذلك.

 

"ثم تكف عن كونها أجهزة كومبيوتر، وتبدأ في التحول إلى شيء آخر أكبر".

سماعات آفتر شوكس لا توضع فوق أذنك، بل تتّكئ عوضاً عن ذلك على عظم وجنتك، أمام أذنك مباشرة. ما يعني أنك تستطيع سماع موسيقاك، مع استمرار قدرتك على سماع العالم من حولك. يقول بورينستاين "لقد أدركت فوراً أن هذا حل عظيم لسماعات الأذن الرياضية". "خصوصاً الأشخاص الذين لديهم ما يفعلونه في الخارج". لقد رأى دراجين يقودون دراجاتهم بسماعة في أذنهم والثانية خارجها، أو آخرين غير واعين بالعالم من حولهم.
 

سماعات "تريكز" من آفتر شوكس تسمح لك بسماع الموسيقى، والعالم. لكنها ربما لا تجعلك تبدو مهيباً وأنت تؤدي التمارين الرياضية. مصدر الصورة: AFTERSHOKZ
سماعات "تريكز" من آفتر شوكس تسمح لك بسماع الموسيقى، والعالم. لكنها ربما لا تجعلك تبدو مهيباً وأنت تؤدي التمارين الرياضية. مصدر الصورة: AFTERSHOKZ


وجد بورينستاين شريكاً في الصين، كان يصنع منتجاً يسمى "بون سونيك" (Bone Sonic). لكن هذا الإسم يبدو كاسم فرشاة أسنان، فغير اسمه إلى آفتر شوكس، وبدأ ببيع المنتج للرياضيين والمتحمسين للهواء الطلق. وبعد بضع جولات من التحسينات والإصلاح الشامل لطيف الصوت، الذي يجعلها جيدة فعلاً، بدأت سماعات آفتر شوكس تباع بجنون. يرتدي بورينستاين سماعته الـ "بلوز 2" (Bluez 2)، وهي أحدث طراز من سماعات آفتر شوكس، طوال اليوم، وقد رفع موديل الشركة الجديد، الذي يسمى "تريكز" (Trekz) هدف "إنديغوغو" [2] (Indiegogo)  للتمويل أكثر من ثماني مرات بالفعل.


بوسع الـ "بون كوندكشن" (التوصيل بالعظام) (Bone conduction) أن يساعد الأدوات على سماعك بشكل أفضل -الاهتزازات ليست عرضة لنفس الآثار السلبية لضجيج الخلفية كما هو حال السماعات النمطية- ويجعل وضعك الميكرفون على رأسك طوال اليوم أكثر أماناً. لكننا لم نعثر بعد على حل لمشكلة الأحمق الجهوري. وهنا يأتي دور الـ "الكلام بدون صوت" (subvocalization).

فكر بنفسك وأنت تقرأ كتباً، وتجد نفسك وأنت تشكل الألفاظ التي تقرأها بشفتيك. هذا هو الكلام بدون صوت -تشكيل الكلمات دون نطقها صوتياً. يعالج كل من أعصابك ودماغك الكلمات بنفس الطريقة، وكل ما تحتاجه، هو طريقة جديدة لجمع البيانات عما تقول. واحد من أفضل الأمثلة على كيفية تحقيق ذلك، هو سلسلة كتب "لعبة إندر" (Ender’s Game). لدى إندر جهاز يسمى "الجوهرة" (The Jewel)، وهو قطعة مزروعة متصلة بعظمة فكه. وعندما يرتديها، فإنه يستطيع التحدث إلى كومبيوتره فقط عن طريق تحريك فمه وعضلات لسانه، دون أن يصدر أي صوت.


إلا أن هذا ليس محضَ خيالٍ علمي. فالقراءة الصامتة حقيقية جداً. في العام 2004، أجرت وكالة ناسا دراسة كشفت عن أن "جهاز استشعار صغير بحجم زر، ملتصق أسفل الذقن وعلى أحد جانبي تفاحة آدم، يستطيع جمع إشارات الأعصاب، وإرسالها إلى معالج ومن ثم إلى برنامج كومبيوتر يترجمها إلى كلمات. لقد كان هدفهم، كما قالوا، هو استخدام الاتصالات "غير المنطوقة" (sub-vocal)، "في بزات رواد الفضاء، في الأماكن الصاخبة، مثل أبراج المطار، لالتقاط أوامر ضباط التحكم بالحركة الجوية، أو حتى في البرامج التقليدية للتعرف على الصوت لزيادة الدقة ". ربما صار التحدث إلى كومبيوترك لا يستدعي التحدث بصوتٍ عالٍ على الإطلاق.

لا يزال كل ذلك في مرحلة البحث، وتطبيقات المستخدمين الحقيقيين هي أبعد من ذلك بكثير. معظم الأجهزة الموجودة فعلاً هي عبارة عن أعشاش من الأسلاك مشبوكة على وجهك، تجعلك تبدو وكأنك تجربة علمية. ولكن هذا شيء يعتقد كثير من الباحثين والعلماء بأنه سيكون ذا أهمية لطريقتنا في التواصل قريباً.

إلا أن ماكويفي يعود لفيلم "Her". لقد "كان بوسعهم أن يتحادثوا دون حتى أن يدري أحد"، كما يقول، في إشارة إلى بطلي الفيلم -أحدهما إنسان والآخر ذكاء اصطناعي. ويضيف: "تبلغ نقطة، حيث يمكنك أساساً أن تخوض حواراً داخلياً مع كيان خارجي، ومن هنا نبدأ في التطور المشترك". سوف نندمج مع الآلة، كما يقول، سنصبح كياناً واحداً متماثلاً، وسينطمس الخط الفاصل بين أفكارنا وكومبيوتراتنا.

ولكن، قبل أن يحدث ذلك، تحتاج كومبيوتراتنا لمعرفة المزيد من المعلومات عما نفعل ونقول ونفكر. وهذا آتٍ أيضاً.

في معرض الإلكترونيات الاستهلاكية، الذي أقيم في شهر كانون الثاني/يناير من العام 2014، قبل أن يمر شهر على عرض فيلم Her في دور السينما، عرضت مجموعة الأجهزة الجديدة لدى شركة إنتل نموذجاً أولياً لسماعة أذن تسمى "جارفيس" (Jarvis). وقد لف رجل عرف فقط باسم "لاري" السماعة حول أذنه اليمنى، وفي خلال ما يقارب 60 ثانية، أجرى حجزاً، وأبلغ زميله بأنه لن يحضر الاجتماع، وتجاهل ثلاث رسائل من زوجته.

وعلى سبيل الاستعراض، تحدث لاري بصخب. ولكن كان بوسعه أن يومئ برأسه فقط، أو أن يهزّه بـ(لا)، للإجابة على أسئلة جارفيس. تستخدم هذه السماعة أجهزة استشعار الحركة، لقراءة لغة الجسد والإيماءات البسيطة، وذلك لجعل التفاعل أكثر سرعة. ومع كاميرات إنتل "ريل سينس" (RealSense)، يستطيع كومبيوترك قراءة عواطفك وأنت تتكلم وأن يتخذ قرارات حتى أكثر استنارة.

 

إن حلمهم هو أن تكون هناك محادثات متعددة الوسائط ومتعددة المدخلات، تتضمن نفس القدر من الإشارات الاجتماعية والعاطفية التي تتوافر لدينا عندما نتحدث وجهاً لوجه. عندها، ستكف هذه الأجهزة عن كونها كومبيوترات، وتبدأ في أن تصبح شيئاً أكثر بكثير. فكرة مرعبة قليلاً؟ ربما. ولكنها أكثر شخصية بكثير، أيضاً.


ملاحظات


[1] قانون مور: هو قانون شهير يتعلق بتطور المعالِجات، وصناعة الدارات المتكاملة، أطلقه "غوردون مور" Gordon Moore، المدير التنفيذي لشركة إنتل. وينص القانون على أنه ”كل عامين، سيزداد عدد الترانزستورات على الدارات المتكاملة بمقدار الضعف، وسيقل حجمها بمقدار النصف”.
[2] Indiegogo: هو موقع إلكتروني يعمل على توفير التمويل الشعبي العام للمشاريع.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات