هل اقتربنا فعلاً من نظرية كل شيء؟

ساد الاعتقاد بأن النظريتين الأكثر ترجيحًا لأن تكونا "نظرية كل شيء" (theory of everything) متناقضتان، لكن من المحتمل أنهما وجهان لعملةٍ واحدة.

مضت ثمانية عقود منذ أن أدرك الفيزيائيون أن ميكانيكا الكمّ والنظرية التي تصِف الثقالة لا تتوافقان مع بعضهما البعض، وبقيت معضلة كيفية التوفيق بينهما دون حل. وسعى الباحثون خلال العقود الأخيرة إلى إيجاد حل للمعضلة عبر طريقين متباينين: نظرية الأوتار (string theory)، والثقالة الكمومية الحلقية (loop quantum gravity) اللتان اعتبرهما المشتغلون على تطويرهما غير متوافقتين. لكن يقترح اليوم بعض العلماء توحيد الجيوش للمضي قدُمًا.

وضمن المساعي التي جرت لتوحيد النظرية الكمومية والثقالة حازت نظرية الأوتار على القسط الأوفر من الاهتمام. فمقدماتها المنطقية بسيطة: كلُّ شيء مصنوع من أوتارٍ ضئيلة. ويمكن للأوتار أن تكون مغلقةً على نفسها، أو تكون لها نهايتان طليقتان. ويمكن لها أن تهتز، وتمتط وتلتحم وتنقسم. وفي هذا المظهر المتعدد يكمن تفسير جميع الظواهر التي نرصدها، سواء أكانت المادة أم الزمان-المكان (space-time).

 

وعلى النقيض من ذلك تُركِّز نظرية الثقالة الكمومية الحلقية على الخصائص الكمومية للزمكان نفسه أكثر من اهتمامها بالمادة التي تسكن هذا الزمكان. وفي هذه النظرية التي تحمل الاسم المختصر LQG يُكون الزمكان شبكة. فقد أُزيلت الخلفية الملساء التي تتضمنها نظرية أينشتاين عن الثقالة ووُضع بدلًا عنها عُقدٌ وروابط تُنسب لها الخصائص الكمومية. وبهذا الطريقة يكون المكان مبنيًا من قطعٍ منفصلة. والجزء الأكبر من اهتمام LQG هو دراسة هذه القطع.

قسمت هذه الاختلافات الفيزيائيين فرقًا ومذاهب شتى. وتشظَّت حتى المؤتمرات العلمية، فصار العلماء المؤيدون لنظرية LQG لا يحضرون إلا المؤتمرات التي تدعم هذه النظرية، والمؤتمرات التي تُقدِّم أبحاثًا عن نظرية الأوتار أصبحت حكرًا على المؤيدين لهذه النظرية. وكأن أحدًا لم يعد يحضر مؤتمرًا "للفيزياء"، وما يؤسف له أن الأمور وصلت لهذا الحد.


لكن بدأت تلوح في الأفق مظاهر قد تُسفر عن توحيد المعسكريْن. فقد أماطت الاكتشافات النظرية الحديثة اللثام عن وجه تشابهٍ بين نظرية LQG ونظرية الأوتار. وبدأ جيلٌ جديدٌ من العلماء النظريين يدعمون نظرية الأوتار بالنظر خارج إطار نظرية الأوتار بحثاً عن طرائق وأدواتٍ يمكن الاستفادة منها في السعي لفهم الوسيلة التي بها نبني نظرية كل شيء. وتُمثِّل التناقضات المتعلِّقة بالثقوب السوداء (black holes) وضياع المعلومات التي ما تزال بحاجةٍ لحل سببًا قويًا للتواضع. 


كذلك فإنه في غياب الدليل التجريبي سواء لنظرية الأوتار أو لنظرية LQG سيُشير البرهان الرياضي بأن النظريتيْن هما وجهان لعملةٍ واحدة إلى أن الفيزيائيين يتقدمون نحو نظرية كل شيء الصحيحة. ومع توحيد هاتين النظريتين في نظريةٍ واحدةٍ، ستكون هذه النظرية هي المسيطرة على الساحة.


رابطٌ غير متوقع


قاد البحث عن حلولٍ للمسائل العالقة في نظرية LQG إلى التقاط أول رابطٍ بينها وبين نظرية الأوتار. فلقد كان لدى الفيزيائيين الدارسين لنظرية LQG نقصٌ في الفهم الواضح للكيفية التي يمكن بها الانتقال من شبكة قطع الزمكان الموجودة في نظريتهم وصولًا إلى الوصف الموجود في النظرية العامة للنسبية (general relativity) التي وضعها أينشتاين، والتي تُمثِّل أفضل نظريةٍ لدينا عن الثقالة.

 

وما يُثير قلقهم أكثر أن نظريتهم لم تكن قادرةً على التوافق مع الحالة الخاصة التي تُصبح فيها الثقالة مهملةً. وهذا عرضٌ يظهر في جميع النظريات التي تستند إلى مبدأ تقطيع الزمكان، ففي نظرية النسبية الخاصة (special relativity) لأينشتاين سينكمش الجسم حسب سرعة الراصد بالنسبة له.

 

وسيُطبَّق هذا الانكماش حتى على قطع الزمكان التي سيُلاحظها الراصد بشكلٍ مختلف كلما اختلفت سرعته. سيقود هذا التعارض إلى مشكلةٍ مع مبدأ أساسي في نظرية أينشتاين، ألا وهو أن قوانين الفيزياء يجب أن تكون نفسها بغض النظر عن سرعة الراصد.

من الصعب تقديم بُنى متقطعة دون أن تواجه صعوباتٍ مع النسبية الخاصة. ويجادل الباحثان يورغ بولين Jorge Pullin من جامعة ولاية لويزيانا ورودولفو غامبيني Rodolfo Gambini اللذيْن نشرا ورقة مقتضبة في العام 2014 بأن جعل نظرية LQG متوافقةً مع النسبية الخاصة يُحتِّم وجود تأثرات (تفاعلات متبادلة) تُشابه تلك الموجودة في نظرية الأوتار.


يبدو أن وجود قاسمٍ مشتركٍ بين المقاربتيْن أمرٌ يتوقعه بولين لأن اكتشافًا لاحت فيه بوادر الفكرة نشره جوان مالداسينا juan Maldacena الفيزيائي في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، طابق فيه بين النظرية الثقالية في ما يُسمى معكوس فضاء دو سيتر anti-de Sitter أو اختصارًا AdS مع نظرية الحقل التماثلي CFT عند حدود الزمكان. وباستخدام هذه المطابقة بين AdS و CFT يمكن للنظرية الثقالية أن توصف عن طريق نظرية حقل مفهومة بشكلٍ أفضل.

النسخة الكاملة من التطابق ما تزال تخمينًا، لكن لها حالة حدودية مدروسة بشكلٍ جيد لا تشغل فيها نظرية الأوتار أي دور. ولأن الأوتار لا تعبأ بهذه الحالة أبدًا فلا بد أن تكون مشتركةً بين جميع نظريات الثقالة الكمومية. وهذا ما يراه بولين نقطة التقاء.

وجد هيرمان فيرلينده Herman Verlinde، وهو فيزيائي نظري من جامعة برينستون Princeton يعمل على نظرية الأوتار، أن من المعقول الاعتقاد بأن طرائق نظرية LQG يمكنها المُساعدة في تسليط الضوء على الجانب الثقالي من هذه الثنائية. وفي ورقةٍ نُشرت مؤخرًا نظر فيرلينده على AdS/CFT وفق نموذجٍ مبسط ببعديْن للمكان وواحد للزمان، أي 2+1 كما يُسميها الفيزيائيون.

 

ووجد أن المكان الموصوف بنظرية AdS يمكن أن يوصف بشبكة تُشابه تلك الموجودة في نظرية LQG. وعلى الرغم من أن الإنشاء يعمل حاليًا وفق بعدين مكانيين وبعدٍ زماني (أي 2+1) إلا أنه يقدِّم طريقة جديدة للتفكير بالثقالة. يأمل فيرلينده بتعميم النموذج ليشمل عددًا أكبر من الأبعاد. فقد كانت النظرة إلى نظرية الثقالة الحلقية ضيقةً جدًا. لهذا كان السعي لتكون نظرةً شموليةً أكثر، فهذا يمضي بنا قدُمًا أكثر.

إن النجاح بدمج طرائق نظرية LQG مع نظرية الأوتار لإحراز تقدُّمٍ في معكوس فضاء دو سيتر لا يُزيل السؤال المطروح: كم هو مفيدٌ هذا التركيب؟ ففضاء دو سيتر المعكوس ذو قيمة سالبة للثابت الكوني، وهو عدد يُحدِّد هندسة الكون على المقياس الكِبري، في حين أن كوننا يأخذ قيمةً موجبةً للثابت الكوني. وعليه فنحن لا نعيش في الفضاء الرياضي الذي تصفه نظرية AdS.

يعلِّق فيرلينده على هذا بأن إحدى الأفكار لحل هذه المسألة هو بناء نظرية جديدة، ومن بعد ذلك يُصبح السؤال كيف تختلف تلك النظرية عمَّا بين أيدينا. وحتى هذه اللحظة تبقى نظرية AdS أفضل تلميحٍ عن البنية التي نبحث عنها، وعلينا إيجاد الحيلة للوصول إلى قيمة موجبة للثابت الكوني. ويرى أن على الرغم من أن AdS لا تصف عالمنا لكنها ستدلُّنا على الطريق الذي علينا اتباعه للوصول للنظرية الصحيحة.


الالتقاء في الثقب الأسود


يشير الباحثان فيرلينده وبولين إلى نقطة التقاءٍ أخرى بين مؤيدي نظرية الأوتار ومؤيدي نظرية الثقالة الكمومية الحلقية، ألا وهي المصير المجهول للمعلومات التي تهوي في الثقب الأسود. فقد سلَّط أربعة باحثين من جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا في العام 2012 الضوءَ على التناقض المُضمَّن في النظرية السائدة في حينه.

 

فأوضحوا أن جعل الثقب الأسود يسمح للمعلومات بالفرار سيُدمِّر البنيةَ الهشَّةَ للفضاء الخالي المحيط بأفق الحدث للثقب الأسود، ما سيتسبب بنشوء حاجزٍ من الطاقة العالية، أسمَوْه "جدار النار" (fire wall) للثقب الأسود. غير أن جدار النار هذا لا يتوافق مع مبدأ التكافؤ الذي يحكم النسبية العامة، والذي يقضي بأن الراصد لن يقدر على الإخبار بأنه قد اجتاز أفق الحدث. وعكَّر عدم التوافق هذا صفو العلماء المُنظِّرين لنظرية الأوتار، فقد كان ظنُّهم أنهم يعلمون مصير المعلومات في الثقب الأسود، وصار عليهم العودة إلى مفكِّراتهم.

لكن هذا الأمر لم يُشكِّل معضلةً لهؤلاء المنظرين وحسب، فقد جرى النقاش بين المهتمين بنظرية الأوتار حول جدران النار للثقوب السوداء، بل أثيرت هذه الأسئلة حول المعلومات الكمومية (quantum information) والتشابك الكمومي (entanglement)، وعن الآلية التي يمكنها بناء فضاء هيلبرت رياضي، وهي تمامًا الأسئلة التي تدور بين المؤيدين لنظرية الثقالة الكمومية الحلقية وعملوا على حلِّها ردحًا من الزمن.

في الوقت نفسه وفي غفلةٍ من معظم المشتغلين في نظرية الأوتار، انهار العائق الناجم عن التناظر الفائق والأبعاد الإضافية. فقد وسَّعت مجموعة من العلماء بقيادة توماس تيمان Thomas Thiemann من جامعة فريدريك ألكسندر Friedrich Alexander في مدينة إرلانغن في ألمانيا نظرية LQG لتضمَّ أبعادًا إضافية وتحتوي التناظر الفائق، الأمران اللذان كانا حكرًا على نظرية الأوتار.


ومؤخرًا طبَّق أحد طلاب تيمان طرائق نظرية LQG في التكميم الحلقي على فضاء دو سيتر. ويقترح أنه يمكن لنظرية LQG أن تكون مفيدة في ثنائية AdS/CFT في الحالات التي يعجز فيها منظِّرو نظرية الأوتار عن إجراء الحسابات الثقالية. ويشعر نوربرت بودِندورفر Norbert Bodendorfer الذي انتقل إلى جامعة وارسو Warsaw بعد أن تتلمذ على يد تيمان بأن الهوة ما بين نظرية الأوتار ونظرية LQG بدأت تُردَم.

 

ويقول: "تكوَّن لدي في بعض المناسبات الانطباع بأن منظري الأوتار لا يعرفون سوى القليل عن نظرية LQG ولا يرغبون بالحديث عنها". لكن الجيل الجديد منهم منفتحون جدًا، وهم مهتمون جدًا بما يحصل على التخوم المشتركة.

ويذهب فيرلينده إلى القول بأن: "الاختلاف الأبرز يكمن في كيفية تحديد أسئلتنا. وهو للأسف أمرٌ يخصُّ العلوم الاجتماعية أكثر من العلوم الطبيعية"، فهو لا يعتقد أن هاتين المقاربتين متعارضتان، ويقول: "دائمًا ما كنت أرى نظرية الأوتار والثقالة الكمومية الحلقية جزآن من الصورة نفسها. لأن LQG هي طريقةٌ وليست نظرية، طريقةٌ للتفكير وفق ميكانيكا الكمّ والهندسة، طريقةٌ يمكن لمنظري نظرية الأوتار استخدامها وهم يستخدمونها فعلًا. وهاتان المقاربتان ليستا متعارضتين."

لا يوافق على هذا الجميع. فمثلًا موشيه روزالي Moshe Rozali أحد العلماء النظريين المشتغلين في نظرية الأوتار في جامعة كولومبيا البريطانية تظل تُساوره الشكوك حول LQG، ويُعبِّر عن ذلك بقوله: "السبب الذي يحول دون أن أعمل على LQG هو التعارض مع النسبية الخاصة. فلو أن مقاربتك لم تُراعي تناظرات النسبية الخاصة منذ البدء لاحتجت إلى حصول معجزة في إحدى المراحل الوسيطة".

 

ومع ذلك يرى روزالي بأن بعض الأدوات الرياضية التي تطورت في LQG يمكن الاستفادة منها. ويُضيف: "لا أعتقد أن هناك احتمالية بأن نظرية الأوتار ونظرية LQG يمكنهما التقارب والالتقاء عند منطقةٍ وسطى. لكن الطرائق الرياضية هي ما يهم الباحثين عادةً، وهي متشابهةٌ إلى حدٍ معقول، ولهذا يمكنها التطابق".

كذلك لا يتوقع الجميع على ضفة LQG أن النظريتين ستندمجان. فالفيزيائي كارلو روفيللي Carlo Rovelli من جامعة مارسيليا Marseille وهو الأب المؤسس لنظرية LQG يعتقد أن نظريته ستسود. ويشير إلى أن: "كوكب الأوتار اليوم أقل غطرسةً بما لا يقارن مع ما كان عليه قبل عشر سنوات، وأهم عامل عزز ذلك هو المرارة الحاصلة من خيبة الأمل الناجمة عن عدم اكتشاف جسيمات التناظر الفائق.

 

يمكن أن تُصبح النظريتان جزءًا من حلٍّ مشترك، لكني أميل للاعتقاد بأن هذا غير وارد، إذ يبدو بالنسبة لي أن نظرية الأوتار فشلت في الوفاء بما وعدت بتحقيقه في الثمانينيات، كما أنها بمثابة إحدى الأفكار الرائعة التي لا تجري الطبيعة بمقتضاها والتي طبعت تاريخ العلم. لا أفهم كيف ما يزال الناس يـأملون منها خيرًا".


بالنسبة لبولين فإن إعلان النصر أمرٌ سابقٌ لأوانه، ويقول: "فهناك أناسٌ من معسكر LQG يقولون: 'نحن على الحق'. ولن أخوض في جدلٍ من هذا النوع. ما أراه أن النظريتين بعيدتان عن الكمال".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • النسبية العامة (General Relativity): هي النظرية الهندسية للجاذبية. تم تطوير هذه النظرية من قبل البرت اينشتاين، و هي توسعة و مزج مع النسبية الخاصة. تقوم هذه النظرية بتوسيع مفهوم نظرية النسبية الخاصة، لتشمل جمل الإحداثيات التي تتحرك بتسارعٍ معين وتقدم هذه النظرية مفهوم التكافؤ بين قوى الجاذبية وقوى القصور الذاتي، كما أن لهذه النظرية مجموعة من النتائج التي تتعلق بكل من هذه المواضيع، كانحناء الضوء جرّاء وجود الأجسام فائقة الكتلة، و طبيعة الثقوب السوداء، و نسيج الزمان والمكان. المصدر: ناسا
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات