الكيوبت العكسي

فيليب مالينوسكي Filip Malinowski مُشيرًا إلى رقاقة مماثلة لتلك التي استخدمها علماء معهد نيلز بور NBI في تجاربهم من أجل وضع البت الكمومي (الكيوبت) بشكل عكسي. حقوق الصورة: Ola Jakup Joensen.

كشفت مجموعةٌ من العلماء في معهد نيلز بور (NBI)، جامعة كوبنهاغن، عن كيفية جعل الكيوبت يؤدي عمليات دورانٍ عكسيةٍ منظمةٍ. ولم يظهر أمرٌ مماثلٌ من قبل، وقد نشرت مجلة Physical Review Letters البحث، مسلطةً الضوء على الاكتشاف المُبتكر في فئة "Editor's Suggestion" أو "اقتراح المُحرر".

يقول فيليب مالينوسكي Filip Malinowski الحاصل على الدكتوراه: "أعتقد أن بإمكانكم القول بأننا اكتشفنا كيفية تسيير البت الكمومي بغيارين أمامي وخلفي تحت ظروفٍ معينةٍ". ويعمل فيليب في مركز الأجهزة الكمومية (QDev) في معهد نيلز بور.

وقد قاد مالينوسكي وزميلَه في مركز أجهزة الكم فريدريكو مارتينز Frederico Martins -الذي يعمل حاليًا مع جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا- المشروعَ العكسي reverse project. كما ضم أيضًا علماءَ من جامعة بوردو، الولايات المتحدة الأمريكية.

وكان دور العلماء الأمريكيين ينطوي على إنتاج بلورات أنصاف نواقل عالية النقاوة، يحتاجها فريق معهد نيلز بور كأساسٍ للبناء عليه عند تجميع "البيئة" المحددة اللازمة لإجبار الكيوبت على عكس اتجاه محور دورانه. وينبغي أن يُنظَر إلى اكتشاف معهد نيلز بور من باب أجهزة الحواسيب الكمومية، وهي الجيل الجديد والقوي للحواسيب الفائقة، التي يطمح العلماء في جميع أنحاء العالم إلى تطويرها من خلال مشاريعَ مختلفةٍ، ولا يُستثنى QDev من ذلك.

 
ولبناء حاسبٍ كموميٍّ، نحن بحاجة إلى كيوبت، ويختلف البت الكمومي عن البت الثنائي الذي هو العمود الفقري للحواسيب المعاصرة. وبإمكان البتات الثنائية افتراض القيم 0 أو 1، لذا فهي تعمل من حيث المبدأ كالمفاتيح: فهي إما "تشغيل"، أو "إيقاف".
 
ومثل البت الكلاسيكي، يمكن للكيوبت افتراض القيم 0 و 1. ولكن يمكن للبت الكمومي أيضًا أن يكون في حالة 0 و1 معًا، وهذا يُسمّى التراكب الكمومي superposition.
 
يقول فريدريكو مارتينز: "نرمز للكيوبت باتجاه دوران إلكتروناته، ومعالجة معلومات الكم تكون عن طريق التغييرات الدورية لجهات الدوران هذه. فمن الناحية النظرية، يُسفر الدوران المباشر والعكسي عن حالات تراكبٍ كموميٍّ مختلفةٍ، أما تجريبيًا، فقد كانت الاتجاهات المباشرة (الأمامية) هي الممكنة حتى الآن".
 
السرعة والدقة

ستمكّنُ حقيقةُ أنه يمكن للكيوبت أن يكون في حالة تراكب كمومي الحاسوبَ الكمي من إجراء عددٍ كبيرٍ من العمليات الحسابية في الوقت ذاته، وذلك لدى الانتهاء من تطوير هذا الحاسوب. ولإجراء البحوث على البت الكمومي، ينبغي العمل في درجات حرارة منخفضةٍ جدًّا، في جوار الصفر المطلق، أي (-273.15 درجة سيلزيوس)، ويكمن السبب في أن العمل في ظل هذه الظروف، سيقي البت الكمومي من الاضطرابات المختلفة التي قد تؤثر على مستوى أدائه، كالضوضاء مثلًا.

 
ويوضح فيليب مالينوسكي: "أُجرِيت تجاربنا عند 0.02 درجة سيلزيوس فقط فوق الصفر المطلق. وقد كنّا قادرين على خلق درجة الحرارة المنخفضة جدًا هذه بفضل معداتٍ خاصةٍ في مُختَبر مركز أجهزة الكم QDev، وهي أجهزة تبريد معدلةٌ تُدعى ثلاجة التمييع dilution refrigerator".
 
(المربع الأسود -الذي تبلغ أبعاده 3∗3 مليمتر تقريبًا- هو رقاقةٌ من أنصاف النواقل التي تشبه تلك التي استخدمها علماء معهد نيلز بور في تجاربهم. وتوضع الرقاقة على لوحات الدارات المطبوعة). حقوق الصورة: Filip Malinowski.
(المربع الأسود -الذي تبلغ أبعاده 3∗3 مليمتر تقريبًا- هو رقاقةٌ من أنصاف النواقل التي تشبه تلك التي استخدمها علماء معهد نيلز بور في تجاربهم. وتوضع الرقاقة على لوحات الدارات المطبوعة). حقوق الصورة: Filip Malinowski.
 
يتابع فيليب: "ولدى تطوير الحواسيب الكمومية، فإنه من المرجح أن نشهد إصدار أجهزة تبريدٍ معدلةٍ أيضًا".
 
التشبيه بالسيارة

ما هي الآثار العملية المُحتملة لحقيقة أنه يمكنك الآن إجبار البت الكمومي على عكس اتجاه دورانه، كما بيّنها علماء معهد نيلز بور؟

 
أحدها أنه يتيح إجراء عددٍ أكبرَ من العمليات الحسابية على مقدارٍ محددٍ من البيانات مما يمكن القيام به بالاعتماد على البت الكمومي المجهز بغيار حركةٍ أماميةٍ فقط.
 
ولكن من الممكن أيضًا اختيار سرعةٍ دقيقةٍ من خلال السماح بعمل "البت الكمومي العكسي" بوتيرةٍ معتدلةٍ في حواسيب المستقبل الكمومية. في هذه الحالة ستكون الميزة هي الحسابات عالية الدقة، ويقول فيليب مالينوسكي: "ونتيجةً لذلك ستتمكن من تجنب الكثير من الأخطاء التي ينبغي تصحيحها عبر حوسبةٍ إضافيةٍ".
 
ولفهم السهولة التي يمكن بها التحكم بالبت الكمومي بمجرد تزويده بغيارٍ عكسيٍّ، سيَفي تشبيهه بالسيارة بالغرض، إذ يقول الأستاذ المساعد فرديناند كيميث Ferdinand Kuemmeth، رئيس فريق مركز أجهزة الكم الذي يقف وراء الاكتشاف: "تخيل أنك تقود سيارةً على طول شارعٍ مزدحمٍ، هو الشارع الذي تعيش فيه، وترغب في ركن سيارتك أمام بابك بالضبط. قد تكون تلك مهمةً شاقةً، وخاصةً إذا كان هناك الكثير من السيارات من حولك (والضوضاء لدى الحديث عن الكيوبت). والآن تخيل القيام بذلك دون غيارٍ راجعٍ: فإذا تجاوزت منزلك قليلًا، ستفقد فرصتك، ويصبح من الصعب إصلاح الأمر. 
 
ينطبق الأمر ذاته على البت الكمومي الدوار: فإذا انحرف أحدها قليلًا، وهذا يحدث في كثيرٍ من الأحيان بسبب البيئة الضوضائية، فلا وسيلة حتى الآن لإعادة تدوير البت الكمومي بالعكس!"
 
عملية بناء

جرى العمل على توضيح وظيفة العكس في الكيوبت من خلال تجربةٍ في بيئةٍ كموميةٍ، أنشأها علماء معهد نيلز بور على بلورةٍ يدوية الصنع لها شكل الشطيرة قدمتها جامعة بوردو، ومصنوعةٍ من مادةٍ بتوزيعٍ موحدٍ فائقِ التنظيم للإلكترونات. في قاعدة "البيئة التجريبية" يوجد الهيكل البلوري، الذي غطاه علماء معهد نيلز بور ببوليمير.

 
كانت الخطوة التالية "رسم" نموذج من الأخاديد في طبقة البوليمير، وذلك باستخدام حزمةٍ من الإلكترونات.
 
مع غيار أمامي فقط يمكن تصحيح أي خطأ، ولكن بتكلفة كبيرة، مثل قيادة السيارة حول عائق لإعادة محاولة الاصطفاف. من جهة أخرى ومع غيار بحركة خلفية، يمكن للمرء ببساطة القيام بتعديلات دقيقة عن طريق القيادة للخلف وللأمام قليلاً. ففي عمل علماء معهد نيلز بور، يشير ترس الحركة الأمامية إلى إلكترونين يدوران على محورين متوازيين (بجهة واحدة)، ولهما طاقة أعلى من طاقة الإلكترونات التي تدور على محاورَ بالاتجاه المعاكس. وفي الوقت نفسه تملك تركيبة المحاور المتوازية طاقة أقل. وعادةً ما تكون للإلكترونين المحصورين في مساحة صغيرة طاقة منخفضة إذا كانت محاور دورانهما متعاكسة. وذلك لتمكنهما من شَغْل المدارات الدُنيا، كإلكتروني ذرة الهيليوم.   وطالما يمنع مبدأ استبعاد باولي Pauli exclusion principle الإلكترونين اللذَين يدوران على محورين باتجاه واحد من شغل المدار ذاته، سيجبر ذلك الإلكترون الثاني على شغل مدار آخر، مما يزيد من طاقته. ولكن يتغير الوضع عندما يطفو الإلكترونان الدوّاران في حوض من الإلكترونات المحايدة الأخرى. عندها سيمنع مبدأ استبعاد باولي الإلكترونات التي تدور على محاورَ في اتجاه واحد من الطَّفْوِ بالقرب من بعضها البعض. وبالتالي فإن الإلكترونات سالبة الشحنة والدوارة على محاور متوازية متحدة الجهة، ستتنافر مع بعضها البعض بشكل أضعف مما لو كانت محاور دورانها متعاكسة. وعلى العموم يُقلل التنافر الأضعف من طاقة تركيبة محاور الدوران المتوازية. وبشكل عام يتعايش هذان التأثيران ويتنافسان معًا. وأثبت عالِم معهد نيلز بور أنه من الممكن التبديل بين التركيبة التي يُهيمن تأثيرها الأول أو الأخير. حقوق الصورة: Niels Bohr Institute
مع غيار أمامي فقط يمكن تصحيح أي خطأ، ولكن بتكلفة كبيرة، مثل قيادة السيارة حول عائق لإعادة محاولة الاصطفاف. من جهة أخرى ومع غيار بحركة خلفية، يمكن للمرء ببساطة القيام بتعديلات دقيقة عن طريق القيادة للخلف وللأمام قليلاً. ففي عمل علماء معهد نيلز بور، يشير ترس الحركة الأمامية إلى إلكترونين يدوران على محورين متوازيين (بجهة واحدة)، ولهما طاقة أعلى من طاقة الإلكترونات التي تدور على محاورَ بالاتجاه المعاكس. وفي الوقت نفسه تملك تركيبة المحاور المتوازية طاقة أقل. وعادةً ما تكون للإلكترونين المحصورين في مساحة صغيرة طاقة منخفضة إذا كانت محاور دورانهما متعاكسة. وذلك لتمكنهما من شَغْل المدارات الدُنيا، كإلكتروني ذرة الهيليوم. وطالما يمنع مبدأ استبعاد باولي Pauli exclusion principle الإلكترونين اللذَين يدوران على محورين باتجاه واحد من شغل المدار ذاته، سيجبر ذلك الإلكترون الثاني على شغل مدار آخر، مما يزيد من طاقته. ولكن يتغير الوضع عندما يطفو الإلكترونان الدوّاران في حوض من الإلكترونات المحايدة الأخرى. عندها سيمنع مبدأ استبعاد باولي الإلكترونات التي تدور على محاورَ في اتجاه واحد من الطَّفْوِ بالقرب من بعضها البعض. وبالتالي فإن الإلكترونات سالبة الشحنة والدوارة على محاور متوازية متحدة الجهة، ستتنافر مع بعضها البعض بشكل أضعف مما لو كانت محاور دورانها متعاكسة. وعلى العموم يُقلل التنافر الأضعف من طاقة تركيبة محاور الدوران المتوازية. وبشكل عام يتعايش هذان التأثيران ويتنافسان معًا. وأثبت عالِم معهد نيلز بور أنه من الممكن التبديل بين التركيبة التي يُهيمن تأثيرها الأول أو الأخير. حقوق الصورة: Niels Bohr Institute
 
يُزال البوليمير الذي غدا ضعيفًا بعد ذلك من النموذج المُشار إليه، مخلفًا أخاديدَ مفتوحةً وراءه كالخنادق. وأخيرًا تُملَأ الأخاديد في قمة البلورة بمعدنٍ لتشكيل الأقطاب الكهربائية، البالغ قياس أصغرها 20 نانومتر فقط، وبتطبيق جهدٍ كهربائيٍّ متفاوتٍ على هذه الأقطاب الكهربائية من الممكن إبعاد أو جذب الإلكترونات، واضعةً في نهاية المطاف إلكتروناتٍ مُفردة بأماكنَ مُحددة.
 
وقد استخدم علماء معهد نيلز بور هذه الرقاقة للتحكم بدقةٍ بما يُسمّى بتفاعل التبادل exchange interaction، وهو تفاعلٌ أساسيٌّ بين الإلكترونات التي يمكن استخدامها لإجبار الكيوبت على عكس اتجاه دورانه، وتَشرَح الصورة التوضيحية كيفية عمل هذا بشكلٍ تفصيليٍّ أكثر.
 
مركز للأجهزة الكمية، QDev- في المختبر حيث أُجري البحث. الصورة: Ola Jakup Joensen.
 
أما موجز التفسير فيرتكز حول حقيقة أنه عندما يوضع إلكترونان يدوران حول محورين أحدهما للأعلى والآخر للأسفل، في المساحة المحصورة نفسها، فإنهما يبدأان بالدوران سويًا، كما يقول فيليب مالينوفسكي: "في هذه الحالة هذه الإلكترونات هي الكيوبت، وإذا عدنا إلى تشبيه السيارة فإنها سوف تبدأ بالدوران أو التحرك للأمام. وحتى الآن كان الافتراض أن هذا بالفعل هو الاتجاه الوحيد الذي يمكن أن تتحرك فيه، ومن هنا يأتي اكتشافنا".
 
الوظيفة العكسية أصبحت أمرًا واقعًا عند وضع إلكترونين يدوران على محورين متعاكسين -أي الكيوبت- في بيئةٍ محصورةٍ مع الكثير من أزواج الإلكترونات الأخرى. الآن وفي درجات حرارةٍ منخفضةٍ جدًا، يصبح من الممكن فجأة إجبار الكيوبت على عكس اتجاهه.
 
زرنيخيد الغاليوم، وهو المادة التي صُنعت منها بلورة الولايات المتحدة، يلعب دورًا بارزًا في تجربة معهد نيلز بور، ولكن قد تعمل التقنية بشكلٍ جيدٍ مع عددٍ من أنصاف النواقل الأخرى أيضًا، يقول فيليب مالينوفسكي: "خاصةً السيليكون، المكوِّنُ الأساسي للرقائق الموجودة في معالجات جيلنا الحالي، لكن يمكن للسيليكون أيضًا أن يُستخدَم كمواد بناء للحواسيب الكمومية".

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات