"ابتسامة عريضة بدون قط"، تلك هي الطريقة التي يصف بها لويس كارول Lewis Carroll الطريقة الغامضة للقط تشيشاير Cheshire Cat في الاختفاء، بينما يترك ابتسامته العريضة خلفه في قصته الكلاسيكية أليس في بلاد العجائب Alice in Wonderland. تثير الشخصية الخيالية سؤالاً لطالما استحوذ على انتباه الفيزيائيين خلال السنوات القليلة الماضية: كيف يمكن لجسم أن ينفصل عن خصائصه؟
طوَّرَ ياكير أهارونوف Yakir Aharonov والمؤلفون المشاركون معه في عام 2013، فكرة من تجربة تقترح أن الفوتون يمكن أن يُفصَل عن استقطابه (polarization)، وهي الخاصية التي تخبرنا عن الاتجاه الذي تتذبذب فيه الموجة. في السنة التالية، طور طوبياس دينكماير Tobias Denkmayr والمؤلفون المشاركون معه تجربة مماثلة، حيث ظهرت النيوترونات منفصلة عن لفّها المغزلي (spin)، وهي الخاصية التي تتضمن كمية التحرك الزاويّة، وأطلقت مجموعة أهارونوف على هذا الأثر الاسم: "القط تشيشاير الكمّي" (quantum Cheshire Cat).
رغم ذلك، فقط شكّك راؤول كوريا Raul Corrêa، وبابلو سالدانا Pablo Saldanha، ومارسيلو سانتوس Marcelo Santos، و ك.هـ. مونكين C. H. Monken من الجامعة الفيديرالية لميناس جرايس Federal University of Minas Gerais في بيلو هوريزونتي -البرازيل، في هذا التفسير للنتائج.
يقترح هؤلاء أنه بدلاً من من اعتبار الجزيء منفصلاً عن خصائصه، يمكن تفسير النتائج باستخدام الأثر الكمي القياسي، المعروف بالتداخل الكمي (quantum interference)، والذي يتداخل (interferes) فيه جزيء معين مع نفسه نتيجةً لخصائصه شبه الموجية (wave-like properties).
قال كوريا متحدثاً إلى Phys.org: "تعتبر القابلية لفصل الجزيء عن أحد خصائصه الجوهرية، كما يقترح أهارونوف والمؤلفون المشاركون معه، أمراً فاتناً، كذلك فهو يشكك في المفاهيم الأساسية جداً في حياتنا اليومية، والتي تكون فيها خصائص الأشياء ملازمة للأشياء نفسها"، وأضاف: "على سبيل المثال، لا يوجد أحد يرى الألوان تنتشر حولنا بدون الأشياء ذات تلك الألوان. تجعل التجربة التي قام بها دينكماير والآخرون من الفكرة أمراً فاتناً أكثر، ذلك أنه يعتبر أن هذه الظاهرة الغريبة كلياً تحدث في عالم الفيزياء. ما نقوم به هنا، هو أن نأخذ نتائجهم (الصحيحة تماماً) ونقترح تفسيراً لا يكون فيه أي جزيء مفصولاً عن خصائصه، وعليه فلا يوجد تناقض. لا شك أن التداخل الكمي ظاهرةٌ غريبة، ولكننا لا نحتاج إلى أكثر من هذه الغرابة لفهم هذه النتائج".
تواريخ مجهولة
يشرح كوريا والمؤلفون المشاركون معه أن أساس الاختلاف يقع في محاولتنا لنسب الواقع الفيزيائي إلى حالة لا يمكن إدراكها كواقع فيزيائي. في هذه الحالة، فإن الحالة التي لا يمكن أن نعتبرها حقيقةً فيزيائياً هي التاريخ الماضي لجزيئات تسافر عبر مقياس التداخل (interferometer).
يسمح مقياس التداخل للجزيئات أن تسافر في أحد الذراعين، وكان هذا هو الجهاز الذي استخدم أصلاً لتوضيح "القط تشيشاير الكمي". فكر الفيزيائيون في هذه التجربة، أنهم يستطيعون معرفة الذراع التي عبر من خلالها فوتون أو نيوترون عن طريق عمل قياسات للجزيء بعد خروجه من الجهاز. في حالة الفوتونات، على سبيل المثال، فإن إزاحة الفوتونات بمقدارٍ معين بَدَت وكأنها تشير إلى أن الفوتون يجب أن يكون سافر خلال أحد الذراعين، ولنقل إنها الذراع اليسرى، ذلك أن الجهاز وضع في الذراع اليسرى "كما هو الحال في ألواح الزجاج" خصيصاً ليتسبب بإزاحة للفوتونات بذلك المقدار. في ذات الوقت، ظهرت قياسات استقطاب الفوتونات وكأنها تُظهر أن الفوتونات نفسها يجب أن تكون سافرت خلال الذراع اليمنى ﻷسباب مشابهة.
استنتج الفيزيائيون في التجربة آنفة الذكر، وبشكل منطقي جداً، أن الفوتونات كانت في الذراع اليسرى بينما كان استقطابها في الذراع اليمنى. ولكن الآن، يفسر كوريا والمؤلفون المشاركون معه النتائجَ بشكل مختلف، مقترحين أن قياسات إزاحة الفوتون، والتي جرت بعد أن كانت الفوتونات قد غادرت مقياس التداخل، لا يمكن أن تُظهِر معلومات عن مساراتها السابقة، بمعنى أخر، لا يمكن للقياسات أن تحدد أي ذراع سافرت الفوتونات عبرها.
يوضح الفيزيائيون، أن التداخل الكمومي هو السبب في عدم استطاعتنا أن نفترض افتراضاً بسيطاً "أو هكذا يبدو" كهذا. تقاس مواقع الفوتونات، عندما تعبر خلال مقياس التداخل، باستخدام موجة انتشار الفوتونات، فإذا كانت الحزمة كبيرة كفاية، ينتج عن ذلك "قياس قوي"، حيث تسبب الحزمة في هذه الحالة إزاحةً كبيرة لموقع الفوتون، وتتيحة للباحثين أن يحددوا أي ذراع سافر الفوتون عبرها. ولكن الذي حدث، هو أن العلماء في الدراسات السابقة استخدموا "قياساتٍ ضعيفة"، والتي تسبب، بحسب كوريا والمؤلفين المشاركين معه، إزاحةً صغيرة لا تسمح للباحثين أن يحددوا الذراع التي سافر الفوتون عبرها.
يوضح كوريا: "في حالة القياسات الضعيفة التي أخذ بها أهارونوف والآخرون، كانت الإزاحات صغيرة مقارنة بقطر الحزمة، وبناءً على ذلك، فإن كل جزء من الحزمة المتعلق بكل ذراع وبكل استقطاب، يتشابك كل منها مع الآخر"، وأضاف: "هذا ما يميز التداخل ويمنعنا من إرفاق موقع التحديد مع انتشار الفوتون خلال كل ذراع أو استقطاب. إذا رأينا المشكلة من هذه الزاوية، فلا وجود للتناقض القائل بأن الفوتون في مكان ما وأن استقطابه في مكان آخر. الغموض الوحيد الذي يبقى هو الغرابة التي تتميز بها ميكانيكا الكم، والتي يمكن فيها للجزيئات أن تُكتشف بشكل مستقل، بينما يكون لانتشارها خصائص شبيهة بالموجة (wave-like properties)".
تفسيراتٌ مختلفة
تلقي الورقة البحثية الجديدة رؤية مهمة على ميزة أساسية في ميكانيكا الكم، وهي أن التفسير يلعب دوراً مهماً في فهمنا لعالم الكم. بينما تقترح الورقة أن أثرَ القطِّ تشيشاير الكمي قد لا يكون دقيقاً، فإن التداخل الكمومي محير أيضاً، ولكن بطريقة مألوفة أكثر. مع وجود طرق كثيرة جداً لتفسير النتائج، تظهر الاختلافات والتناقضات بشكل محتوم.
بعد قرن من استقصاء العالم الكمومي، يعلم الفيزيائيون أن المنطق السليم (common sense) لا يمكن الوثوق به، ولكنهم لا يعلمون على وجه التأكيد ما الذي يمكنهم الوثوق به.
يقول كوريا: "لا سبيل إلى أن تكون هذه الإجابة النهائية" وأضاف: "كما هو الحال في العلم، دائماً ما تظهر تفسيرات جديدة، وهي دائماً محل ترحيب، وهذا ما يميز تطور العلم. في الحقيقة، لا يمكننا حتى أن نقول أننا أثبتنا أن المؤلفين على خطأ في تفسيرهم، نحن إنما أعطينا تفسيراً مختلفاً للنتائج".
"بالرغم من ذلك، اقترح كل من أهارونوف والآخرون، ودنكماير والآخرون، تطبيقاً مفيداً يستفيد من هذا الانفصال بين الجزيء وبين خصائصه "قياسات عالية الدقة تفصل الخصائص المختلفة للجزيء"، ولكننا أعطينا، في ملاحظتنا الأخيرة، حججاً تفسر لم سيفشل هذا التطبيق في ضوء ميكانيكا الكم الاعتيادية. قد يوفر هذا أيضاً طريقاً محتملة لتخطيط فحص تجريبي، والذي سيقرر ما إذا كان الجزيء وخاصيته في مكانين مختلفين في الحقيقة. يمكننا بعدها أن نفكر في إمكانية الحصول على إجابة فيزيائية دقيقة لهذا التفسير".