ما هو التناظر الفائق؟

النموذج القياسي لطيفٌ بالطبع، ولكن علماء الفيزياء ليسوا قانعين بترك الأمر عند هذا الحد. يبدو ليون ليدرمان Leon Lederman (حاز على جائزة نوبل في الفيزياء للعام 1986) هنا وهو يخطب في مؤتمر القمة العالمي لفيزياء ما وراء النموذج القياسي في العام 2006.


حقوق الصورة: رودريغو بوينديا/ وكالة فرانس برس/ موقع جيتي إيميج Rodrigo Buendia/AFP/Getty Images


أسرع من رصاصة منطلقة! أقوى من قاطرة! قادر على القفز من المباني الشاهقة بوثبة واحدة! نعم، إنه "التناظر الفائق" (supersymmetry) بطبيعة الحال، (SUSY، إن كنت تفضل اسمه المستعار الألطف)، من بين كل من لدينا من الأبطال الخارقين في الكون، ربما كان التناظر الفائق هو الذي سوف ينقذنا من الإبادة التامة. ليس لأنه يحارب الأشرار أو يفوق الأوغاد حيلةً، بل لأنه ربما قد يفسر كيف تعمل أصغر أجزاء الكون وأكثرها أساسية، يفتح قفل الكون، ومن يدري ما الذي سيمكننا الدفاع عن أنفسنا ضده.

فمن هو بطلنا الذكي؟ بطلتنا ذات العضلات؟ حسناً: إنه أقرب لبيتر باركر [1] الذي يشبه الفأر منه للرجل العنكبوت الدمث. إنه في الواقع مبدأ -ابتُكرَ لملء فراغات إطار آخر-هو إطارٌ بدأ علماء الفيزياء يخشون أنه لا يصل لنصف القوة التي يبدو عليها. يبدون أن التناظر الفائق قد التقى بنظيره أخيراً، وربما كان مصادم الهادرونات الكبير هو الحلبة التي سيلفظ فيها أنفاسه الأخيرة.

أولاً، لنعد خطوة إلى الوراء. إن النموذج القياسي هو ما يستخدمه علماء الفيزياء اليوم لفهم المبادئ الأولية للكون. وهو يحدد الجسيمات الأساسية، كما يحدد القوى الأربع التي تتفاعل مع الجزيئات لإبقاء الكون مستمراً في المسير. وتشمل هذه الجسيمات الكواركات واللبتونات: ربما كنت على دراية بالبروتونات والنيوترونات من عائلة الكواركات، والإلكترونات والنيوترينات كلبتونات. والقوى هي القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية والجاذبية.

يقول النموذج القياسي أن كل من تلك القوى لها جسيم نظير (أو بوزون). ومن خلال إبدال البوزونات بعضها ببعض، تستطيع المادة نقل الطاقة بين بعضها البعض [المصدر: سيرن]. وهنا أمر ملائم حقاً: لقد تم العثور على كل الجسيمات في النموذج المعياري، بما فيها -منذ وقت ليس بالبعيد- بوزون هيغز. يشكل هيغز حقل هيغز أكبر يستطيع نقل الكتلة للجسيمات.

والآن، لدينا هنا أمر غريب. إذا كان النموذج القياسي صحيحاً، فهذا يعني أن مجال هيغز يعطي الجسيمات تحت الذرية كتلتها. ولكن النموذج القياسي لا يخبرنا ما هي هذه الكتل، كما أنه لا يفسر السبب في أن بوزون هيغز سيكون خفيفاً، إذ أنه ينبغي أن يكون ثقيلاً جداً في الحقيقة، إذا كانت جسيمات النموذج القياسي الأخرى تتفاعل معه بالطريقة المتوقعة.

هنا يأتي دور التناظر الفائق. وكما يذكرنا العاملون في "مختبر فيرمي" (Fermilab)، فإن التناظر الفائق هو مبدأ، وليس نظرية، وهذا يعني أن هناك الكثير من نظريات التناظر الفائق التي تتباين في نقاط مختلفة. إلا أن كل هذه النظريات تتضمن معادلات التناظر الفائق التي تتعامل مع المادة والقوة بتطابق [المصدر: Fermilab ]. نعم، من الممكن إبدال المادة والقوة بعضهما ببعض.

كيف يمكن تحقيق فعل التوازن هذا؟ يقول التناظر الفائق أن كل جسم موصوف في النموذج القياسي له شريك فائق (superpartner) بكتلة مختلفة. وهكذا، فإن كل جسيم مادة معروف (أو فرميون) له جسيم قوة (أو بوزون) والعكس صحيح. والإلكترون هو مثال على الفرميون، في حين أن الفوتون هو مثال على البوزون. ومن أكثر خصائص الشريك الفائق فائدة، هي أنه سيلغي بالفعل الكتلة الكبيرة التي تنبأ النموذج القياسي بأن يكون الهيغز عليها، يبدو هذا رائعاً! لأننا قد عثرنا على هيغز، ولم يكن ذو كتلة كبيرة. التناظر الفائق على قيد الحياة! يحيا التناظر الفائق!

آه، ولكنك قد ترغب في التمهل هنا، إذ أن هناك مشكلة كبيرة تكمن هنا مع التناظر الفائق والشريك الفائق: أننا لم نراهما بعد. ففي حين إنه لمن الرائع أن نجد هيغز في الكتلة التي يتنبأ بها التناظر الفائق، إلا أنه ينبغي حقاً أن نرى كل هؤلاء الشركاء الفائقين من الجسيمات. وبعد تشغيل مصادم الهدرونات الكبير لعدة سنوات، ما زلنا لم نرها.

أجل، إنه لمن الصعب نوعاً ما تبرير التعلق بالتناظر الفائق. فنحن نفترض وجود كل هؤلاء الشركاء الفائقين لأن النموذج القياسي سيكون أكثر منطقية بوجودهم. يبدو هذا علماً رديئاً، أليس كذلك؟

حسناً، لا تتسرع. فالتناظر الفائق سيجيب عن أسئلة أكثر من مسألة هيغز، وتبدو القدرة على حل مشاكل متعددة بحل واحد جذابة للعلماء [المصدر: Fermilab]. على سبيل المثال، لم يفهم علماء الفيزياء سبب دوران المجرات حول ذاتها (spin) بهذه السرعة التي تدور بها، بالنظر إلى كتلتها المعتبرة، ولذلك افترضوا وجود مادة جديدة -المادة المظلمة- لحل المشكلة. ثم واجهوا مشكلة أكبر: إذا وُجِدت المادة المظلمة، فمن أي شيء من هذا العالم صُنعت؟ فنحن لم تسبق لنا رؤيتها أبداً، لذلك لم نستطع معرفة ما الذي تتألف منه هذه المادة الغامضة. يحل التناظر الفائق هذه المشكلة، لأن أخف جسيم فائق التناظر سوف يتناسب تماماً مع وثيقة المادة المظلمة.

هل هناك نعمة أخرى قد يوفرها التناظر الفائق؟ يمكن أن تُفهم القوى الثلاث، التي نفهمها على المستوى ما تحت الذري (القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية)، على أنها جزء من قوة واحدة موَحدة. وبينما يخبرنا النموذج القياسي أن القوى تصبح متماثلة عند الطاقات العالية جداً، فإن التناظر الفائق سيتنبأ بأن القوى الثلاث تتحد عند طاقة واحدة [المصدر: Fermilab]. لكن، ليس من الضروري أن يكون هذا "معقولاً"، حيث أن علماء الفيزياء -كما ذكرنا- يعجبون بالحلول الطبيعية الراقية. إن التناظر الفائق سيُوجِدُ حلاً من النوع الذي يتوق له علماء الفيزياء حين يتعلق الأمر بالسؤال عن توحيد القوى.

إلا أنه علينا أن نتذكر مرة أخرى بأن هذا كله لن يؤدي بنا إلى شيء مالم نجد أولئك الشركاء الفائقين. وإذا لم نتمكن من العثور عليهم، فلن يكون لدينا أي تفسير لكتلة بوزون هيغز أو المادة المظلمة أو توحيد القوى،ولكننا حددنا موعد موت التناظر الفائق، قبل أن نمنحه فرصة للقتال.

ربما كان الأمل على الطريق، في شكل انفجار بروتون هائل. هذا صحيح، فآمالنا ما زالت معقودة على مصادم الهادرونات الكبير، مسرّع الجسيمات الذي كان مسؤولاً عن العثور على دليل على بوزون هيغز في العام 2012. وعلى الرغم من أن العثور على هيغز كان بلا شك أمراً عظيماً لمؤيدي التناظر الفائق -وعلماء الفيزياء بشكل عام- إلا أن ما كانوا يأملونه حقاً هو العثور على حفنة من الجسيمات، وبالأخص حفنة من أولئك الشركاء الفائقين المراوغين الذين قد يؤدون بنا لأن ندرك أن التناظر الفائق واقعي.

ليس من المبالغة القول بأن إيجاد هيغز فقط (وليس أي شريك فائق آخر) في مصادم الهادرونات الكبير قد تسبب في شيء من الأزمة في عالم الفيزياء. إذ في نهاية المطاف، كان ينبغي العثور على شركاء فائقين في نفس المكان تقريباً، لكي يكون لكتلة هيغز معنى [المصدر: Wolchover]. لقد تحدد موعد إعادة تشغيل مصادم الهادرونات الكبير في العام 2015، وذلك لتحطيم البروتونات في مستويات أعلى من الطاقة على أمل العثور على شركاء فائقين في كتل أعلى. إلا أن هذا لسوء الحظ، لن يحل المشكلة تماماً: إذ حتى لو أنهم عثروا على شركاء فائقين بكتلة ثقيلة، فإن التأثيرات الملائمة للتناظر الفائق -أي إلغائه لكتلة هيغز فائقة الثقل- لن تكون على نفس القدر من الفاعلية [المصدر: Wolchover]. ولذلك سنعود مرة أخرى عالقين في نزوة التناظر الفائق.

ولكن التناظر الفائق، كما لاحظ الناس، هو مبدأ، وليس نظرية. وفي بعض سيناريوهات التناظر الفائق، لم يستطع مصادم الهادرونات الكبير رصد الشركاء الفائقين، بسبب القيود المفروضة على التجارب، وعدم قدرتها على الكشف عن الجسيمات الأقل استقراراً [المصدر: Wolchover]. ولذلك، فبينما يحتاج التناظر الفائق إلى الجري لاهثاً ليدخل الغرفة بشيء من السرعة ومعه عذر مقبول لتأخره إلى هذا الحد، فإن الوقت لم يحن بعد لإغلاق الباب في وجهه.

 

ملاحظات


[1] بيتر باركر: هو اسم الرجل العنكبوت في حياته العادية.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات