التكنولوجيا التي استُخدمت في دراسة "الحب" بين الجسيمات، تُستخدم أيضاً في المجال البحثي لتحسين الاتصالات بين الأرض والفضاء.
ملكية الصورة: NASA/JPL-Caltech
هنا قصة حب ضمن أصغر المعايير التي يمكن تخيلها: جسيمات الضوء. من الممكن الحصول على جسيمات مرتبطة مع بعضها بشكل وثيق، حيث أن أي تغير يحدث لأحدها يؤثر على الآخر، حتى لو كانوا منفصلين على مسافة بعيدة.
تُدعى هذه الفكرة بالتشابك entanglement، وهي فرع من فروع الفيزياء يسمى ميكانيكا الكمّ quantum mechanics، وهو وصف لطريقة عمل العالم عند مستوى الذرات والجسميات وحتى أصغر من ذلك. تقول ميكانيكا الكم إنه عند هذه المقاييس الصغيرة جداً، فإن بعض خصائص الجسيمات تعتمد بالكامل على الاحتمالية. بعبارة أخرى: لا شيء مؤكداً حتى يحدث!.
اختبار نظرية بيل
لم يعتقد ألبرت أينشتاين Albert Einstein تماماً أن قوانين ميكانيكا الكم تصف الواقع. افترض هو وآخرون أن هناك بعض المتغيرات المخفية في العمل، والتي من شأنها أن تسمح للأنظمة الكمومية بأن تكون قابلة للتنبؤ بها. على كل حال، في عام 1964 نشر جون بيل John Bell فكرة أن أي نموذج من الواقع المادي مع هكذا متغيرات مخفية من شأنه أن يسمح بتأثير لحظي من جسيم على جسيم آخر. وبينما أثبت أينشتاين أن المعلومات لا يمكنها الانتقال أسرع من الضوء، لكن الجسميات ما زالت تؤثر على بعضها البعض حتى لو كانت بعيدة جداً عن بعضها حسب بيل.
يعتبر العلماء نظرية بيل أساساً مهماً في الفيزياء الحديثة. بينما أجريت العديد من التجارب لإثبات نظرية بيل، إلا أنه لم يستطع أحد إجراء تجربة كاملة ومناسبة لما يحتاجه بيل حتى وقتٍ قريب. في عام 2015 نُشرت ثلاث دراسات منفصلة حول هذا الموضوع، جميعها تتفق مع تنبؤات ميكانيكا الكم والتشابك.
وقال كريستر شالم Krister Shalm الفيزيائي مع المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا NIST، بولدر، كولورادو: "الأمر المثير أنه بمنطق ما، فإننا نقوم بتجربة فلسفية". شالم هو المؤلف الرئيس في إحدى دراسات 2015 التي تختبر نظرية بيل. وأضاف شالم قائلاً: "كانت للبشر دائماً توقعات معينة حول الطريقة التي يعمل بها العالم، وعندما جاءت ميكانيكا الكم بدى أنها تتصرف بشكل مختلف".
نُشرت الورقة البحثية التي قام بها شالم وزميله مارسيلي Marsili في مجلة Physical Review Letters مع عنوان يثير التفكير "مَخرج قوي- اختبار مجاني للواقعية المحلية".
وقال مارسيلي من مختبر الدفع النفاث التابع لناسا في باسادينا، كاليفورنيا، والذي تعاون مع شالم: "تُظهر ورقتنا البحثية وكذلك الورقتان اللتان نشرتا السنة الماضية أن بيل كان على حق: فأي نموذج للعالم يحتوي متغيرات مخفية يجب أن تسمح للجسيمات المتشابكة بأن تؤثر على بعضها البعض من مسافات بعيدة".
يساعد القياس (المُماثلة) على فهم التجربة التي أجريت في مختبر نيست في بولدر
تخيل أن أ و ب عبارة عن فوتونات متشابكة. أرسلت أ إلى أليس و ب إلى بوب، اللذان يبعدان عن بعضهما 607 قدم (185 متر).
تعامل كل من أليس وبوب مع فوتوناتهما بكل أنواع الطرق للحصول على شعور لممتلكاتهم. ودون التحدث مع بعضهما، قررا بعد ذلك بشكل عشوائي كيفية قياس فوتوناتهما، وذلك باستخدام مولدات رقم عشوائية لتوجيه قراراتهما. عندما قارن كل من أليس وبوب الملاحظات، تفاجئا بأن نتائج تجاربهما المنفصلة كانت مترابطة. بعبارة أخرى، فإن قياس أحد فوتونات الزوج المتشابك يؤثر على خصائص الفوتون الآخر.
وقال شالم: "مع أن أليس وبوب حاولا تمزيق الفوتونات إلى أجزاء، لكن حبهما لا يزال قائماً". بعبارة أخرى، تتصرف الفوتونات المتشابكة كأنها جزآن من نظام واحد، حتى لو كانا منفصلين في الفضاء.
كرر كل من أليس وبوب- واللذان يمثلان كواشف الفوتونات الحقيقية- هذه التجربة مع الفوتونات المتشابكة الأخرى، واستمرت هذه الظاهرة. في العالم الحقيقي، فإن كواشف الفوتونات ليست البشر، لكنها عبارة عن كواشف تتكون من أسلاك متناهية في الصغر وفائقة التوصيل تُسمى اختصاراً بـ SNSPDs.
هذه الكواشف عبارة عن أشرطة معدنية يجري تبريدها حتى تُصبح فائقة التوصيل، يمعنى أنها تفقد مقاومتها الكهربائية. عندما يضرب الفوتون هذه الشريط يحوله معدن طبيعي مرة أخرى للحظات. وبالتالي فإن مقاومة الشريط تقفز من صفر إلى قيمة محدودة. مكّن هذا التغير في المقاومة الباحثين من تسجيل هذا الحدث.
ولجعل هذه التجربة تحدث في المختبر، فإن التحدي الأكبر هو تجنب فقدان الفوتونات عندما تُرسل من كواشف أليس وبوب عن طريق الليف البصري optical fiber. يعمل مختبر الدفع النفاث والمعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا على تطوير هذه الكواشف SNSPDs لتطابق المعايير العالمية. ما يدل على كفاءة أكثر بـ 90%، وانخفاض "عدم الثبات" أو عدم اليقين بشأن موعد وصول الفوتون. هذه التجربة لم تكن ممكنة لولا وجود كواشف SNSPDs.
لماذا هذا مفيد؟
يمكن أن يُستخدم تصميم هذه التجربة بالتشفير- جعل الاتصالات والمعلومات آمنة- لأنها تنطوي على توليد الأرقام العشوائية.
يقول شالم: "تخبرنا نفس التجربة أن هناك شيئاً عميقاً حول كيفية بناء العالم، ويمكن أيضاً استخدامها في تلك التطبيقات اللازمة للحفاظ على المعلومات الخاصة بك آمنة".
التشفير ليس التطبيق الوحيد لهذا البحث. تُستخدم كواشف مشابهة في التجربة التي قام بها كل من مختبر الدفع النفاث والمعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا، يُمكن في النهاية أن تُستخدم أيضاً في الاتصالات البصرية في الفضاء العميق. ومع كفاءةٍ عالية والقليل من عدم اليقين بشأن وقت وصول الإشارة، فإن هذه الكواشف مناسبة تماماً لنقل المعلومات باستخدام نبضات الضوء في الطيف البصري.
يقول مارسيلي: "في الوقت الراهن لدينا شبكة الفضاء العميق للاتصال مع المركبات الفضائية حول النظام الشمسي، والتي تشفر المعلومات ضمن موجات الراديو. وبمساعدة الاتصالات البصرية سيكون بإمكاننا زيادة معدل البيانات لتلك الشبكة من 10 إلى 100 ضعف".
تستخدم شبكة الاتصالات البصرية للفضاء العميق تكنولوجيا مشابهة للكواشف في تجربة مارسيلي، وتم برهنتها بواسطة بعثة (Lunar Atmosphere Dust and Environment Explorer) اواختصار لـLADEE ، والتي دارت حول القمر في الفترة الزمنية من أكتوبر/تشرين الأول إلى أبريل/نيسان 2014.وقامت المهمة التكنولوجية المسماة Lunar Laser Communication Demonstration (وصف اتصالات القمر الليزرية)، بالتعاون مع بعثة LADEE على الأرض، باستقبال البيانات الليزرية المشفرة إلى الأرض، واستخدام أجهزة الاستقبال الأرضية المعتمدة على كواشف SNSPDs.
تعمل مديرية بعثة تكنولوجيا الفضاء التابع لناسا في مهمة Laser Communications Relay Demonstration. من المقرر أن تقوم البعثة بعمل ثورة في طريقة إرسال واستقبال البيانات والفيديو والمعلومات الأخرى، وذلك باستخدام الليزر لتشفير ونقل البيانات بمعدل 10 إلى 100 مرة أسرع مما هي عليه أنظمة الترددات الراديوية اليوم، وذلك باستخدام كميات أقل من الكتلة والطاقة.
وقال مارسيلي: "لا يمكن للمعلومات أن تنتقل أسرع من الضوء- كان أينشتاين محقاً بذلك. لكن من خلال بحث الاتصالات البصرية، بإمكاننا زيادة كمية المعلومات التي نعيد ارسالها من الفضاء، وحقيقة أن أجهزة الكشف لدينا من هذه التجربة تمتلك هذا التطبيق، فإن هذا الأمر يخلق قدراً كبيراً من التآزر بين المسعييْن".
وهكذا، فإن ما بدأ بدراسة "الحب" بين الجسيمات قد ساهم في الابتكارات في الاتصالات بين الفضاء والأرض. الحب يجعل العالم يذهب في جولة، وبمعنى من المعاني فإنه ربما يساعدنا في التعرف على عوالم أخرى.