النشأة السريعة للّغة البشريّة

 ورقة بحثيّة جديدة تشير إلى أنّ البشر بدؤوا سريعًا بالكلام على النحو الذي صار معروفًا الآن.


بيتر ديزيكس Peter Dizikes –، مكتب الأخبار، معهد ماساتشوستس للتقنيّة MIT

في مرحلة ما، ربما قبل 50,000 إلى 100,000 سنة، بدأ البشر يتحدّثون إلى بعضهم البعض على نحو فريد في تعقيده، ومن السهل تصوّر هذا التغيير التاريخيّ العظيم وكأنّه عبارة عن همهمات رجال الكهوف، أو تمتمات الصيّادين-الجامعين وإشاراتهم. ولكنّ باحثًا في علم اللغة لدى معهد ماساتشوستس للتقنيّة (MIT)، ادّعى في ورقة بحثيّة جديدة أنّه من المرجّح أن تكون اللغة البشريّة قد تطوّرت بسرعة كبيرة إلى نظام معقّد؛ فبدلًا من الهمهمات والتمتمات، وظّف الناس قواعدَ نحويةً وتراكيب لغويّة شبيهة بتلك التي نستخدمها اليوم.

"من المرجّح أنّ التعقيد الهرميّ للغة المعاصرة كان موجودًا في اللغة البشريّة منذ نشأتها"، كما يقول شيجيرو مياجاوا Shigeru Miyagawa، أستاذ اللغويّات، وأستاذ كرسي جون مانجيرو- محافظ كوتشي Kochi Prefecture-John Manjiro للّغة والثقافة اليابانيّة في معهد ماساتشوستس للتقنيّة، والمؤلف المشارك في الورقة البحثيّة الجديدة عن الموضوع.

ولكي نكون على بيّنة، فإنّ هذا الادّعاء ليس مقبولًا عالميًّا: إذ يعتقد كثير من العلماء أنّ البشر بدؤوا أوّلًا باستخدام نوع من "اللغة البدائيّة " (proto-language)، وهي نوع أوّليّ فطريّ من الاتّصال صحبه تطوّر متدرّج فقط للكلمات والقواعد النحويّة. ولكنّ مياجاوا يرى أنّ الأمر ليس كذلك؛ فهو يعتقد أنّ الكلمات المفردة تحمل آثارًا من القواعد النحويّة التي تبيّن أنّها قد انحدرت من نظام أقدم مثقل بالقواعد النحويّة، وليس من تعبيرات بدائيّة بسيطة.

ويضيف مياجاوا، "بما أنّنا نستطيع أن نجد القواعد النحويّة في الكلمات، فليس هناك مبرّر لكي نعتبرها "حفريّات لغويّة" (linguistic fossils) لمرحلة ما قبل نحويّة (presyntax) سابقة".

لدى مياجاوا فرضيّة بديلة عن سبب نشأة اللغة البشريّة: فكما أكّد في أبحاث نشرت في السنوات الأخيرة، فإنّ البشر وحدهم هم من دمجوا بين الطبقة "التعبيريّة" (expressive) من اللغة، كالتي تشاهد في تغريد العصافير، والطبقة "المعجمية" (تركيب المفردات) (lexical)، كالتي تشاهد عند القردة التي تنطق أصواتًا منفصلة ذات معنى في العالم الحقيقيّ، مثل صيحات التنبيه. وترى "فرضية التكامل" (integration hypothesis) لمياجاوا أنه أيًا كان المسبّب الأوّل لهذه الطبقات اللغويّة، فإنّها قد اندمجت بسرعة وبنجاح.

 كلمة للحكماء


لقد نُشرت ورقة مياجاوا البحثيّة هذا الشهر في الدوريّة المحكمة "Frontiers in Psychology". وقد شارك في تأليفها فيتور أي نوبريغا Vitor A. Nobrega، من جامعة ساو باولو.

في هذه الورقة، كتب نوبريغا ومياجاوا أنّ الكلمة الواحدة يمكن أن تكون "معقّدة داخليًا، وغالبًا ما تكون على القدر نفسه من تعقيد عبارة بأكملها"، ما يقلّل من أرجحيّة تحدّر الكلمات التي نستخدمها اليوم من نسق تعبير ما قبل نحويّ.

وللاطّلاع على مثال بسيط على ذلك من اللغة الإنجليزيّة، يقترح مياجاوا النظر في كلمة "nationalization" "وهي تعني التأميم". تبدأ الكلمة بـ "nation"، وهو اسم؛ ثم يضاف إليها "al-" لإنشاء الصفة؛ ثم يضاف "iz(a)-" لإنشاء الفعل. ثم تنتهي بـ "tion-" لتشكيل اسم آخر، ولكنّه يحمل معنى جديدًا.

يقول مياجاوا أنّ "البنية الهرميّة حاضرة، ليس فقط في الكلمات المفردة، بل في الكلمات المركّبة (compounds) أيضًا، وهي، على عكس ما يدّعيه البعض، ليست شكلًا لمرحلة قبليّة أحفوريّة بلا بنية".

كذلك، يرى كلّ من نوبريغا ومياجاوا، في ورقتهما البحثيّة، أنّ التحليل نفسه ينطبق على مفردات اللغات الرومانسيّة، التي كانت توصف في مواقع أخرى بأنّها بقايا لغة بدائيّة غير محدّدة الشكل. وقد جادلوا في أنّ التعبير الإيطالي "porta asciug-mani" -الذي يعني حرفيًّا "حمل الأيدي الجافة"، ولكنّه بات اليوم يعني "حامل المنشفة" بالعاميّة- هو مثال على هذه المسألة، حيث إنّ المركّب المشتق من الكلمات القديمة له بنية داخليّة واضحة. (في هذه الحالة، "الأيدي الجافة" هي متمم الفعل).

ترتبط فرضيّة التكامل لمياجاوا فكريًّا بدراسات لباحثين آخرين في معهد ماساتشوستس للتقنيّة، مثل نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، الذي ادّعى بأنّ اللغات البشريّة مترابطة عالميًّا وأنّها نشأت من قدرتنا على استخدام القواعد النحويّة، وترى هذه المدرسة الفكريّة أنّه أثناء تشكّل اللغات، تمّ دمج الطبقات التعبيريّة والمعجميّة من خلال نظام أسماه تشومسكي "الإدماج" (Merge).

ويضيف مياجاوا "ما إن يُطَبِّقِ الإدماجُ كاملًا بين هاتين الطبقتين، فسنحصل بشكل أساس على كلّ السمات المميّزة للغة بشريّة تامّة".

ويرى الباحثون أنّ فرضيّة التكامل من شأنها توليد مجموعة مثمرة من الأسئلة البحثيّة، وقد وصفها أندريا مورو Andrea Moro، أستاذ اللغويّات في معهد الدراسات المتقدّمة في بافيا، إيطاليا، الذي قام بتحرير الورقة البحثيّة، بأنّها نقدٌ "مثيرٌ جدًّا للاهتمام" لفكرة أنّ اللغة البشريّة تطوّرت تطوّرًا تدريجيًّا.

لكنّ مورو يقترح وجود "فرق بديهي" بين الحالات التي تحتشد فيها الكلمات لتشكيل كلمة مركّبة أو لتشكيل جملة، وهو يعتقد أنّ الدراسات الخاصة بمفهوم كسر التماثل (symmetry-breaking)، الذي من الممكن أن يكون جزءًا فارقًا من عمليّة تشكيل الجمل، "قد تقدّم بيانات تجريبيّة جديدة لاختبار الفرضيّة وتسليط الضوء على نشأة اللغة البشريّة".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات