ماذا حدث لكل الهيدروجين الأصلي في كوننا بعد بزوغ الفجر الكوني

عندما انفجر الكون لحيز الوجود بالانفجار العظيم Big Bang قبل نحو 14 مليار عام، كان يبدو بشكل مختلف تمامًا عما هو عليه اليوم. فبدلاً من الكواكب، والنجوم، والمجرات كانت هناك كرة متضخمة من البلازما الساخنة. برَدَ الكون وهو يتمدد، وبمرور الوقت تجمدت مكونات كوننا المختلفة مع تدني درجات الحرارة، حيث تجمدت الكواركات أولًا ثم البروتونات وبعدهم النيوترونات ومن ثم الإلكترونات.

 

أخيرًا، بعد مرور ثلاثمئة وثمانين ألف عام بدأت الذرات الأولى في الكون بالتشكل وهي ذرات الهيدروجين. تجمعت بعضٌ من هذه الذرات معًا لتكوين النجوم، إذ انصهرت الذرات معًا لتتحول إلى كربون، وأوكسجين، ونيتروجين، وحديد وكل العناصر الأخرى المكونة للكواكب والحياة. لقد تبين أنه عندما كان عمر الكون نحو مليار عام فإن تسعة من كل عشر ذرات من الهيدروجين الأصلي تدمرت ولم تنطلق أبدًا إلى المجرات.

 

ولكن متى وكيف بالضبط تدمرت تلك الذرات الأولى في الكون؟ لقد حيرت هذه الأسئلة الفلكيين لعقودٍ طويلة. نحن نقود تجربة جديدة يطلق عليها اسم مصفوفة حقبة عودة التأين للهيدروجين (هيرا) Hydrogen Epoch of Reionization Array او اختصاراً (HERA) والتي نأمل أن تساعدنا في إيجاد إجابة أو توضيح لما قد حدث.

الهيدروجين في كل مكان ومن ثم الفجر الكوني


مع تكوّن تلك الذرات الأولى من الهيدروجين -كل ذرة مكونة من إلكترون سالب الشحنة وبروتون موجب الشحنة- دخل الكون في حقبة يطلق عليها علماء الكونيات اسم العصور المظلمة Dark Ages، خلال تلك الفترة انتظر الكون بهدوء سحب الهيدروجين لتنصاع لتأثير الجاذبية وتنهار لتُكَوِّن النجوم والمجرات الأولى على الإطلاق، ويعتبر اشتعال النجوم الأولى محددًا لنهاية العصور المظلمة وبداية فجرنا الكوني، بعد مرور نحو مئة مليون عام منذ الانفجار العظيم، وبدأ كوننا لأول مرة يسطع بضوء مختلف عن الوهج التالي للانفجار العظيم.

الخط الزمني للكون
الخط الزمني للكون


قبل الوصول إلى الفجر الكوني كان الكون بأكمله ممتلئًا بالهيدروجين. على الرغم من أن ضوء النجوم مُكَوَن من فوتونات تحمل طاقة كافية لتقسيم ذرة الهيدروجين لتعيد بذلك تأيينها إلى بروتونات وإلكترونات. وبازدياد أعداد النجوم المُضاءة ازداد حجم ثقوب التأين المنحوتة في سحب الهيدروجين البدائية.


بدأت أجسام أخرى أكثر غرابة بالتشكل داخل المجرات. بمجرد أن تستنفد النجوم وقود الهيدروجين الخاص بها، فإنها ستتفجر إلى مستعرات عظمى supernovae. تركت بعض النجوم خلفها ثقوبًا سوداء التهمت النجوم القريبة منها مطلقةً موجات قوية من الأشعة السينية X-ray، وكانت هناك ثقوب سوداء هائلة في قلب المجرات تنمو وتكبر لتصبح ذات كتلة مساوية لكتلة ملايين من الشموس.

 

ضخت هذه الأحداث كميات كبيرة من الطاقة إلى سحب الهيدروجين المحيطة، التي عملت على تسخينها وتأيينها، ما أدّى إلى تدمير جميع الهيدروجين الموجود في الفضاء بين المجرات -كما نلاحظ اليوم- وأعادت تأيينها الى جسيماتها الأساسية وهي البروتونات والإلكترونات.

 رسم خرائط الهيدروجين


ما زال علماء الفلك يكافحون من أجل فهم جميع العمليات المعقدة التي أدت إلى تكوين النجوم والمجرات والتدمير العفوي لهيدروجين الكون الأولي. نجد باستمرار بواسطة التلسكوب البصري الأقوى لدينا مجرات بعيدة جدًا عنا انبعث ضوءُها عندما كان عمر الكون مليار عام فقط وها هو يصل إلينا للتو، وبالنسبة للنظرات الخاطفة التي نحصل عليها لهذه المجرات وهي في الأجزاء الأخيرة من مرحلة إعادة التأين هي أثناء احتراق البقايا الأخيرة للهيدروجين الموجود ما بين المجرات.

ولكن إذا حاولنا التعمق في البحث، فإن الهيدروجين جالب للحيرة، إذ يمتص كل الضوء الصادر من النجوم والذي نستعمله لرصد المجرات البعيدة، والذي يعمل كغطاء من الضباب مخفيًا الفوضى الواقعة خلفه. 


بداية أعمال الإنشاء لمصفوفة هيرا
بداية أعمال الإنشاء لمصفوفة هيرا


لحل هذه المشكلة قمت مع زملائي بتصميم نوع جديد من التلسكوب والذي يتكون من مصفوفة من الصحون الراديوية فبدلاً من أن تبحث عن المجرات البعيدة فإنها تقوم برسم خريطة للهيدروجين ما بين المجرات عن طريق عملية تسخينه وإعادة تأينه، وتجمع مصفوفة حقبة عودة التأيين للهيدروجين بين أحدث الأجهزة الخارقة وبناء لهوائي منخفض التكلفة بتصميم فريد من نوعه يمنحه الحساسية والدقة اللازمة لخلق ما ستكون أكبر الخرائط في الكون.

هيرا حساسة لنوع معين من الموجات الراديوية التي تنبعث عندما يتبدل الاستقطاب الجنوبي والشمالي للمجال المغناطيسي للبروتونات والإلكترونات داخل ذرة الهيدروجين، يشبه ذلك بالضبط ما يحدث عندما ينجذب لوحان من المغناطيس مصطفان بشكل معاكس لبعضهما محررين طاقةً خلال العملية، فإن تبدل الاستقطاب للإلكترون والبروتون سيؤدي إلى إطلاق الهيدروجين لمقدارٍ صغيرٍ من الطاقة أيضًا، ويصدر هذا التحول فائق الدقة موجات راديوية بطول موجي ذي خصائص مميزة يبلغ طوله 21 سنتيمترًا.


كنتيجة للتوسع المستمر للكون منذ الانفجار العظيم، فإن موجات راديوية ذات طول موجي يعادل 21 سم ناتجة عن الهيدروجين بين المجرات قد تمددت بمقادير مختلفة معتمدة على عمر الكون عند انبعاثها. على سبيل المثال، عندما كان عمر الكون سبعمئة وسبعين مليون عامًا، كانت الموجات أصغر بثمان مرات مما هي عليه اليوم، أي إن موجة راديوية ذات 21 سم منبعثة من الهيدروجين في هذا الوقت من تاريخ كوننا ستتمدد بمقدار ثمان مرات وهي في طريقها إلينا وبالتالي سوف تصلنا بطول موجي يبلغ 186 سم.

من ناحيةٍ أخرى، فإن الموجة الراديوية نفسها في حال انبعثت عندما كان عمر الكون 940 مليون عام فإنها ستتمدد بمقدار سبع مرات فقط وستظهر لنا بطول موجي يبلغ 147 سم. عن طريق حساب الطول الموجي للضوء الواصل إلينا فإننا سنستطيع معرفة زمن ومصدر انبعاثها.



 

تتنبأ برامج المحاكات الحاسوبية بالكيفية التي توهجت بها السحب الهيدروجينية فيما كانت تسخن وتتأين في المجرات المبكرة وبانبعاثات ذات طول موجي يبلغ 21 سم. 

عن طريق رسم خرائط للسماء عند أطوال موجية تتراوح بين 150 و350 سم، فإن هيرا ستتمكن من إنتاج سلسلة من الصور للمراحل المبكرة من حياة كوننا. سيكون بإمكاننا ملاحظة ضوء المجرات والنجوم الأولى خطوة بخطوة عندما يدمر السحب التي تكونت منها. كما نتوقع رؤية سحب كبيرة من الهيدروجين متوهجة بالانبعاثات ذات الطول الموجي 21 سم ونقاط دقيقة من التأين متناثرة فيها.

وبتركيزنا على أجزاء الكون الأقرب إلينا والتي انقضى عليها وقت أطول، يجب أن نلاحظ فجوات أكبر فأكبر من الانبعاثات 21 سم المفقودة، إلى أن تبتلع هذه الفجوات في النهاية كل شيء وتختفي الموجات ذات الطول الموجي 21 سم والدالة على وجود الهيدروجين.


 بناء نوعنا الجديد من المصفوفات


لقد كُرِّم فريق هيرا مؤخرًا بمبلغ مقداره 9.5 مليون دولار أميركي من المؤسسة الوطنية للعلوم، سنستعمل الأموال لإنشاء مصفوفات سداسية الشكل متكونة من 240 صحنًا راديويًا يبلغ قطره أربعة عشر مترًا في محمية كارو الراديوية في إفريقيا الجنوبية خلال السنوات الثلاث القادمة. ينحدر المتعاونون مع مشروعنا من ست عشرة مؤسسة من أنحاء العالم، وستقوم الخطة على العمل معًا بشكل متزامن للتصرف بالملاحظات والمشاهدات التي ستستعمل لإخراج النتائج الرائدة لهيرا.


عمليات الرصد التي تقدمها المنشأة الجديدة في السنين القليلة القادمة ستكون مستعدة لتحويل فهمنا للنجوم، والمجرات والثقوب السوداء الأولى ودورهم في تحريك عملية إعادة التأين في نهاية الفجر الكوني.

 

مشاهدات هيرا للهيدروجين الطبيعي ستوفر رؤى في الحقبة البناءة من كوننا. بالتأكيد فان الانبعاثات ذات الطول الموجي 21 سم في كوننا المبكر توفر الطريقة الوحيدة والمباشرة لفحص التفاعلات المعقدة للبنى المضيئة الأولى ومحيطها، ولمعرفة قصة الذرات الأولى في الكون تابع هيرا وهي تبدأ بالرصد خلال السنوات القليلة القادمة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المستعرات الفائقة (السوبرنوفا) (supernovae): 1. هي الموت الانفجاري لنجم فائق الكتلة، ويُنتج ذلك الحدث زيادة في اللمعان متبوعةً بتلاشي تدريجي. وعند وصول هذا النوع إلى ذروته، يستطيع أن يسطع على مجرة بأكملها. 2. قد تنتج السوبرنوفات عن انفجارات الأقزام البيضاء التي تُراكم مواد كافية وقادمة من نجم مرافق لتصل بذلك إلى حد تشاندراسيغار. يُعرف هذا النوع من السوبرنوفات بالنوع Ia. المصدر: ناسا
  • الانفجار العظيم (Big Bang): نموذج للكون مقبول بشكلٍ واسع، ويفترض هذا النموذج أن التوسع المرصود للكون بدأ منذ 13.7 مليار عام عندما كان الكون ساخن جداً وكثيف جداً. يقوم هذا النموذج وبشكلٍ ناجح بتفسير الخلفية الكونية الميكروية ونسبة الهيدروجين، والهليوم، والعناصر الخفيفة الأخرى، بالإضافة إلى توسع الكون.
  • المستعرات الفائقة (السوبرنوفا) (supernova): 1. هي الموت الانفجاري لنجم فائق الكتلة، ويُنتج ذلك الحدث زيادة في اللمعان متبوعةً بتلاشي تدريجي. وعند وصول هذا النوع إلى ذروته، يستطيع أن يسطع على مجرة بأكملها. 2. قد تنتج السوبرنوفات عن انفجارات الأقزام البيضاء التي تُراكم مواد كافية وقادمة من نجم مرافق لتصل بذلك إلى حد تشاندراسيغار. يُعرف هذا النوع من السوبرنوفات بالنوع Ia. المصدر: ناسا
  • الهيدروجين (hydrogen): أخف العناصر الكيميائية وأكثرها وفرةً. تتألف ذرة الهيدروجين من بروتون والكترون. يُؤلف الهيدروجين ما يصل إلى 75% من الكتلة الإجمالية للشمس، لكنه يُوجد على الأرض بنسبة ضئيلة جداً. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات