خطوة جديدة لحل ألغاز الزجاج

 تَشكّلُ الزّجاجِ حين يُبرّد سائُله المُذاب بسرعةٍ كبيرة دون أن تجد ذرّاته أو جزيئاته ما يكفي من الوقت للعثور على أماكنها في النّموذج النّظاميِّ الّذي يميّز البلّوراتِ الصّلبة. حقوق الصورة: Washington University in St. Louis

تعلّمنا في المدرسة أنّ للمادة حالاتٍ ثلاث: الصّلبة، والسّائلة، والغازيّة. ويحدث أن يسأل أحد الطّلاب الأذكياء الّذين ملّوا الدّرس (وجميعُنا التقينا طالبًا مثله)، عمّا إذا كان الزّجاج صلبًا أم سائلًا، ولهذا الطالب وجهةُ نظرٍ فيما يسأل، فالزّجاج هو سوائلُ صلبةٌ غريبة بُرّدت بسرعةٍ كبيرة جدًا فتراصّت ذرّاتها أو جزيئاتها قبل أن تنظّم نفسها في النّماذج النّظاميّة للأجسام الصّلبة المتبلورة. لذلك فإنّ الزّجاج يحملُ الخصائصَ الميكانيكيّة للجسم الصّلب إلا أنّ ذرّاته أو جزيئاته غير منتظمة، كما هو الحال بالنّسبة لها في الحالة السّائلة.

ومن الدّلائل على غرابة الزجاج أنّ التحوّل من السّائل إلى الزّجاج أكثرُ ضبابيّة من التّحول من السّائل إلى البنية البلّوريّة الصّلبة، وقد تمّ التّوافق على تعريف التّحولِ إلى زجاجٍ بأنّه النّقطة الّتي تكون فيها لزوجةُ المادّة المشكِّلة للزّجاج 1013 بواز (poise). علمًا أنّ لزوجة الماء بدرجة حرارة الغرفة هي 0.01 بواز، ويمكن أن تبلغ لزوجة زيتٍ ثخين 1.0 بواز، فعند هذه النّقطة يكون الزّجاج ثخينًا جدًّا على أن يسيل وبذلك يوافق التّعريف العمليّ للجسم الصّلب.

العلماء يكرهون هذه التّعاريف الضّبابيّة، إلّا أنّهم مازالوا محكومين بهذا التّعريف إذ لا أحد في الحقيقة يفهم تحوّل الزّجاج، ما يضعه ضمن القوائم الّتي تضمّ أكبر عشْر معضلات لم تحلّ في الفيزياء.

وكان العلماء في معظم الأحيان قادرين على قياس الخصائص السّائبة للسّوائل المُشَكِّلة للزّجاج، كاللّزوجة والحرارة النوعيّة، وكانت التّفسيرات التي خرجوا بها تعتمد جزئيًا على القياسات التي أجروها، فكل الأبحاث التي تخصّ الزجاج ملأى بالنّتائج المتناقضة، فيما تُعد ّورشات العمل حول الزّجاج مكانًا لجدلٍ دائم.

الأجهزة التّجريبيّة في السنوات الخمس عشرة الأخيرة والّتي تبعثر الأشعّة السّينيّة أو النترونات من الذّرّات في قطرةِ سائلٍ خارجَ الوعاء وتحرضها على التّبلور سمحت للعلماء في نهاية المطاف بقياس الخصائصِ الذّريّة للسّائل، وهو المستوى الّذي يُشَكّ بأن تكون أسرار تحوّل الزّجاج كامنةً فيه.

وفي دراسة من هذا النوع لكين كيلتون Ken Kelton أستاذُ الفنونِ والعلوم في كلية آرثر هولي كومبتون في جامعة واشنطن في سانت لويس مع فريقٍ بحثيّ يتألف من كريس بيبلو Chris Pueblo من جامعة واشنطن، ومين هوا سون Minhua Sun من جامعة هاربن نورمال في الصّين، قارن الفريق قياسًا لتفاعلِ هذه الذّرات في سوائلَ مختلفةٍ مشكلةٍ للزّجاج، ونُشرت النّتائج في الإنترنت في مجلّة Nature Materials، وهي تنسجم مع عدّة قياساتٍ لتشكّل الزّجاج، الأمر الّذي يعدّ إشارةً على أنّهم ماضون في الطّريقِ الصّحيح.

يقول كين: "لقد بيّنا أنّ مفهومَ السّوائل القويّة والهشّة الّذي اختُرع لتفسير سبب تغيّر اللّزوجة الملحوظ بطرقٍ مختلفة لدى تبريد السّوائل أعمقُ بكثيرٍ من مجرّد اللّزوجة، وله علاقةٌ بالتّنافر بين الذّرات إلى حدٍّ كبير، ما يحدّ من قدراتها على التّحرك مجتمعة. ولذلك أيضًا يظهر الفارق بين السّوائل الهشّة والقويّة في الخصائص البنيويّة وخصائص المرونة والحركة، وهي جميعها تجلّياتٌ للتّفاعل الذّرّيّ". ويتابع قائلًا:" وهذه هي المرّة الأولى الّتي تُوضَّح فيها صلة الوصل بين اللّزوجة والتّفاعل الذّرّيِّ تجريبيًّا".

والمثير للفضول هو أنّ دراساتِه وأعمالًا قام بها آخرون تشير إلى أنّ تحوّل الزّجاج لا يبدأ عند درجة حرارة تحوّله المألوفة بل عند درجة حرارةٍ أعلى بمرّتين تقريبًا في أنواع الزّجاج المعدني (أعلى بمرّتين في الزّجاج السّيليكاتيّ كزجاج النّوافذ)، فيقول كيلتون: "عند هذه النّقطة تحديدًا، تبدأ الذّرّات للمرّة الأولى بالحركة على نحوٍ مجتمع".

 الوصول إلى المستوى الذّرّيّ


جاءت اكتشافات كيلتون الأخيرةُ إثرَ أبحاث جرت في وقت سابق حول إحدى الخواصّ للسّوائل المشكلّة للزّجاج وتدعى الهشاشة Fragility، فمعظم الناس يرون أنّ جميع أنواع الزّجاج هشّة أما الفيزيائيّون فيرون أنّ بعضها قويّ وبعضها هشّ. وقد عُرض الفارق للمرة الأولى عام 1995، على يد أوستن أنجل Austen Angell أستاذ الكيمياء في جامعة ولاية أريزونا، والذي شعر بالحاجة إلى صياغةٍ جديدة لتحديد الفروقات الكبيرة في الطّريقة التي تتزايد فيها لزوجة السّائل حين يقترب من التّحول إلى زجاج.

تتغيّر لزوجات بعض السّوائل بشكل تدريجيّ ولطيف مع اقترابها من هذا التّحول، ولكن عند تبريد سوائلَ أخرى فإنّ لزوجتها تتغيّر بشكل طفيف في البداية، لكنّ سرعة التغّير سرعان ما تتزايد بشكل صاروخيّ مع اقترابها من درجة حرارة التّحول، في ذلك الحين تمكّن أنجل من قياس اللّزوجة فقط ولكنه دعا النّوع الأوّل بالقويّ strong والثاني بالهشّ fragile لأنّه توقّع وجود فرق بنيويّ يكمن خلف هذه الفروقات الّتي شاهدها.

وحول ذلك يقول كيلتون: "من السّهل تفسيرُ ما عناه إذا فكّرت بأن الزّجاج يتحول إلى سائلٍ وليس العكس، لنفرض أنّه تمّ تسخين الزجاج حتى درجةِ التحوّلٍ الزجاجيّ، ففي حال كان هذا النّظام قويًّا فهو يسترجع البُنية الّتي كانت له كزجاج والتي تعدُّ أكثر تنظيمًا من مثيلتها في السّائل ويكشف ذلك أنّ البنية لا تتغيّر كثيرًا من خلال التّحول، وعلى نقيض ذلك يفقد النّظام الهشّ بنيته الزّجاجية، مما يشي بتغيّر بنيته كثيرًا عبر التّحول، ويضيف كيلتون: "كانوا يعتقدون أنّ التّغيّر في اللّزوجة لا بدّ وأنّ له علاقةً بالبنية من خلال العديد من المفاهيم المتوسّطة، وبعضها غير معروف بشكل جيّد، ما فعلناه هو قفزة فوق هذه الخطوات المتوسّطة لنبيّن مباشرة أنّ الهشاشة تتّصل بالبنية".

نشر كيلتون مع مجموعته عام 2014 نتائج التجاربِ في Nature Communications وأظهرت هذه النتائج أن هشاشة السّائل المشكّل للزّجاج تنعكس بأمرٍ يُدعى معامل البنية، وهو مقدار كمّيّ يُقاس بتشتيت أشعّة إكس المنعكسة عن قطرة من سائل وهي تحتوي معلوماتٍ عن موضع الذّرّات في القطرة، يقول كيلتون: "لقد كان الأمر كما خمّن أنجل تمامًا، فمعدّل التّنظيم الذّرّيّ في السّائل بالقرب من درجة حرارة التّحول يحدّد ما إذا كان السّائل هشًّا أو قويًّا.

 شحذ بعض المفاصل الذريّة الصغيرة


إلّا أنّ كيلتون لم يكن مقتنعًا، فقد كان علماءُ آخرون يجدون علاقة مترابطة بين هشاشة السّائل وخصائصه المرنة وحركيّته، إضافة إلى بنيته، وحول ذلك يقول: "ينبغي أن يكون هناك أمرٌ مشترك، فما الّذي يعتقده المرء كامنًا وراء كل هذه الأمور؟" وهو يعتقد أنّ الإجابة ينبغي أن تكون في التّجاذب والتّنافر المتغيّر بين الذّرات حين تتحرّك مقتربةً من بعضها البعض، ويُدعى ذلك بقدرة التّفاعلات الذريّة، فإذا كانت ذرّتان مفصولتان على نحوٍ جيّد، فسيكون هنالك القليل من التّفاعل بينهما فتقترب الطّاقة الكامنة بين الذّرّات من الصّفر تقريبًا، ولدى اقترابهما من بعضهما البعض تنجذبان لأسباب مختلفة وتنخفض الطّاقة الكامنة فتصبح سالبة (أو تجاذبيّة)، ولكن مع زيادة الاقتراب بينهما، تبدأ نُوى الذّرّات بالتّفاعل، وتدفعان بعضهما البعض. ونتيجة لذلك تنطلق الطّاقة.

يقول كيلتون: "هذا هو الجزء التّنافريّ للطّاقة الكامنة والّذي كنّا نشاهده في تجاربنا". وقد وجدوا لدى قياسهم الطّاقة الكامنة التّنافريّة لعشرة سبائكَ معدنيّةٍ في مولد الفوتونات المتقدّم -وهو خطّ للأشعّة في مختبر آرغون الوطنيّ- أنّ للسّوائل القويّة طاقاتٍ كامنةً تنافريّةً أعلى، ويتغير ميل الطّاقة الكامنة التّنافريّة بسرعة أكبر من تغيّرها في السّوائل الهشّة، وعلى حدّ قول كيلتون: "ما يعنيه ذلك أن السّوائل القويّة تنتظم بسرعة أكبر في درجات الحرارة المرتفعة من السّوائل الهشّة، وهذه هي الدّعامة المجهريّة لـ "هشاشة" أنجل".

يتابع كيلتون: " المثير للاهتمام هو أنّنا نشاهد الذّرّاتِ آخذةً بالاستجابة على نحوٍ مترابط، مبدية حذرًا من بعضها البعض، وذلك عند درجات حرارةٍ تقدّر بضعفي درجة حرارة تحوّل الزّجاج وقريبة من درجة حرارة الانصهار.

ويضيف: "هذه هي النقطة الحقيقيّة التي يبدأ عندها التّحوّل الزجاجيّ، فبزيادة تبريد السّائل تتحرّك الذّرّات على نحو مجتمع إلى أن تمتدّ طوّافات من هذه التّجمعات من أحد طرفيّ السّائل إلى الآخر، وتتراصّ الذّرّات، إلّا أنّه عند هذه النّقطة، يكون التّحوّل الزّجاجيّ التقليديّ نهايةً فحسب لعملية مستمرّة تبدأ عند درجة حرارة أعلى بكثير".

الباحث يستعدّ للمشاركة في ورشة عملٍ في بولندا حيث يتوقّع نقاشاتٍ مباشرة لنتائجه، والّتي تُعارض بعضًا من نتائج زملائه، ولكنّه على قناعةٍ بإمساكه طرف الخيط الذي سيؤدّي إلى الخروج من هذه المتاهة حيث بدأت تتصاعد مستويات مختلفة من المعرفة، وحول ذلك يقول: "من المثير اجتماع هذه الأمور على هذا النّحو الجيّد".

الزجاج في كل مكان


سعى كيلتون خلف تحوّل الزّجاج لسنواتٍ عديدة، ويعود ذلك لسببين: الأول هو اهتمام الفيزياء بذلك، والثاني، وباعتراف منه، لأنّه وببساطة يحبّ السّوائل والزّجاج، إلّا أنّه حين كان يبحث عن معلوماتٍ حول النّاس الّذين أشادوا بأطروحاته غالبًا ما كان يجدهم يعملون في الصّناعة، ذلك لأنّ الزّجاج موجود في كل مكان، ومعظمنا يدور في ذهنه فورًا زجاج النّوافذ وزجاج كؤوس الشّراب لدى الحديث عن الزّجاج، إلّا أنّ عدّة موادّ غذائية وأدوية ولدائن هي من الزّجاج أيضًا.

تُعد السباغيتي الجافّة قاسيةً وهشّة لأنّها من أنواع الزّجاج، وحين تُسخّن في المياه المغليّة تخضع للتّحوّل إلى حالةٍ مطّاطيّة تبلي بلاء حسنًا مع الصّلصة الحمراء؛ وغزل البنات Cotton candy هو زجاجٌ مصنوع من بلّورات السّكر المنصهرة الّتي تُغزل وهي خارجة في الحالة المنصهرة، بعد ذلك تتجمّد ضفائر السّكر المنصهرة على شكل زجاج؛ وجبنة الشّيتوس؛ ورقائق الجمبري؛ والحليب المجفّف (البودرة)، كلّها من الموادّ الّتي تُحسب على الزّجاج، كالعديد من الأطعمة الأخرى.

وغالبًا ما تَستخدم شركات الأدوية التّجفيفَ بالرّذاذ أو التّجفيفَ بالتّجميد للتّأكّد من حصولها على قوامٍ زجاجيّ للدّواء بدلًا من البلّوريّ، كما أنّ العديد من اللّدائن القاسية، كالبولي ستايرين (المستخدم في تخزين الفول السّودانيّ)، وشفرات الحلاقة المستخدمة لمرّة واحدة والبولي فينيل كلورايد (المستخدم في التّدعيم الجانبيّ الفينيليّ وأعمال السباكة) هي من أنواع الزّجاج.

ينكبّ العلماء الصّناعيّون على دراسة أوراق كيلتون لأنّهم بحاجة للسّيطرة على تحوّل الزّجاج وتحويل الزّجاج إلى جسم صلب بلوريّ لإعطاء منتجاتهم خصائص مرغوبة، وعمومًا تنحلّ الأدوية الّتي تكون في حالة زجاجيّة بشكل أفضل في الجسم، لذا فإنّ جرعات أقلّ منها تكون فعّالة، وعلى بعض الأدوية أن تُنتَج كزجاج لأنّها غير قابلة للذّوبان بأشكالها البلّوريّة، كما أن السّيطرة على تحوّل الزّجاج مهمّ في إنتاج اللّدائن لأنّها عبارة عن زجاج، ولدائن قاسية لها ذاكرة لتاريخها الحراري يؤثّر على أدائها وعمرها.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

اترك تعليقاً () تعليقات