إذا كان الزمكان مائعاً فائقاً، فهل سيوحّد ذلك الفيزياء، أم أنّ النظرية في مجملها صحيحة؟

قد يساعد التفكيرُ بأن المكان و الزمان سائلٌ، على التوفيق بين ميكانيك الكم والنسبية، فإذا كان الزمكان مشابهاً لسائل –و هو مفهوم يدعي بعض الفيزيائيين قدرته على المساعدة في حل الخلاف المربك بين النظريتين المسيطرتين في الفيزياء– فيجب أن يكون سائلاً خاصاً جداً بحق.

 

قامت دراسة حديثة بالمقارنة بين مراقبات فلكية و تنبؤات تعتمد على فكرة الزمكان المائع، فوجدت أن الفكرة مقبولة فقط إذا كان الزمكان ناعماً بشكل كبير، و يتدفق بحرية –بكلمات أخرى، مائعاً فائقاً (superfluid).

 

قد يكون التفكير بالزمكان على أنه سائل تناظراً مفيداً جداً، فغالباً ما نفكر بالمكان و الزمان (spacetime) على أنهما خلفيات أساسية للكون، لكن كيف سيصبح الوضع لو كانا غير أساسيين؟ و قاما في الواقع ببناء عناصر أصغر موجودة ضمن طبقةٍ حقيقةٍ أعمق لا يمكننا إدراكها؟

 

إذا كانت هذه هي الحالة، فستنتج خواص الزمكان عن فيزياء كامنة خلف مكوناته، تماماً كما هي الحال مع خواص الماء الناتجة عن الجزيئات المكونة له.

يشرح ذلك تيد جيكوبسون Ted Jacobson، و هو فيزيائي من جامعة ميريلاند: "إنّ الماء مكوّن من جزيئات مفردة و منفصلة، تقوم بالتفاعل مع بعضها البعض وفقاً لقوانين ميكانيك الكم، لكن الماء السائل يظهر متصلاً انسيابياً، يتمتع بخواص شفافية و انكسار معينة. و كل هذه الخواص الناشئة، لا يمكن إيجادها في جزيء وحيد، رغم أنها في النهاية تنتج عن خواص هذه الجزيئات".

 

لايزال الفيزيائيون يأخذون هذا الاحتمال بعين الاعتبار منذ تسعينيات القرن الماضي، و ذلك في إطار عمل للتوفيق بين الهيمنة التي تفرضها نظرية النسبية على سلالم القياس الكبيرة، –النسبية العامة– مع وجود نظرية تحكم البتات الصغيرة جداً من الكون –ميكانيكا الكم (quantum mechanics).

 

تظهر كلا النظريتين نافعتين بشكلٍ مثالي في المجالات التي تهيمن عليها، لكن النزاع يبدأ بينهما في الحالات التي تجمع الكبير والصغير، كالثقوب السوداء (blaclholes) (كتلة كبيرة جداً، حجم صغير جداً). حاول الكثير من الفيزيائيين حل المشكلة من خلال "تكميم" (quantizing) الجاذبية –أي تقسيمها إلى بتات أصغر، بشكلٍ مشابه لقيام ميكانيك الكم بتقسيم الكثير من الكميات، كالمستويات الطاقية للجسيم. يقول ستيفانو ليبراتي Stefano Liberati، فيزيائي من المدرسة الدولية للدراسات المتقدمة (SISSA) في تريستا بإيطاليا: "هناك العديد من المحاولات لتكميم الجاذبية –كنظرية الأوتار (string theory) والجاذبية الكمية الحلقية (loop quantum gravity)، وهما نهجان بديلان يُمكن لهما الادعاء بالسبق-، لكن ربما لا نحتاج إلى الجاذبية الكمية، وإنما نحتاج إلى تكميم هذا الجسم الأساسي الذي يؤلف الزمكان".

 

استكشف ليبراتي وزميله لوكا ماثيونيه Luca Maccione من جامعة لودفيغ ماكسيمليان في ميونخ مؤخراً، كيفية تأثير تلك الفكرة على تحرك الضوء عبر الكون، ولا يمكن تمييز زمكان ناشئ يتصرف كمائع، بشكلٍ مباشر عن زمكان أي نظرية أخرى، ولكن في الحالات المتطرفة جداً مثل جسيمات الضوء عالية الطاقة جداً، فقد وجد ليبراتي وماثيونيه أن بعض الاختلافات ستكون ملحوظةً. ففي الواقع ومن خلال فحص المراقبات الخاصة بالفوتونات عالية الطاقة التي تحلّق عبر الكون قادمةً من سديم السرطان، تمكن الفيزيائيون من استبعاد نسخ محددة من الزمكان الناشئ، حيث وجدوا أنه لو كان مائعاً، فأنه لابد أنه فائق الميوعة.

 

و قد نشر الباحثون نتائجهم في عدد 14 أبريل/نيسان من مجلة المراجعات الفيزيائية، ويمكن تشبيه سفر الجسيمات عبر الزمكان بحركة الأمواج في محيط، كما أن قوانين ميكانيك الموائع (fluid mechanics) –فيزياء المادة الكثيفة- ستطبق، واعتبر فيزيائيون في السابق أن الكيفية التي تنتقل وفقاً لها الجسيمات ذات الطاقة المختلفة لتقوم بالانتشار عبر الكون، ستكون مشابهةً لأمواج بأطوال مختلفة تقوم بالتحرك والانتشار بسرعاتٍ مختلفة في الماء.

 

في الدراسة الأخيرة، أخذ كل من ليبراتي وماثيونيه بعين الاعتبار تأثيراً آخرَ للمائع ألا و هو التبدد. فخلال تحرّك الأمواج عبر وسط ما، فهي تقوم مع مرور الزمن بخسارة الطاقة، وقد وجد الباحثون أن هذا التأثير المثبّط، سيحصل أيضاً مع الفوتونات المتحركة عبر الزمكان. كما أنه على الرغم من أن التأثير صغير، إلا أن الفوتونات عالية الطاقة والمسافرة لمسافاتٍ طويلة جداً، يتحتم أن تخسر كمية ملحوظة من الطاقة.

 

يُعد سديم السرطان (Crab Nebula) أحد الأمثلة الحقيقية لهذا الأمر، فهذا السديم عبارة عن بقايا سوبرنوفا تقع على بعد حوالي 6500 سنة ضوئية عن الأرض، و تقوم بإصدار أشعة اكس عالية الطاقة، بالإضافة إلى أشعة غاما. و بحلول الوقت الذي يصل فيه هذا الضوء إلى تلسكوباتنا، فإنه يجب أن يبدد طاقته شيء ما، و يحصل هذا إذا كان لدى الزمكان خواص سائل. بينما توضح المراقبات الخاصة بسديم السرطان عدم وجود إشارة عن نوعٍ من هذه التأثيرات. يقول ليبراتي: "لقد برهنا على أن الطيف سيتأثر بشكلٍ كبير جراء هذه الخسارة في الطاقة، حتى لو كان التأثير صغيراً جداً، لأن الفوتونات تسافر لمسافات طويلة جداً".

 

سمح الافتقار لوجود إشارة عن مثل هذا التبدد للباحثين أن يضعوا قيوداً قوية على تأثيرات السائل، التي يُمكن لها أن تُوجد في الزمكان، ما يؤدي إلى وجوب كونها صغيرة جداً –هذا إن وُجدت أصلاً.

 

يقول ليبراتي: "لا يُشير هذا الأمر إلى استبعاد هذه الفكرة كلياً"، إلاَّ أن النتائج تفعل ذلك، فقد قامت الاكتشافات بتضييق الاحتمالات الخاصة بالزمكان المشابه للسائل إلى سوائلَ تتمتع بلزوجة منخفضة جداً (موائع فائقة) لا تتسبب غالباً بحصول أي تثبيط.

 

حتى الداعمون لفكرة الزمكان المائع، يقولون بأن المفهوم ليس شائعاً بشكلٍ كبير، و ربما غير مرجح، ولكن هل يمكن أن يكون صحيحاً؟

 

يقول رينود بارينتانز Renaud Parentans، فيزيائي من جامعة باريس الجنوبية، و هو من اقترح أساساً فكرة التأثيرات المبددة وأخذها بعين الاعتبار: "لا يوجد لدي أدنى فكرة. رأيي الصريح هو عدم وجود أي فكرة لدى أي من الأشخاص. و كل ما يمكننا القيام به، هو نمذجة الاحتماليات المختلفة".

 

إذا كانت فكرة الزمكان فائق الميوعة صحيحة، و أن الفوتونات التي تمتلك طاقات مختلفة تسافر بسرعات مختلفة، أو تتبدد مع مرور الوقت، فيعني ذلك أن النسبية لا تصمد في كل الحالات. ينصُّ تحويل لورانتز، وهو أحد أهم المبادئ في النسبية، على أن سرعة الضوء ثابتة بصرف النظر عن الإطار المرجعي لراصد ما.

 

يقول جيكوبسون: "إن احتمالية أن يكون الزمكان كما نعرفه، قد نتج عن شيء ما يعارض النسبية، هي فكرة راديكالية إلى حد ما". و مع ذلك فهي إحدى الطرق المحتملة التي تقوم بتصحيح بعض المشاكل التي تظهر عندما تتم محاولة الجمع بين النسبية العامة وميكانيك الكم.

 

يتابع جيكوبسون قائلاً: "ستقود معارضة النسبية إلى فتح الباب أمام احتمال استبعاد كميات تسعى إلى اللانهاية و تظهر في النظرية الحالية، و هو أمر قد يكون بالنسبة للبعض غير مرجح ليكون صحيحاً فيزيائياً".

 

لذلك، إذا كان الزمكان مائعاً فائقاً، فالأمر متروكٌ فقط للفيزيائيين النظريين.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.
  • السديم (Nebula): عبارة عن سحابة بين نجمية مكونة من الغبار، والهيدروجين، والهليوم وغازات مؤينة أخرى.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات