مشاهدة الحركة الكمومية

تأمّل الساعة التقليدية ذات البندول إذا نسيتَ أن تلُف نابضها، فسوف تجدُ البندول في نهاية المطاف واقفاً لا يتحرك. إلا أن هذه الملاحظة البسيطة تصلحُ فقط على مستوى الفيزياء الكلاسيكية –أي القوانين والمبادئ التي يبدو أنها تفسرُ فيزياء الأجسام الكبيرة نسبياً على المقياس البشري. لكن ميكانيكا الكم، وهي القواعد المادية الأساسية التي تحكم السلوك الأساسي للمادة والضوء على المستوى الذري، صرّحت بأنه لا يمكنُ لأي شيء أن يكون في حالة سكونٍ تام فعلاً.

ولأول مرة، تمكّن فريقٌ من الباحثين لدى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والمتعاونين معه من إيجاد وسيلة لمراقبة وضبط الحركة الكمومية لجسمٍ كبيرٍ بما يكفي لرؤيته. وقد نُشرت نتائج دراستهم في 27 أغسطس/آب في النسخة الإلكترونية من مجلة العلوم Science.

لقد عرفَ الباحثون منذ سنوات، أن من الممكن للأجسام المادية في الفيزياء الكلاسيكية، أن تكون ساكنة بالتأكيد. حاول أن تُلقي بكرةٍ في وعاء وستجدُ أنَها ستتدحرج إلى الأمام والخلف لعدة مرات. ولكن في نهاية الأمر، ستتغلب قوى أخرى على هذه الحركة (من أمثال الجاذبية والاحتكاك)، فتتوقف الكرة في قعر الوعاء.

قال كيث شواب Keith Schwab، وهو أستاذ الفيزياء والفيزياء التطبيقيةِ لدى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، الذي قاد الدراسة: "في العامين الماضيين تعلمتْ مجموعتي، وبعض المجموعات الأخرى في أنحاءٍ مختلفة من العالم، كيف نُهدئ من حركة جسمٍ صغيرٍ على المقياس الميكرومتري لإنتاج هذه الحالة في الجزء السفلي، أو الحالة القاعية (الحضيضية) الكمومية (quantum ground state)". وأضاف شواب قائلاً: "لكننا نعرفُ أنه حتى في الحالة القاعية الكمية، عند درجة الحرارة صفر، ستبقى هناك تقلبات -أو ضجيج (noise)- ذات تردد قصير المدى". 

ولأن هذه الحركة الكمية أو الضجيج، هي نظرياً جزءٌ لا يتجزأُ من حركة كل الأجسام، فقد صمّم شواب وزملاؤه جهازاً من شأنه أن يسمحَ لهم برصدِ هذا الضجيج ومن ثم التأثير فيه.

يتألف "جهاز القياس بالمايكرومتر" (micrometer-scale device) من صفيحةِ ألومنيوم مرنة موضوعة على قمة ركيزةٍ من السيليكون. تقترن الصفيحة بدارة كهربائية فائقة التوصيل، وهي تهتز بمعدل 3.5 مليون مرة في الثانية الواحدة. وفقاً لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية، فإنَ الهياكلَ التي تهتزُ ستصل في نهاية المطاف إلى حالة سكونٍ تام، إذا ما بُرّدت إلى الحالة القاعية.

لكن، لم يكن هذا ما شاهده شواب وزملاؤه عندما بردوا النابض إلى الحالة القاعية فعلاً في تجاربهم. إذ بدلاً من ذلك، ظلت الطاقةُ المتبقية -أو الضجيج الكمي- موجودة.

يقول شواب: "هذه الطاقة هي جزءٌ من الوصف الكمي للطبيعة، ولا يمكنكَ أن تخرجها منها". وأضاف "كلنا نعلم أن ميكانيكا الكم تُفسر بالضبط لماذا تتصرف الإلكترونات بغرابة. ونحن هنا نطبقُ فيزياء الكم على شيء كبير نسبياً، على جهازٍ يمكنك أن تراه تحت المجهر الضوئي، ونحن نشاهدُ التأثيرات الكمية في ترليون ذرة بدلاً من ذرة واحدة فقط". 

ولأن هذه الحركة الكمية الصاخبة حاضرة دائماً ولا يمكن إزالتها، فإنها تضع حداً أساسياً على مدى الدقة التي يمكن للمرء أن يقيس بها موقع جسم ما.

لكن هذا الحد، كما اكتشف شواب وزملائه، لا يستعصي على الحل. فقد طور الباحثون وشركائهم تقنية للتحكم في الضجيج الكمي الأصيل، ووجدوا أنه من الممكن تقليصه دورياً. فقد اقترح كل من آشيش كليرك Aashish Clerk، من جامعة ماكجيل McGill University، وفلوريان ماركوارت Florian Marquardt، من معهد ماكس بلانك لعلم الضوء Max Planck Institute for the Science of Light، طريقةً مبتكرة للسيطرة على الضجيج الكمي، والتي كان من المتوقع أن تقلّصه على نحوٍ دوري. ثم طُبقت هذه التقنية على جهاز آلي للقياس بالمايكرون (micron-scale) في مختبر درجات الحرارة المنخفضة الخاص بشواب لدى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.

"هناك متغيران رئيسيان يصفان الضجيج أو الحركة"، كما يفسر شواب. ويضيف قائلاً: "لقد بيَّنا أننا نستطيعُ فعلاً أن نجعل تقلبات أحد هذين المتغيرين أصغر -على حساب أن تصبح التقلبات الكمية للمتغير الآخر أكبر. وهذا ما يسمى (حالة الحصر الكمي) quantum squeezed state، فقد خفضنا الضجيج من خلال حصره في مكان واحد، ولكن بسبب الحصر، كان لا بد وأن ينتثر الضجيج في أماكن أخرى. إلا أنه طالما كانت هذه الأماكن الأكثر صخباً ليست الموقع الذي تستمد منه قياساتك، فهي ليست ذات أهمية". 

قد يصبح من الممكن يوماً ما استخدام القدرة على التحكم في الضجيج الكمي لتحسين دقة القياسات شديدة الحساسية، من مثل تلك التي حصل عليها "مرصد الموجات الثقالية بقياس التداخل الضوئي" (the Laser Interferometry Gravitational-wave Observatory)، أو اختصاراً (ليغو) LIGO، وهو مشروع يقوده كل من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بحثاً عن مؤشرات على موجات الجاذبية، أي التجعدات في نسيج الزمكان.

ويقول شواب: "لقد فكرنا كثيراً في استخدام هذه الوسائل للكشف عن الموجات الثقاليةِ من النجوم النابضة (pulsars)- وهي نجومٌ كثيفةٌ لدرجةٍ غير معقولة، حيث تبلغ كتلتها حجم كتلة شمسنا مضغوطة في دائرة قطرها 10 كيلومترات ويبلغ دورانها الذاتي 10 إلى 100 مرة في الثانية". ويضيف شواب: "في سبعينيات القرن العشرين، كتب كيب ثورن Kip Thorne، [الأستاذ الفخري لكرسي ريتشارد فينمان للفيزياء النظرية لدى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا]، كما كتب غيره، أوراقاً بحثية تقول بأنه ينبغي أن تبعث هذه النجوم النابضة موجات ثقالية دورية على نحو شبه كامل، لذلك فإننا نفكر ملياً في كيفيةِ استخدام هذه التقنيات على أجسامٍ على مقياس الغرام (gram-scale) لتقليص الضجيج الكمي في الكواشف، وبالتالي زيادة حساسيتها لالتقاط تلك الموجات الثقالية".

وللقيام بذلك، يجب تحسين الجهاز الحالي. ويختتم شواب بقوله: "يسعى عملنا للكشف عن ميكانيكيات الكم على مستوياتٍ أكبر وأكبر، ونأمل يوماً ما في أنْ يؤدي هذا في نهاية المطاف إلى ملامسة شيء كبير بحجم الموجات الثقالية".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • قياس التداخل (Interferometry): التداخل: يعود أصل هذه الكلمة بشكلٍ أساسي إلى ظاهرة تداخل فيزو المسماة نسبةً إلى عالم الفيزياء الفرنسي هيبوليت فيزو (Hippolyte Fizeau) الذي اقترح استخدام التداخل لقياس أحجام النجوم. الفكرة بسيطة جداً: خذ الضوء القادم إلى جميع تلسكوباتك وقم بإسقاط هذه الأضواء على سلسلة من المرايا المرتبة بشكلٍ جيد بحيث تكون جميعها موجودة في نفس مستوي الصورة وكأن المرايا جزء من مرآة وحيدة ضخمة. إذا ما تمَّ القيام بذلك بطريقة تسمح بوصول أضواء التلسكوبات المختلفة إلى نفس مستوي الصورة وفي الوقت ذاته، تُنتج حزمة أضواء التلسكوبات هذه تابع الانتشار النقطي (PSF) الذي يُمثل تحويل فورييه لفتحات التلسكوبات مجتمعةً. وباختصار هي تقنية يستخدمها علماء الفلك للحصول على دقة تلسكوب عملاق بالاعتماد على مجموعة من التلسكوبات الصغيرة.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات