كيف يمكن للأقمار الصناعية أن تنقذ حياتنا؟

يعتبر غزو الفضاء من الاستثمارات المُكلفة للغاية، ومن غير النادر أن تصل التكلفة الإجمالية لبعض البعثات الفضائية إلى عدة مئات الملايين من الدولارات. ولهذا السبب كثيراً ما تتعرض سياسة غزو الفضاء للانتقادات، خصوصاً في أوقات الأزمات أو بعد الإخفاقات ذات العيار الثقيل. لكننا في هذا المقال سنلقي الضوء على تأثير غزو الفضاء المهم على حياتنا الحديثة من خلال بعض الأمثلة النموذجية، وسنبيّن كيف أنه يتيح استمرار الحياة، بل وإنقاذها بالمعنى الأشمل.



مراقبة الأرض


تندرج تحت عنوان مراقبة الأرض جميع البعثات والأبحاث التي تتضمن توجيه المعدات المحمولة على متن المركبات الفضائية نحو الأرض. ويشمل ذلك دراسة سطح الأرض إضافة إلى الغلاف الجوي.


مكوك فضائي أثناء إقلاعه. على الرغم من أن الرحلات الفضائية تكلف أموالاً طائلة، إلا أن هذه المبالغ تستثمر بشكل جيد جداً. المصدر: ناسا
مكوك فضائي أثناء إقلاعه. على الرغم من أن الرحلات الفضائية تكلف أموالاً طائلة، إلا أن هذه المبالغ تستثمر بشكل جيد جداً. المصدر: ناسا


التنبؤ بالطقس


لنبدأ بأحد الأمثلة المألوفة للجميع حول أهمية غزو الفضاء في الحياة اليومية، ألا وهو نشرة الأحوال الجوية اليومية. تقوم الأقمار الصناعية الثابتة بالنسبة للأرض، والتي تحلق فوق خط الاستواء أو تدور حول القطبين على ارتفاع حوالي 36,000 كيلومتر، بمراقبة التبدلات التي تطرأ على الطقس. ويمكن القول أن كل تقرير عن الطقس يستقي معلوماته من صور أحد الأقمار الصناعية. يتم وضع التنبؤات المتعلقة بحالة الطقس من خلال البيانات التي يتم الحصول عليها من هذه الأقمار الصناعية. ومن غير الممكن الحصول على تنبؤات دقيقة لحالة الطقس لولا وجود الأقمار الصناعية. 

مراقبة مناطق الكوارث والتخطيط لتقديم المساعدات: غزو الفضاء ينقذ الحياة


أدت التأثيرات البشرية إلى زيادة معدلات الكوارث الطبيعية خلال العقود الأخيرة، فالعواصف والأعاصير تصبح أكثر عنفاً وتتزايد قوتها التدميرية باضطراد. ويقودُ ذلك إلى آثار مخيفة للناس، إذ تؤدي كلُّ كارثة طبيعية إلى وفاة وتشريد الكثيرين. إضافة إلى ذلك تبرز مشكلة أخرى بعد الكوارث الطبيعية، وهي خطر حدوث الأوبئة الناجمة عن الظروف الصحية السيئة وتراجع إمكانيات الرعاية الصحية، وهنا يصبح التّعامل السريع والموجّه مع المشكلة ضرورةً ملحّة.

من ناحية أخرى يفيد تقويم مجاري الأنهار وتدعيم ضفافها في تحقيق المسار الأمثل لرحلات الملاحة النهرية. ولكن ذلك يمثل تدخلاً خطيراً في الطبيعة حيث يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية. ففي كل عام يرتفع منسوب مياه الأنهار عند ذوبان الثلوج، وتُعتبر هذه الآلية من الظواهر الطبيعية التي لا يمكن الوقوف في وجهها. وتؤدي زيادة الهطولات المطرية والثلجية الناجمة عن تبدل المناخ إلى زيادة مضطردة في الكوارث الناجمة عن ارتفاع منسوب المياه.

وهنا تتدخل الأقمار الصناعية الخاصة بالاستشعار عن بعد. تتيح الأقمار الصناعية الحديثة المتخصصة بالاستشعار عن بعد والمزوّدة بكاميراتها الخاصة تصوير الأرض بدقة تبلغ 30 وحتى 100 سنتيمتر للبكسل الواحد. وبإمكان هذه الكاميرات تصوير مساحة أوسع بكثير مما تراه الطائرة في حالات الفيضان. تتيح هذه المزايا للمشرفين على الأقمار الصناعية مراقبة المناطق المتضررة في حالات الكوارث الطبيعية.

تتمثل المُهمّة الأكثر جوهريّة في هذه الحالة بوضع خارطة دقيقة للمناطق المتضررة. يمكن رسم خرائط دقيقة بواسطة برمجيات خاصة، وتتيح مثل هذه الخرائط لمنظمات الإنقاذ والمساعدة الإنسانية التخطيط للوصول إلى المناطق التي تحتاج إلى العون، بحيث يتم التحقق من إمكانية الدخول بأسرع ما يمكن وعبر البنى التحتية الأقل تضرراً، ما يساعد على توفير الوقت الثمين.

إحدى الخرائط التي وضعت للمناطق المتضررة بعد كارثة التسونامي الكبرى عام 2004. يمثل ذلك أحد الاستخدامات الأساسية للاستشعار عن بعد. المصدر: DLR/DFD/ZKI
إحدى الخرائط التي وضعت للمناطق المتضررة بعد كارثة التسونامي الكبرى عام 2004. يمثل ذلك أحد الاستخدامات الأساسية للاستشعار عن بعد. المصدر: DLR/DFD/ZKI


من خلال قدرتها على تصوير مساحات كبيرة من سطح الأرض، تفيد صور الأقمار الصناعية في إجراء المزيد من الأبحاث المهمة. يمكننا مثلاً الحصول على معرفة محدودة حول المناطق التي يتوجب فيها إعلان حالة الخطر لدى مراقبة تطور الأعاصير أو مسارها. وبالطبع لا يمكن أن يتم ذلك بشكل مؤكد تماماً، فهذه الأعاصير تغير اتجاه سيرها بشكل غير متوقع في بعض الأحيان، كما حدث مع إعصار هايان (Typhoon Haiyan) الذي ضرب المحيط الهادئ في نهاية عام 2013.

الأبحاث الطبية والدوائية


تم تحقيق بعض التطورات في مجال الطب بفضل الرحلات الفضائية المأهولة. حيث لم يكن بالإمكان إجراء بعض الأبحاث والتجارب بنجاح إلا في ظروف انعدام الجانبية.

ديف وليامز أثناء أبحاث طبية خلال الرحلة STS-90 (مختبر Neurolab). المصدر: ناسا
ديف وليامز أثناء أبحاث طبية خلال الرحلة STS-90 (مختبر Neurolab). المصدر: ناسا


وكمثال على ذلك نذكر إحدى الحالات الطبية التي تعرف باسم الضمور العضلي. يضطر الإنسان في هذه الحالة إلى البقاء طريح الفراش بشكل متواصل لعدة أسابيع أو حتى أشهر –كما في مرضى السُّبات مثلاً– ما يؤدي إلى تراجع كبير في الكتلة العضلية.

يرتبط المجهود الذي يمكن للعضلة القيام به بالأساس بقوة الجاذبية: تقوم المقاومة المعاكسة لقوة معينة، وهي قوة الجاذبية في هذه الحالة، بتوليد المجهود الذي تقوم به العضلة. ولكن لدى الاستلقاء لفترة طويلة دون حراك فإن العضلة تفقد هذه المقاومة، وبذلك لا يمكن لها أن تولد المقاومة التي تعاكس قوة الجاذبية.

وتتوفر نفس هذه الظروف في الفضاء خلال الرحلات الطويلة، حيث تسيطر حالة انعدام الجاذبية في المدار. والنتيجة هي أن عضلات روّاد الفضاء تفتقر بشكل كامل للمجهود العضلي تحت هذه الظروف. وبذلك فإن البقاء لفترة طويلة في الفضاء يشكل فرصة مثالية لإجراء أبحاث حول الطرق الملائمة لتخفيف فقدان الكتلة العضلية إلى الحد الأدنى.

الأقمار الصناعية الخاصة بالبث التلفزيوني


من الطبيعي أن نتابع البث التلفزيوني يومياً من جميع أنحاء العالم: الألعاب الأولمبية من لندن، أو مباراة كرة قدم ضمن بطولة كأس العالم في البرازيل، أو الأخبار في بث حيّ ومباشر من الشرق الأوسط. وكلها تشترك في شيء واحد، البث المباشر قد أصبح ممكناً من خلال الأقمار الصناعية.

وتتواجد الأقمار الصناعية المتخصصة بالاتصالات اللاسلكية منذ عام 1962، ويمكن أن نعتبرها حجر الأساس في غزو الفضاء. فقد تم إطلاق القمر الصناعي تيلستار 1 (Telstar 1) في العاشر من يوليو/تموز 1962، وهو لا يزال موجوداً حتى الآن بين النفايات الفضائية التي تدور حول الأرض. وقد أتاح تيلستار كذلك إجراء أول الاتصالات الهاتفية عبر الأقمار الصناعية.

القمر الصناعي تيلستار 1 الخاص بالبث التلفزيوني. المصدر: ناسا
القمر الصناعي تيلستار 1 الخاص بالبث التلفزيوني. المصدر: ناسا


تفتقر المناطق المعزولة من كوكب الأرض إلى تغطية كافية بالكابلات البحرية، ومن غير الممكن الاستغناء عن البث عبر الأقمار الصناعية في مثل هذه المناطق، على الرغم من أن سرعة البث أبطأ مقارنة بالكابلات الحديثة. وهنا تمتلك تقنيات الأقمار الصناعية الأهمية نفسها فيما يتعلق بالهاتف النقال: نظراً لعدم توفر أي وسائل أخرى للتواصل، يستطيع الإنسان بفضل الأقمار الصناعية أن يتواصل مع العالم من أي مكان.

أنظمة الملاحة


«انعطِف إلى اليمين عند التقاطع التالي!» هي جملة ربما سمعها كل سائق من أنظمة الملاحة، فقد أصبحت موجودة عملياً في معظم وسائل النقل الحديثة. ويُعتبر نظام الملاحة العالمية بالأقمار الصناعية (Global Navigation Satellite System) أو اختصاراً (GNSS) من أنظمة تحديد المواقع التي تتيح للمُستقبل الحصول على دقة تتجاوز عشرة أمتار في تحديد موقعه على الأرض. وكقاعدة عامة تبلغ دقة هذا النظام مترين فقط.

ويُعرف هذا النظام منذ عدة سنوات باسم نظام التموضع العالمي (Global Positioning System) أو اختصاراً (GPS)، وهو نظام الملاحة الأمريكي. ويمكن اليوم أيضاً لجميع أجهزة الملاحة والهواتف الذكية الحديثة أن تستقبل إشارات نظام الملاحة الروسي المعروف باسم GLONASS.

يمتلك النظام GNSS تطبيقات في الكثير من مجالات الحياة. ولعل أشهر هذه التطبيقات نظام الملاحة المتوفر في السيارات، حيث يقوم السائق بتحديد نقطة البداية ونقطة الوصول، ويقوم الجهاز بتحديد المسار. وبذلك فإن المعلومات التي يقدمها GNSS حول موقع السائق تتيح الحصول على الطريق الأفضل للرحلة.

يمكن استعمال أنظمة الملاحة الموجودة في الهواتف النقالة ضمن السيارات.
يمكن استعمال أنظمة الملاحة الموجودة في الهواتف النقالة ضمن السيارات.


يمتلك نظام GPS أيضاً تطبيقات في أي مكان يحتاج فيه الإنسان إلى تحديد موقعه بدقة، بما في ذلك الرحلات الفضائية والبحرية التي تعتبر من أهم الاستخدامات.

الكاميرات الرقمية


أدت الكاميرات الرقمية إلى ثورة في عالم التصوير الفوتوغرافي وبسّطته بشكل كبير. فلم نعد بحاجة لتعريض الفيلم ثم تحميضه للحصول على الصور، إنما يمكننا رؤية الصورة مباشرة على شاشة العرض ومشاركتها بسهولة.

كاميرا رقمية.
كاميرا رقمية.


لكننا في الواقع مدينون للرحلات الفضائية بتطوير أنظمة التصوير الرقمي. فحتى تتمكن الأقمار الصناعية من التقاط الصور، تحتاج إلى نظام يتيح لها معالجة بيانات الصور الملتقطة بشكل فوري ومن ثم إرسالها عن بُعد. لا تصلح لهذه الغاية إلا الأنظمة الرقمية.

يقوم جهاز الاستقبال الموجود في الكاميرا الرقمية بالتقاط الصورة، التي يتم قراءتها وحفظها ثم حذفها من جهاز الاستقبال مباشرة. ويمكن بعد ذلك التقاط صورة أخرى. بعد ذلك يتم إرسال الصور الملتقطة إلى الأرض بواسطة الاتصالات اللاسلكية.

لا تزال الأقمار الصناعية الأولى المتخصصة بجمع البيانات الخاصة بكوكب الأرض تعمل بواسطة الأفلام التقليدية، حيث يتم كشف الفيلم مقابل المنطقة الأرضية التي يتوجب تصويرها، ثم تتم إعادته إلى الأرض. لكن مثل هذه الأنظمة أثبتت أنها غير عملية، وتم لاحقاً تطوير أنظمة التصوير الرقمي، الأمر الذي كان ضرورياً لإرسال البعثات ما بين الكوكبية. وبذلك فإن الكاميرات الرقمية التي نتمتع بها اليوم تشكل أحد منتجات أبحاث الفضاء.

الخلاصة


لا يمكن لحياتنا اليومية في العصر الحالي الاستمرار بدون الرحلات الفضائية، فنحن نستخدم في كل مكان تطبيقات ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالرحلات الفضائية والأقمار الصناعية. حين يدرك الإنسان حجم الأشياء اليومية والمفيدة التي ندين بها للرحلات الفضائية، سيدرك مباشرة أن لا مجال للشك في أهمية غزو الفضاء.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات