باحثون يتوقعون وجود موادَّ تتمتع بدرجة انصهارٍ قياسيةٍ

تمكن باحثون في جامعة براون Brown University، بعد إجرائهم سلسلةً من عمليات المحاكاة الحاسوبية المعقدة، من تحديد مادةٍ تتمتع بدرجة الانصهار الأعلى من بين جميع المواد المعروفة. 

وأظهرت حسابات الباحثين، المنشورة في مجلة "Physical Review B"، أنّ المادة المصنوعة من مقدارٍ مناسبٍ من الهافينيوم (Hafnium) والنتروجين (Nitrogen) والكربون (Carbon)، سيكون لها درجة انصهار تبلغ أكثر من 4400 كالفن (أي 7460 درجة فهرنهايت). وهذا الرقم يعادل تقريباً ثلثي درجة الحرارة على سطح الشمس، كما أنه يزيد بـ 200 كالفن عن أعلى درجة انصهارٍ سُجلت تجريبياً. 

تُظهر الصورة مركبات من الهافينيوم والكربون تتمتع بأعلى درجة انصهارٍ معروفة. وباستخدام المحاكاة الحاسوبية يتوقع المهندسون في جامعة براون أن مادةً مكونةً من الهافينيوم والنتروجين والكربون ستسجل أعلى درجة انصهار من بين جميع المواد المعروفة. Credit: van de Walle lab / Brown University
تُظهر الصورة مركبات من الهافينيوم والكربون تتمتع بأعلى درجة انصهارٍ معروفة. وباستخدام المحاكاة الحاسوبية يتوقع المهندسون في جامعة براون أن مادةً مكونةً من الهافينيوم والنتروجين والكربون ستسجل أعلى درجة انصهار من بين جميع المواد المعروفة. Credit: van de Walle lab / Brown University

تتكون المادة صاحبة الرقم القياسي التجريبي من عناصر الهافينيوم والتنتالوم (Tantalum) والكربون (Hf-Ta-C)؛ لكن تشير الحسابات الجديدة إلى أن تركيبةً أفضل من الهافينيوم والنتروجين والكربون صيغتها (HfN0.38C0.51)، ستكون المرشح المحتمل لتسجيل الرقم القياسي الجديد. ويباشر الباحثون حالياً مرحلةً جديدةً من المشروع تتضمّن تجميع المواد وتركيبها، ومن ثم التأكد مخبرياً من صحة النتائج التي توصلوا إليها.

"من ميزات البدء في استخدام النهج الحاسوبي هي إمكانية تجربة العديد من الصيغ الكيميائية المختلفة دون الحاجة إلى إنفاق المال، والاستمرار بذلك إلى أن نجد تركيبةً تستحق إجراء التجارب المخبرية عليها. ولولا وجود هذا النهج، لكنا ما نزال نتخبط بشكل عشوائي. ولكننا الآن ندرك أننا نملك شيئاً يستحق التجربة". هذا ما قاله آكسل فان دي فيل Axel van de Walle، الأستاذ المساعد في الهندسة والمشارك في هذه الدراسة بالتعاون مع وين هوانغ Qijun Hong الباحث في أبحاث ما بعد الدكتوراة. 

استخدم الباحثون تقنيةً حاسوبيةً تستنتج درجة الانصهار للمواد عن طريق القيام بمحاكاة العمليات الفيزيائية التي تحصل عند المستوى الذري، متتبعةً بذلك قوانين ميكانيكا الكم. وتبحث هذه التقنية في ديناميكية الانصهار التي تحدث في المستوى النانوي ضمن كتلةٍ يبلغ حجمها 100ذرةٍ أو أكثر. وتعتبر هذه التقنية فعالةً جداً أكثر من تلك التقليدية، لكنّها تتطلب إجراء الكثير من الحسابات، ويعود سبب ذلك إلى العدد الكبير من المركبات المحتملة التي يمكن اختبارها. وقد أجريت الدراسة باستخدام شبكة الكومبيوتر XSEDE الموجودة في المؤسسة الوطنية للعلوم National Science Foundation. كما تمت الاستعانة بمجموعة الحواسيب عالية الأداء (Oscar) الموجودة في جامعة براون. 

بدأ فان دي فيل و هونغ دراستهما بتحليل مُرّكب (Hf-Ta-C)، الذي سبق وتم تحديد درجة انصهاره مخبرياً. وتمكنت المحاكاة من توضيح بعض العوامل التي يمكن أن تساهم في القدرة الاستثنائية للمادة على تحمل الحرارة.

أظهرت التجارب أن مُرّكب (Hf-Ta-C) يجمع بين الحرارة العالية للانصهار (ويقصد بها الطاقة المنطلقة أو الممتصة التي تتولد عن الانتقال من الحالة الصلبة إلى السائلة)، مع الاختلاف الصغير في الإنتروبيا (أي الفوضى) لكل من المرحلتين الصلبة والسائلة للمادة. ويشرح فان دي فيل هذا بقوله: "الذي يسبب الانصهار هو زيادة الإنتروبيا عند انتقال المادة من الحالة الصلبة إلى الحالة السائلة؛ لذا إذا كانت الإنتروبيا في الحالة الصلبة عاليةً جداً، فإنها تميل للحفاظ على حالتها الصلبة مما يؤدي إلى زيادة درجة الانصهار".

استخدم الباحثون هذه النتائج للبحث عن مركبٍ يحقق الحد الأقصى من هذه الخواص. ووجدوا ضالتهم في التركيب المكوّن من الهافينيوم والنتروجين والكربون. حيث يملك هذا المركّب درجة انصهارٍ عاليةً كما هو الحال في مُرّكب (Hf-Ta-C)، إلا أنه يتميز عنه بأن الفروق صغيرةٌ بين إنتروبيا كل من الحالتين الصلبة والسائلة. وقد قام الباحثون بحساب درجة انصهار هذا المركب مستخدمين النهج الحاسوبي، فجاءت النتيجة أعلى بـ 200 كالفن عن الرقم القياسي المسجل سابقاً. 


يتعاون الباحثان فان دي فيل و هونغ الآن مع مختبر "ألكساندرا نافروتسكي" Alexandra Navrotsky في جامعة كاليفورنيا في دايفس University of California-Davis، وذلك بغية تجميع المكونات، ومن ثم إجراء الاختبارات لتحديد درجة انصهار المركّب. وقد تم تجهيز مختبر نافروتسكي لمثل هذه التجارب التي تتطلب استخدام درجات حرارةٍ عالية جداً.

يمكن لهذا العمل في نهاية المطاف أن يوجّه بوصلة البحث نحو مجموعةٍ جديدةٍ من المواد عالية الأداء (high-performance materials) ومتعددة الاستخدامات، حيث يمكن استعمالها في تصفيح توربينات الغاز أو كتروس حرارةٍ في الطّائرات الّنفاثة. أما بالنسبة إلى مُرّكب (Hf-Ta-C)، فيقول فان دي فيل إنهم لم يتحققوا بعد إنْ كان مفيداً للاستخدام أم لا.

ويتابع فان دي فيل حديثه فيقول: "لا تُعدّ درجة الانصهار الخاصية الوحيدة المهمة حين يتعلق الأمر باستخدام المواد واستعمالها". ويردف قائلاً: "يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أموراً أخرى مثل الخصائص الميكانيكية، ومقاومة الأكسدة، وجميع الخواص الأخرى للمادة. وهكذا مع أخذ جميع هذه الأمور بعين الاعتبار يمكنك التفكير بمزج موادَّ أخرى مع هذا التركيب بهدف خفض درجة الانصهار. ولكن باعتبار أنك بدأت في درجات حرارةٍ عاليةٍ، فإنك ستحظى بالمجال الكافي كي تضبط جميع الخصائص الأخرى. وهذا، حسبما أعتقد، سيمنح الناس فكرةً عامة عما يمكن فعله".

كما يؤكد فان دي فيل أن هذا العمل يُظهر الفعالية القوية التي تتمتع بها التقنية الحاسوبية الجديدة نسبياً. وفي السنوات الحالية تزايد الاهتمام باستخدام الحوسبة في اكتشاف الخصائص المادية للعديد من التراكيب المحتملة. ولكن أغلب تلك الأعمال والتجارب ركزت على الخواص التي يمكن حوسبتها بسهولةٍ بالغةٍ أكثر من درجة الانصهار.

وختاماً يقول فان دي فيل: "يشكّل توقع درجة الانصهار مشكلةً صعبةً قياساً مع ما تم القيام به سابقاً. ولكنّ هذا ما يمنحها الخصوصية والتميّزَ ضمن نطاق مجموعات النماذج".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات