في رحلة إلى … الحقول الكمومية

هل تتذكر خطوط الحقل الجميلة، تلك التي تتولد عندما تقوم بنثر برادة الحديد حول مغناطيس ما؟. في حالة وجود مغناطيس بسيط، يكون الحقل ساكنًا؛ أي إنه لا يتغير بمرور الزمن. لكنّ المغناطيسية (magnetism) ليست إلا جانبًا واحدًا لشيء أكبر وأشمل، هو الكهرومغناطيسية (electromagnetism)، ففي كل لحظة من اللحظات أنت مغمور بالحقول الكهرومغناطيسية الناتجة عن الأرض، والشمس، وحتى عن مُحمص الخبز الخاص بك.

تُعرف الاهتزازات الحاصلة في حقل مكهرومغناطيسي ما بالأمواج الكهرومغناطيسية (electromagnetic waves)، فهي الأمواج التي تُكوّن الضوء المرئي، بالإضافة إلى الأشعة السينية، والأمواج المكروية (microwaves). تقصفك تلك الأشعة بشكلٍ مستمر أثناء تحركها في الفضاء على شكل طاقة تُحمل على طول الحقول الكهرومغناطيسية.


برادة الحديد المنثورة حول مغناطيس قضيبي تُرتب نفسها على طول خطوط الحقل
برادة الحديد المنثورة حول مغناطيس قضيبي تُرتب نفسها على طول خطوط الحقل

في عام 1846، أدرك جيمس كلارك ماكسويل أن الكهرباء والمغناطيسية وجهان لعملة واحدة، وأنّ الضوء مُكون من الأمواج الكهرومغناطيسية، كما طور ماكسويل نظرية أنيقة تصف القوة المُوحدة للكهرومغناطيسية إضافةً إلى المعادلات التي تصف ديناميكا الحقل الكهرومغناطيسي، واليوم تحمل تلك المعادلات اسمه.

بشكلٍ عام، أصبحت فكرة الحقل مهمة جدًا في الفيزياء لأنها وضحت اللغز الذي طالما أزعج علماء الفيزياء لفترة طويلة من الزمن، فإذا فكرت بقوة ما، مثل القوة الكهرومغناطيسية أو قوة الجاذبية، على أنها قوة متبادلة بين جسمين، بالتالي يجب أن تقبل حقيقة أنها تعمل، وبشكلٍ لحظي، عبر المكان، وهي فكرة تبدو سحرية بالكامل.

من ناحيةٍ أخرى، إذا كنت تُفكر بجسم يُولد حقلًا حولك، بالتالي يُمكنك شرح القوة بدلالة الحقل، ويُستبدل حينها الفعل الغامض الذي يحدث عن بعد، بفعلٍ محلي ومنطقي جداً. حالما يتولد حقل ما، فإنه يمتلك حياته الخاصة، ويحمل معه الطاقة التي توصف بمعادلات الحركة الخاصة بها، وقد التقط آينشتاين هذه الفكرة ليستغلها في نظرية النسبية العامة عام 1916، وهي النظرية التي تصف الجاذبية بدلالة الحقول الثقالية (gravitational fields) التي تُولدها أجسام فائقة الكتلة مثل الشمس والكواكب.

قبل عقدين من مجيء رؤية آينشتاين الثورية في الفيزياء والتي اختصت بسلالم القياس الكونية، حصلت ثورة أخرى في فيزياء الأحجام الصغيرة جداً، وكان لها سلسلة من العواقب الجذرية على نظرية ماكسويل في الكهرومغناطيسية.

في مطلع القرن العشرين، أصبح من الواضح جدًا أن الضوء لا يتصرف دومًا كالأمواج؛ فعند وجود شروط محددة، يسلك الضوء سلوك جسيمات عُرفت بالفوتونات (photons)، وهذا ما أدركه آينشتاين عندما اكتشف المفعول الكهروضوئي (photoelectric effect). 

مدفوعًا بهذا الاكتشاف، اقترح لويس دو بروي Louis de Broglie في وقتٍ مبكر من عشرينيات القرن الماضي أن جسيمات المادة الصغيرة، مثل الإلكترونات، قد تتصرف كموجة أيضاً. صارت ثنائية الموجة-الجسيم (wave-particle duality) هذه ميزةً أساسيةً في الفيزياء، وهي الفكرة المركزية في ميكانيك الكم.

الفوتونات المهيِّجة


تطلبت الفيزياء الجديدة لميكانيك الكم وجود رياضيات جديدة، وقد اكتشف هذا الأمرَ بشكلٍ مستقلٍ كلٌ من إرفين شرودينجرErwin Schrödinger، وفيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg في أواسط عشرينيات القرن الماضي.

وصفت نظريتاهما المتكافئتان سلوك مجموعات من الجسيمات المتحركة بشكلٍ حر، أو تحت تأثير قوة ما، وتمثلت الخطوة التالية بتعديل معادلات ماكسويل في الحقول الكهرومغناطيسية لتأخذ بعين الاعتبار الرؤى الجديدة لميكانيك الكم.

توضيح للحقل الشعاعي الكهربائي المحيط بشحنة نقطية موجبة. حقوق الصورة: ويكيميديا كومنز
توضيح للحقل الشعاعي الكهربائي المحيط بشحنة نقطية موجبة. حقوق الصورة: ويكيميديا كومنز


كان ذلك الأمر مهمة صعبة؛ فالمجموعة المحدودة من الجسيمات تُوصف بكمية محدودة من المعلومات، لكن الحقل الممتد على منطقة من الفضاء مؤلفٌ من عدد لا نهائي من النقاط ويُوصف بكمية لانهائية من المعلومات.

في الصياغة الأساسية لماكسويل، يُوجد في كل نقطة من الحقل زوجان من الأسهم يصفان اتجاه تأثير كل من القوتين (الكهربائية والمغناطيسية) على جسيم اختبار موجود في تلك النقطة، وكان طول الأسهم متناسبًا مع شدة القوى.

وصفت معادلات ماكسويل كيف تتغير هذه الأسهم بمرور الزمن، وفي النسخة المكممة من الكهرومغناطيسية، تُستبدل هذه الأسهم، والمعروفة بالمتجهات، بأجسام رياضية أكثر تعقيدًا، كما يُوصف تغيرها بمرور الزمن بالاعتماد على معادلة أكثر تعقيدًا بكثير.

لم يقترح أي شخص كيف سيجري تعديل معادلات ماكسويل حتى مجيء العالم بول ديراك Paul Dirac الذي قدم رؤية مهمة جدًا في العام 1927، فقد افترض وجود الحقل الكهرومغناطيسي دون وجود المادة. بيّنت معادلات ماكسويل أن هذا الحقل يتحرك مع وجودٍ لأمواج كهرومغناطيسية تتموج وتنتشر على مداه، وذلك جراء تفاعل المركبات المغناطيسية والكهربائية للحقل.

وبشكلٍ مشابه لإمكانية الأمواج الصوتية على التفكك إلى أمواج توافقية (harmonics)، بإمكان تلك الأمواج الكهرومغناطيسية التفكك إلى أمواج جيبية صافية، وهي تقنية رياضية معروفة جيدًا وتُدعى تحليل فورييه (Fourier analysis).

الاهتزازات الدورية لهذه الأمواج المنتظمة مشابهة لحركة البندول، أو لحركة كتلة معلقة بنابض، وفي كلا الحالتين، فإنه عندما ينزاح موقع الجسم عن وضع التوازن، فإنه يشعر حينها بقوة مسترجعة متناسبة مع مسافة الإزاحة. تُعرف مثل هذه الأنظمة بالهزازات التوافقية (harmonic oscillators)، ولحسن الحظ، كان علماء الفيزياء يعرفون كيفية التعامل مع تلك الهزازات الكمومية، وعمل ديراك على تكميم الحقل الكهرومغناطيسي عبر تفكيكه رياضيًا إلى عدد لانهائي من الهزازات التوافقية، ومن ثمّ طبق تقنية موجودة، وتُعرف بمعادلة شرودينجر، لتكميم تلك الهزازات.

قادت معالجة تلك الهزازات الكمومية باستخدام صيغة شرودينجر لميكانيك الكم إلى بعض النتائج المثيرة. الطاقة الكلية المُخزنة في هزاز توافقي كلاسيكي كالبندول تبقى ثابتة بمرور الزمن، وعندما نشاهد بندولًا ما يتباطأ، فإن ذلك ناتج عن تداخل عمليات أخرى مثل الاحتكاك.

يحصل البندول المثالي والذي يهتز طول الوقت على طاقته من الدَّفعة التي تُقدمها له، وستعتقد أنه عبر دفعك إياه بالطريقة الصحيحة، يُمكنك جعل الطاقة تأخذ أي قيمة؛ لكن هذا الأمر غير صحيح بالنسبة للهزاز التوافقي الكمومي (quantum harmonic oscillator)، فطاقته تأخذ قيمًا منفصلة ومحددة \(E_n\)، والتي تعتمد على تردد الاهتزاز:



\(E_n={h\over2\pi}w \left(n+ {1\over2}\right)\)

 

هنا \(w\) هو التردد الزاوي للهزاز، وh هو ثابت أساسي من ثوابت الطبيعة ويُعرف بثابت بلانك (Planck’s constant)، أما n فعدد طبيعي. تكمن النقطة المهمة في الأمر في أن قيمة طاقة الهزاز الكمومي التوافقي يُمكن أن تكون إما \(E_0,E_1,E_2\)، وليس باستطاعتها أن تأخذ أي قيمة بين تلك القيم، أي أن الهزاز يمتلك طيف طاقة منفصل.

تأخذ حالة الطاقة الأدنى الشكل التالي


\(E_0={h\over2\pi}w \left( {1\over2}\right) \)

 

وتُعرف أيضًا بالحالة الأرضية (ground state)، ولا ترتبط بحالة الطاقة الصفرية (zero energy)؛ إذ لا يمكن على الإطلاق للهزاز الكمومي التوافقي أن يكون ساكنًا أبدًا.

في الكهرومغناطيسية، تعكس مستوياتُ الطاقةِ المنفصلةِ ثنائيةَ الموجة-الجسيم، وفي الوقت الذي يُمكن فيه للطاقة المحمولة على موجة كلاسيكية أن تتغير بشكلٍ مستمر، فإن أمواج الحقل الكهرومغناطيسي المكمم لا يُسمح لها بامتلاك غير حزم (قيم) منفصلة للطاقة.

يُمكن النظر إلى تلك الحزم (القيم) على أنها فوتونات مفردة، فالموجة ذات مستوى الطاقة \(E_n \) تعود إلى عدد n من الفوتونات ولكلٍ منها تردد محدد. بصيغة أخرى، يُمكن النظر إلى الفوتون على أنه "وحدة إثارة unit of excitation" للحقل الموجود، وهو شبيه بارتعاشة تحصل في هلام من الفوتونات حيث تأتي طاقة الارتعاش هذه في وحدات محددة بدقة.

المادة مهمة


كان عمل ديراك مثيرًا للإعجاب، لكنه، وحتى الآن، لا يُطبق إلا على الحقول الكهرومغناطيسية الفارغة، لكن ماذا عن جسيمات المادة مثل الإلكترونات، التي تتفاعل مع الحقول الكهرومغناطيسية، وحتى أنها تُولد حقولاً أيضاً؟.

وصفت رياضيات شرودينجر وهايزنبرغ سلوك تلك الجسيمات، لكنها لم تأخذ في الحسبان نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين. تدخل هذه النظرية مسرح الأحداث عندما تتحرك الأجسام بسرعة قريبة من سرعة الضوء، أي عندما يكون لها سرعة الفوتونات، ولأن الكهرومغناطيسية متعلقة بالكامل بالفوتونات، فلا يُمكنك أبدًا تجاهل التأثيرات النسبية عندما تتعامل مع الكهرومغناطيسية.

صورة تم التقاطها في مؤتمر سولفاي في العام 1927
صورة تم التقاطها في مؤتمر سولفاي في العام 1927


وبذلك وُجدت الحاجة إلى معادلة جديدة، وكان ديراك من جديد هو من أتى بالأخبار الجيدة، إذ تُقدم معادلته تفاعلًا إيجابيًا مع صورة الفوتون، وذلك في تماشيها مع فكرة ثنائية الموجة-الجسيم. ومن جديد، كانت حلول معادلة ديراك عبارة عن أمواج ستتفكك إلى هزازات توافقية وبعد ذلك يجري تكميمها. وكالفوتونات تماماً، تُمثل الإلكترونات وحدات إثارة لحقلٍ آخر، وهي ليست أمواجًا بشكلٍ كامل، ولا جسيمات بشكلٍ كامل.


وهنالك المزيد، فلجعل معادلته تأخذ في الحسبان الخواصَّ الفيزيائيةَ الحقيقية للإلكترونات، مثل اللف المغزلي (spin)، وهو نوع من الزخم الزاويّ (كمية التحرك الزاوية)، كان على ديراك استخدام تمثيل رياضي احتاج إلى ضعف المعلومات التي كان يُظن أنه يحتاجها.

ما الذي قد تعنيه تلك المعلومات الإضافية؟ تنبأ ديراك بأنها تصف توأمًا مثيرًا للإلكترون ودعاه بالإلكترون المضاد أو البوزيترون (positron)، الذي يمتلك كتلة مماثلة لكتلة الإلكترون ولكن شحنة معاكسة له، وعندما يتقابل إلكترون مع إلكترون مضاد، يُفني الاثنان بعضهما البعض وينتجان فوتونات غير مشحونة.

بعد وقتٍ قصير من التنبؤ الرياضي المذهل لديراك، اكتُشفت البوزيترونات من قبل كارل أندرسون Carl D. Anderson، وفي الواقع ظهر في وقتٍ لاحق أن العديد من الجسيمات الأساسية تتواجد مع جسيماتها المضادة. تعامل قوانين الطبيعة، كما نفهمها، الجسيمات والجسيمات المضادة بالمثل، وبالتالي، وكما يظهر، يجب أن يكون هناك كميات متساوية من المادة والمادة المضادة في الكون، أما لماذا ليس الحال كذلك، فهو سؤال لا يزال غامضًا حتى الآن، إذ يبدو لنا أنه هناك كمية من المادة أكبر بكثير من المادة المضادة.

جاهز، ومستقر.... تبًا!


بدت جهود ديراك وكأنها تُقدم كل شيء ضروري لبناء نظرية كاملة عن الديناميكا الكهربائية الكمومية (quantum electrodynamics)؛ فهي تصف الإلكترونات والفوتونات على أنها حالات إثارة لحقول كمومية تقف ورائها، وبالتالي فإن المسألة هي مجرد وضع المعادلات في حالة العمل ورؤية كيفية تفاعل الإلكترونات والفوتونات، وكيف يتفاعل الضوء مع نفسه ويتشتت على المادة.

لكن كانت هناك مشكلة رئيسية، فالإجابة التي سعى إليها علماء الفيزياء باستخدام حساباتهم كانت اللانهاية، إذا لا بد من وجود شيء ما خاطئ جدًا.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المفعول الكهروضوئي (photoelectric effect): هو ظاهرة فيزيائية تُرصد في الكثير من المعادن، وتتضمن إصدار الإلكترونات من سطوح تلك المعادن جراء تسليط الضوء عليها، وتُعرف الإلكترونات الصادرة في هذه الحالة بالإلكترونات الضوئية (photoelectrons).
  • الكهرومغناطيسية أو الكهراطيسية (electromagnetism): الكهرومغناطيسية هي مجال دراسة يُركز على القوة الكهرومغناطيسية التي تُمثل نوعاً من التفاعلات الفيزيائية التي تحصل بين الجسيمات المشحونة كهربائية. المصدر: العلوم الأمريكية
مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً () تعليقات