النفوذ الواسع للأوتار

في الجزء الأول من هذا المقال تحدثنا عن روعة نظرية الأوتار والرياضيات الكامنة وراءها، وسنكمل الحديث في هذا المقال حول توسع النظرية وارتباطها بالعديد من المجالات العلمية الأخرى.

 

قد تكون الرياضيات نفسها هي المجال الذي كسب الكثير من ازدهار نظرية الأوتار. ويوضح كلاي كوردوفا Clay Córdova الباحث في معهد الدراسات المتقدمة حينما كان جالساً إلى جانب بركة في المعهد، كيف حلت بعض المسائل الرياضية المستعصية عن طريق تخيل كيف يبدو السؤال بالنسبة إلى وتر. فعلى سبيل المثال، كم من الكرات يمكن أن تحتوي كرة كالابي ياو Calabi-Yau متعددة الأشكال- وهو النموذج المعقد الذي من المتوقع أن يصف اندماج الزمكان؟ لقد علق الرياضيون في هذه المسألة.

 

ولكن يمكن لأوتار ثنائية الأبعاد التذبذب حول مثل هذا الفضاء المعقد. فحين تتذبذب يمكنها الحصول على رؤى جديدة، كمصيدة رياضية متعددة الأبعاد. واشتهر أينشتاين بمثل هذا النوع من التفكير الفيزيائي: تجارب فكرية حول ركوب حزمة ضوئية أعطت المعادلة \(E=mc^2\). وعندما تخيل السقوط من مبنى قاده ذلك إلى أعظم صرخات اكتشافه على الإطلاق: الجاذبية ليست قوة، إنها خاصية للزمكان. 

باستخدام الحدس الفيزيائي الذي قدمته الأوتار، أنتج الفيزيائيون معادلة فعالة للحصول على إجابة عن سؤال في مجال راسخ، ويقول كوردوفا: "بل أكثر من ذلك، لقد توصلوا لتلك المعادلات باستخدام الأدوات التي لا يسمح الرياضيون باستخدامها"، وفيما بعد، بعد أن عثر فيزيائيو الأوتار على إجابة، قام الرياضيون ببرهانها بعباراتهم الخاصة. ويوضح قائلاً: "هذا نوع من التجارب، هذه تجربة رياضية داخلية". فلم يكن الحل استناداً إلى الأوتار مصيباً وحسب، بل قاد إلى مجالات الرياضيات الفائزة بالميدالية"، ويضيف: "هذا دائم الحدوث".

وأسهمت نظرية الأوتار بشكل هام في علم الكونيات. إذ كان الدور الذي لعبته نظرية الأوتار في التفكير بالآليات الكامنة وراء التوسع التضخمي للكون -وهو اللحظة التي تلت الانفجار الأعظم، حيث تلتقي التأثيرات الكمومية مباشرة مع الجاذبية- "كان دوراً عظيماً" كما تقول سيلفرشتاين، حتى لو لم تكن الأوتار على صلة. 

ولا تزال سيلفرشتاين وزملاؤها يستخدمون نظرية الأوتار لاكتشاف طرق يمكنهم بها رصد التوقعات المحتملة للأفكار التوسعية، من بين أمور أخرى. وتقول: "يمكن العثور على المشاهد نفسها باستخدام نظرية المجال الكمومي، ولكنها لم تكن موجودة. فهي طبيعية أكثر في نظرية الأوتار، بتركيبتها الفائقة".

تشابكت النماذج التوسعية مع نظرية الأوتار بطرق متعددة، ليست أقلها الأكوان المتعددة -وهي الفكرة بأن كوننا قد يكون أحد هذه الأعداد اللامتناهية من الأكوان، كل منها نشأ بالآلية نفسها التي ولد بها كوننا. وأصبح مشهد الأكوان المحتملة بين نظرية الأوتار وعلم الكونيات ليس مقبولاً فقط، بل أصبح مفروغاً منه بالنسبة لعدد كبير من الفيزيائيين. وتقول سيلفرشتاين: "تأثير الاختيار قد يكون تفسيراً طبيعياً تماماً للكيفية التي يبدو بها عالمنا: ففي كون مختلف تماماً لن نقبع هنا لنروي الحكايات.

الأمبليتيوهيدرون amplituhedron هو كائن متعدد الأبعاد يمكن استخدامه لحساب التفاعل بين الجسيمات. ويطبق فيزيائيون مثل كريس بيم آليات من نظرية الأوتار في هندسيات خاصة حيث يقول كريس: "يكون الأمبليتيوهيدرون هو التعبير الأفضل عنها". ملكية الصورة: Nima Arkani-Hamed.
الأمبليتيوهيدرون amplituhedron هو كائن متعدد الأبعاد يمكن استخدامه لحساب التفاعل بين الجسيمات. ويطبق فيزيائيون مثل كريس بيم آليات من نظرية الأوتار في هندسيات خاصة حيث يقول كريس: "يكون الأمبليتيوهيدرون هو التعبير الأفضل عنها". ملكية الصورة: Nima Arkani-Hamed.

وقد يكون هذا التأثير أحد الإجابات عن مشكلة كبيرة كان من المفترض أن تحلها نظرية الأوتار. فكما يطرح ذلك غروس: "ما الذي جلب هذه النظرية -النموذج القياسي- من هذه الوفرة في الاحتمالات غير المتناهية".


وتعتقد سيلفيرشتاين بأن تأثير الاختيار هو جدال جيد فعلياً بالنسبة لنظرية الأوتار. فمشهد الأكوان المتعددة غير المتناهية يمكن أن يرتبط مباشرة "بالبنية الغنية التي عثرنا بها على نظرية الأوتار"، فالطرق التي يمكن أن تنطوي بها نظرية الأوتار للزمكان المتعدد الأبعاد على نفسها لا تعد ولا تحصى.

بناء خريطة جديدة


على أقل تقدير، أعطت النسخة المكتملة لنظرية الأوتار -مع أدواتها الرياضية التي مكنت الباحثين من معاينة المشاكل بطرق جديدة- وسائل جديدة للكيفية التي يمكن بها أن يبدو التفسيران المتضاربان للطبيعة حقيقيين. يعد اكتشاف تفسيرين مختلفين للظاهرة نفسها جامعاً لتاريخ الفيزياء بأكمله.

 

فمنذ قرن ونصف رأى جيمس كلارك ماكسويل James Clerk Maxwell أن قوى الكهرباء الساكنة والقوى المغناطيسية هما وجهان لعملة واحدة، وكشفت نظرية الكم عن الارتباط بين الجسيمات والأمواج، وأصبح لدى الفيزيائيون الآن الأوتار.

ويقول بيم: "وبما أن أبسط الأشياء التي نسبر بها الفضاء هي أوتار بدلاً من أن تكون جسيمات، فللأوتار وجهة نظر مختلفة. فإذا كان من الصعب الانتقال من a إلى b باستخدام نظرية المجال الكمومي، تصور المشكلة مرة أخرى باستخدام نظرية الأوتار، وسيكون هنالك طريق".

وتوضح سيلفرشتاين: "في علم الكونيات، تقوم نظرية الأوتار بتجميع النماذج الفيزيائية بطريقة من الأسهل التفكير بها، فمن الممكن أن يستغرق ربط هذه الأوتار المفككة مع بعضها قروناً وذلك لرسم صورة متماسكة، إلا أن الباحثين الشباب كبيم غير مكترثين. فجيله لم يعتقد أبداً بأن نظرية الأوتار هي في طريقها لحل كل شيء. إذ يقول: "نحن لسنا عالقين، فنحن لا نشعر وكأننا على شفا الحصول على كل شيء، ولكن معرفتي تزيد في كل يوم عن اليوم الذي قبله، ومن المحتمل أن نصل إلى مكان ما".


نعمة أركاني حامد، الفيزيائي النظري في معهد الدراسات المتقدمة، يجادل بأن هذا هو الوقت الأكثر إثارة بالنسبة للفيزيائيين النظريين منذ تطوير ميكانيكا الكم في العشرينيات. ملكية الصورة: بياتريس دو جيا من كوانتم ماكازين.
نعمة أركاني حامد، الفيزيائي النظري في معهد الدراسات المتقدمة، يجادل بأن هذا هو الوقت الأكثر إثارة بالنسبة للفيزيائيين النظريين منذ تطوير ميكانيكا الكم في العشرينيات. ملكية الصورة: بياتريس دو جيا من كوانتم ماكازين.

أما ستانفورد فهو يفكر في ذلك على أنه لغز كبير من ألغاز الكلمات المتقاطعة، "إنه غير تام، إلا أنك حين تبدأ الحل، سيكون بإمكانك القول بأنه لغز صالح، فهو يمر عبر اختبارات اتساق على مدار الوقت".


ويضيف جيكراف: "ومن المحتمل ألا يكون ممكناً التعبير عن الكون في صيغة محتواة-ذاتياً محددة بسهولة، مثل الأرض"، جالساً في مكتب روبرت أوبنهايمر Robert Oppenheimer المتعدد النوافذ حيث كان هذا المكتب عائداً لمدير أينشتاين، وكان يعتني بالأعشاب الكبيرة ويراقب الغابة وبركة المعهد على مسافة منه، لقد حاول أينشتاين أيضاً إيجاد نظرية لكل شيء، وفشل بذلك، ولم ينتقص ذلك من عبقريته شيئاً.

من الممكن أن تشبه الصورة الحقيقية خرائط الأطلس، كل منها تقدم نوعاً مختلفاً جداً من المعلومات، في كل نقطة، ولاستخدام الأطلس علينا أن نستخدم الفيزياء بطلاقة في العديد من اللغات، والعديد من المناهج، كل ذلك في الوقت نفسه. وستأتي أعمالهم من اتجاهات مختلفة عديدة، قد يكون لكل منها وجهة نظر مختلفة.

يجد أركاني حامد ذلك "مربكاً تماماً، وساحراً أيضاً". ويعتقد أننا في عصر الفيزياء الأكثر بهجة منذ ظهور ميكانيكا الكم في العشرينيات من القرن العشرين. ولكن لا شيء يحدث بسرعة. ويضيف: "إذا كنت متحمساً في أن تكون مهاجماً بمسؤولية لأكبر ألغاز الفيزياء على الإطلاق، عليك حينها أن تكون سعيداً، ولكن إذا أردت تذكرة إلى ستوكهولم في الأعوام الخمسة عشر القادمة، فمن المحتمل ألا تكون كذلك".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات