إذا ما أخبرك طبيبك أن وزنك يقع بين 100 و400 رطلا؛ فعندها يمكن لأي جهاز قياس منزلي القيام بعمل أفضل مع المريض، لكن هناك مريض لا يمكن فعل ذلك معه، إنها درب التبانة (Milky Way) .
على الرغم من قدرتنا الحالية على النظر بعمق أكبر في الفضاء مقارنةً بأي وقت مضى، إلا أن وزن مجرتنا لا يزال مجهولاً بعاملٍ يصل إلى أربعة أضعاف، وقد طوّر باحثون في قسم علم الفلك في جامعة كولومبيا، حاليًا، طريقة جديدة لتفحص درب التبانة فيزيائيا بدقة أكبر.
تحتوي درب التبانة حوالي 100 مليار نجم تُشكل قرصا نجميا ضخماً بقطر يقع بين 100 و200 ألف سنة ضوئية، والشمس جزء من هذه البنية، وبالتالي، عندما ننظر إلى السماء، فنحن ننظر مباشرة إلى قرص ضخم من النجوم. هذا العدد الكبير من النجوم والاتساع العملاق للسماء يجعل من عملية قياس الكميات الأساسية لمجرة درب التبانة، مثل وزنها، أمراً غاية في الصعوبة.
استخدم فريق دولي من العلماء بقيادة الباحث في جامعة كولومبيا اندرياس كووبر Andreas Küpper النجوم الموجودة خارج قرص المجرة، والتي تدور حول درب التبانة داخل ما يشبه التيار، لقياس وزن المجرة بدقة عالية. وفي دراسة جديدة نُشرتها مجلة Astrophysical Journal، يُبرهن الفريق إمكانية استخدام هذه التيارات، الناتجة عن تفكك العناقيد النجمية الكروية (globular clusters)، في قياس، ليس فقط وزن مجرتنا، بل ويُمكن استغلالها أيضاً كمقياس لتحديد موقع الشمس داخل مجرة درب التبانة.
يقول كوبر: "العناقيد الكروية هي مجموعات مدمجة ومكونة من آلاف أو عدة ملايين من النجوم، التي ولدت معا عندما كان الكون لا يزال شاباً جدا"، ويُتابع: "تدور تلك العناقيد حول مجرة درب التبانة، وتتفكك ببطء على مدى مليارات السنين، مخلفة أثراً فريداً من نوعه ورائها، ويُمكن تمييز هذه التيارات النجمية عن بقية النجوم في السماء لأنها كثيفة ومتماسكة، فالأمر مشابه للذيول التي تخلفها الطائرات، والتي يُمكن تمييزها بسهولة عن الغيوم العادية".
استخدم الباحثون بيانات من المسح السماوي الرقمي "سلون"، الذي مسح سماء نصف الكرة الشمالي على مدار 10 أعوام لإنشاء كتالوج شامل للنجوم في السماء. ينتج التيار، الذي اختبروا عليه التقنية الجديدة، عن عنقود كروي اسمه بالومار 5 أو (Palomar 5)، والذي اكتشف في العام 2001 عند ارتفاع كبير فوق قرص المجرة، حيث عاد إدواردو بالباينوت Eduardo Balbinot، وهو مؤلف مشارك في الدراسة الحالية من جامعة سيري في انكلترا، إلى بيانات سلون، وكشف عن وجود تذبذب في كثافة تيار "بالومار 5".
يقول بالباينوت: "لقد وجدنا أن التذبذبات واضحة جدا ومتباعدة بشكل منتظم على طول التيار. ولا يُمكن لهذه الاختلافات أن تكون عشوائية". تسمح هذه التذبذبات للباحثين بالحصول على دقة غير مسبوقة لقياساتهم؛ وباستخدام الحاسب الفائق "Yeti" الموجود لدى جامعة كولومبيا، صنعوا عدة ملايين من نماذج التيارات باستخدام عمليات إخراج مختلفة لمجرة درب التبانة.
بالإعتماد على هذه النماذج وبمقارنة نمط ذبذباتها مع المراقبات، استطاعوا استنتاج كتلة درب التبانة على طول دائرة نصف قطرها 60000 سنة ضوئية، وبلغت تلك الكتلة 210 مليار ضعف كتلة الشمس مع نسبة خطأ تصل إلى 20 في المئة فقط، وساعد النمط الفريد لتذبذبات الكثافة إلى حد كبير في استبعاد نماذج معينة لمجرة درب التبانة، وهي تلك النماذج التي كانت إما ثقيلة جدا، أو خفيفة جدا.
تقول آنا بونوكا Ana Bonaca، وهي مؤلفة مشاركة في الدراسة من جامعة يل: "تَمثَّل التقدم الهام المُنجز في هذا العمل في استخدام أدوات إحصائية قوية، وهي نفس تلك التي تستخدم في دراسة التغيرات في الجينوم، والتي توظف من قبل محركات البحث على الإنترنت لتقييم المواقع. لقد ساعدت هذ المقاربة الدقيقة في الوصول إلى إحراز دقة عالية في عملية قياس وزن درب التبانة".
وتُضيف البروفسورة كاثرين جونستون Kathryn Johnston، وهي مؤلفة مشاركة في الدراسة ورئيس قسم علم الفلك في جامعة كولومبيا: "لقد سبق وأن استُخدمت هذه القياسات مع تيارات مختلفة، لكنّ النتائج كانت دائما شديدة الغموض؛ وتُحطم قياساتنا الجديدة هذا الغموض من خلال استغلال نمط الكثافة الفريد من نوعه الذي يُقدمه "بالومار 5" أثناء دورانه حول مجرة درب التبانة على امتداد الإحدى عشر مليار عام الفائت".
يهدف الباحثون في المستقبل إلى استخدام مزيد من البُنى المشابهة لتيار "بالومار 5" للحصول على دقة أعلى، وصنع أكثر النماذج واقعية لمجرة درب التبانة؛ ومع استمرار تحسن الدقة، يأمل العلماء في معرفة المزيد عن تشكل وتركيب مجرتنا، وفهم كيفية مقارنة درب التبانة مع مجرات أخرى في الكون. وحتى الآن، تُشير النتائج إلى أن مجرة درب التبانة مريض بصحة جيدة، ليس بالنحيف جداً ولا بالثقيل.