سائسُ الحمير الذي غيّر نظرتنا للكون

طيش الشباب، وشغف المعرفة


في السنوات الأولى من القرن الماضي، وفي إحدى مناطق لوس آنجلوس كان يعيش شابٌ في مقتبل العمر، وكان هذا الشاب غيرَ صالح لأي شيء حسب رأي معظم الناس الذين يعرفونه؛ فقد كان طائشا، مدمنَ كحول، مقامرا وزير نساء، فضلا عن فشله في الدراسة؛ إذ إنه طُرد من المدرسة قبل أن يتم الصف الثامن.

وفي ذلك الوقت لم تكن لوس آنجلوس كما هي عليه الآن، صاخبة لا يخفت الضوء فيها ليلاً و نهاراً. بل كانت أقل هدوءا وحداثة مما هي عليه الآن. وقد قرر مجموعة من علماء الفلك -يرأسهم الفلكي المرموق جورج هيل- أن إحدى مناطق لوس آنجلوس ربما تكون صالحة لإنشاء مرصد فيها؛ ذلك أن الرصد يحتاج إلى أماكن ذات تلوث ضوئي قليل . كان العلماء يخططون لإنشاء أكبر تلسكوب على وجه الأرض في ذلك الوقت . 

وكان بالقرب من لوس آنجلوس جبل يسمى " ويلسون" وقد وقع الاختيار على هذا الجبل كي يبنى المرصد عليه. ولأن وسائل النقل آنذاك لم تكن متطورة بما فيه الكفاية، ولكون عملية نقل المعدات إلى الجبل شديد الوعورة كانت غاية في الصعوبة على وسائل النقل العادية، فقد اضطر فريق العمل إلى استخدام الوسائل التقليدية لنقل معداتهم إلى سفح الجبل، فاستعانوا بالحمير والبغال لإنجاز هذه المهمة. 

وضمن فريق "البغّالين" تواجد شاب نشيط يدعى "ميلتون هوماسون" ، وكان هذا الشاب يركب على حماره ويقود فريقا من البغال التي تنقل المعدّات، يغني طوال الطريق، ووراءه كلبه الأبيض الذي لم يكن يفارقه.

كان ميلتون هوماسون هذا هو ذلك الشاب الفاشل، وذو الأخلاق السيئة الذي تحدثنا عنه سابقا، وكان قد قرر أن يعمل سائسا للحمير في هذا المشروع بعد أن ترك المدرسة ، فصار يعمل جاهدا على نقل المعدّات الخاصة بالمرصد على الحمير ، وينقلها إلى قمة الجبل مستمتعا بعمله الجديد . وعلى غير ما توقع الآخرون ، فقد كان هوماسون نشيطاً و متحمساً إلى حدّ بعيد ، كما أنه كان فضوليا إلى حدّ مزعج بالنسبة للعلماء ، فقد كان يسأل عن كلّ شيء يصادفه ، يدفعه إلى ذلك فضول شديد، ورغبة في تعلّم كلّ ما يتعلق بالمرصد والسماء. 

حكاية غراميّة وزواج 


كانت إحدى بنات مهندسي المرصد ترافق أباها في عمله ، وكانت هذه الفتاة الذكية تعمل وتتعلم من أبيها ومن بقية الموجودين، ولأن هوماسون كان ذا شخصية لطيفة ومرحة ، فقد تعلقت هذه الفتاة به وصارت ترافقه على الدوام . لكنّ أباها لم يكن راضيا عن الأمر ، فكيف ترتبط ابنته هو بشاب طائش ، غير مكترث، لم يدفعه طموحه ليكون أكثر من سائس حمير !! 

كان هوماسون -فضلا عن كونه بغالا- يعمل حارسا على المرصد ،وماسحا للأرضية فيه . ولم يكن أي من العلماء يعيره اهتماما ، باستثناء والد الفتاة الذي كان منزعجا من تعلّق ابنته بعامل جاهل وغير متعلّم على حدّ تعبيره. غير أنّ قوّة الحبّ كانت أكبر من عناد الأب، فانتهت القصّة الغرامية بزواج لم ينههِ إلا الموت، بين سائس الحمير، وتلك الفتاة التي آمنت بأنّ فيه سحرا يميّزه عن الآخرين. 

استغلال الفرص السانحة 


صار لمرصد جبل ويلسون شهرة عالمية كبيرة، وكان العمل فيه حلم الكثيرين من المهتمين بعلوم الفضاء والفلك...وفي إحدى الليالي، مرض راصد التلسكوب الليلي، ولأن الأدوار كانت موزعة بدقة، فقد أصابت الحيرة العاملين في المرصد، وتساءلوا عمّن يمكن أن يحلّ مكان الراصد. غير أنّ راصد التلسكوب نفسه- و كان على ما يبدو قد استشعر ذكاء هوماسون ومهارته مسبقا- طلب من القائمين على المرصد أن يعطوا فرصة لهوماسون ليحلّ مكانه. وإذ شعر الجميع بأنّ الفكرة تبدو مجنونة، فقد رضخوا أخيرا ومنحوا سائس الحمير الفرصة التي كان ينتظرها. 

وحينما بدأ عمله، لاحظ القائمون على المرصد براعةً من هوماسون أصابتهم بالدهشة . فقد كان أكثر قدرة على التعامل مع التلسكوب من أي شخص رأوه ، وسرعان ما تطورت وظيفته من بغّال إلى عامل تلسكوب دائم و مساعد راصد، إذ آمن مدير المرصد "جورج هيل" بقدراته إلى حدّ كبير.


صداقة جديدة، ونجاحات باهرة


في عام 1919، وبعد انتهاء الحرب الكونية الأولى، جاء إلى مرصد جبل ويلسون شاب آخر ، وقد كان هذا الشاب معروفا ومروموقا على نحو أكبر وأحسن حالا من "البغّال" . 

كان هذا الشاب هو إدوين هابل -الشخص الذي سمي باسمه أكثر التلسكوبات التي صنعها الإنسان شهرة- صار هابل وهوماسون يعملان معا، وسرعان ما تطورت مهارة هوماسون على نحو كبير، وصار يلقب بـ "مهندس المجرات الأكبر"؛ لأنه استطاع رصد عدد كبير جدا من المجرات.


وفيما بعد توطدت علاقة هذين الشابين وصارا صديقين حميمين. وكانت حصيلة صداقتهما وعملهما معا أن اكتشف إدوين هابل ،بمعاونة هوماسون، أحد أهمّ الأدلة على نظرية الانفجار العظيم . فعبر سنوات من رصد المجرات ومراقبتها لاحظ هابل أنّ أطياف المجرات تنزاح نحو اللون الأحمر وهو ما يعني أنّ هذه المجرات تبتعد عنا وأنّ الكون في حالة تمدّد. ووضع هابل، اعتمادا على قياسات هوماسون ورصده للمجرات، قانونه الشهير، وصار هوماسون معروفا في الأوساط الفلكية، وجديرا بالاحترام، وأسهم على نحو كبير في كثير من الاكتشافات. 

على هذا النحو المثير للاهتمام، وعلى الرغم من عدم تلقيه تعليما عاليا، قاد الفضول والشغف بالتعلّم هوماسون إلى أن يصبح واحدا من ذوي الأثر في علوم الفلك، مؤكّدا أن لا شيء يمكن أن يعيق الإنسان عن تحقيق مبتغاه، إذا تسلّح بالعزيمة والإصرار وحبّ التعلّم، وشغف اكتشاف المجهول. وقد كُرّم هوماسون بأن منح درجة الدكتوراه الفخرية، كما أطلق اسمه على إحدى فوّهات القمر، وتوفي في كاليفورنيا سنة 1972. لتكون سيرة حياته المثيرة مثالاً على الإنسان الحقيقيّ، بتجلياته كلّها؛ نزقه، وطيشه، إصراره، وحبّه للمعرفة. ( في الصورة يظهر هوماسون وبجانبه إدوين هابل في أقصى اليسار، رفقة مجموعة من العلماء يتوسطهم كما هو واضح آلبرت آينشتاين)

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات