بناء كون داخل حاسوب

 محاكاة بوساطة مشروع EAGLE للنمذجة، تظهر كيف تساعد الثقوب السوداء في تشكيل المجرات.


حقوق الصورة: EAGLE


تساعد النمذجة الحاسوبية علماء الكون على حل لغز كيفية التطور التدريجي للكون!

يواجه علماء الفلك مشكلةً فريدة، فبينما يمكن للعلماء في معظم حقول المعرفة إجراء التجارب -كعلماء فيزياء الجسيمات الذين يبنون مصادمات جسيمات ضخمة لاختبار نظرياتهم في المواد دون الذرية (subatomic material)، وعلماء الأحياء الدقيقة الذين يسبرون بدقةٍ خواص الميكروبات على صفائح بتري- لا يمكن لعلماء الفلك إجراء التجارب على النجوم والكواكب، وحتى أكثر التلسكوبات تطوراً يمكنها أن تزودنا فقط بلقطاتٍ للكون وبعض التغيرات الطفيفة فيه خلال مدة حياتنا. 

وحتى الآن، ما زال هناك الكثير من التساؤلات، كالسؤال عن كيفية تكون مجرة درب التبانة (Milky Way) وماهية المادة المظلمة (dark matter) ودور الثقوب السوداء فائقة الكتلة (supermassive black holes) في مراكز المجرات، وفي محاولةٍ للتقدم تدريجياً نحو الإجابة عن هذه الأحاجي الغامضة، شرع العلماء بمشروعٍ طموح، ألا وهو بناء كونٍ افتراضي!

 تطوير الكون


أتت أولى الأدلة الرصدية عن الكون من خلفية الأشعة الميكروية الكونية، وهي التوهج اللاحق للانفجار العظيم (Big Bang)، ويحاول مختصو الحوسبة الفلكية نمذجة شروط هذا الوقت الذي كان عمر الكون فيه يقارب عدة آلاف من السنوات، ومن ثم يضيفون المكونات الأساسية وهي: المادة الباريونية (أي المادة العادية) التي تنشأ منها النجوم والكواكب، والمادة المظلمة التي تمكن البنى المجرية من النمو، والطاقة المظلمة (dark energy) وهي القوة الخفية الكامنة وراء التسارع الكوني.

وتُرمز هذه البيانات في محاكاةٍ ومعها معادلات تصف عمليات فيزيائية متنوعة، كانفجارات المستعرات الفائقة (Supernova) والثقوب السوداء. بعدها، يترقب علماء الكون تطور المحاكاة تدريجياً، حيث يتمدد الكون الافتراضي فيها، ويتكثف الغاز إلى بنى صغيرة ويشكل أخيراً النجوم والمجرات.

يقول الباحث جوب ساشي Joop Schaye من جامعة ليدين، وهو باحث رئيسي في مشروع EAGLE (تطور وتجمع المجرات وبيئاتها): "الشيء المثير أنك إن قمت بهذا، سيبدو الكون الذي تطور في الحاسوب شبيهاً للكون الحقيقي بشكلٍ لافتٍ للنظر"، ويضيف قائلاً: "تحصل على مجرات من جميع أنواع الحجوم والأشكال والتي تبدو شبيهةً جداً بالمجرات الحقيقية".

هذا وتعمل مجموعاتٌ عديدةٌ حول العالم على عمليات المحاكاة هذه، وفي عام 2014، قام كل من مشروع EAGLE ومشروع Illustris بقيادة عالم الفيزياء الفضائية النظرية مارك فوغيلسبيرغر Mark Vogelsberger من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، بخطواتٍ رائدةٍ نحو الأمام بوساطة أكوانهم الخلاقة الشبيهة بالواقع جداً. وكلا المحاكاتين ضخمتين وتغطيان مساحةً مكعبةً من الفضاء يقارب طول ضلعها الـ 300 مليون سنة ضوئية، كما تحتاجان لقدرةٍ حاسوبيةٍ هائلة، فعملية واحدة كاملة تتطلب من الحواسيب الفائقة (supercomputers) أن تعمل لأشهر لتنجزها.

يقول عالم الكون في جامعة دورهام والعضو في مشروع EAGLE ريتشارد بوير Richard Bower: "ما انتهينا من القيام به هو تشغيل عملية المحاكاة الكبيرة دفعة واحدة، لكننا نريد أن نفهم لماذا يسلك الكون كما سلك"، ويضيف قائلاً: "لذا، نشغل الكثير من عمليات المحاكاة الأخرى والتي غيرنا فيها بعض الأمور قليلاً".

وقد كشفت عمليات المحاكاة هذه مسبقاً بعض الخواص المثيرة للتطور التدريجي للمجرات، فمثلاً، اكتشف بوير وزملاؤه أن عدد وحجم المجرات يعتمد على توازنٍ دقيقٍ بين المستعرات الفائقة والثقوب السوداء، حيث وجدوا باستخدام محاكاتهم أن الكون بلا المستعرات الفائقة أنشأ مجراتٍ عددها أكبر بكثير، وهذا لأنه بدون انفجارات المستعرات الفائقة لما كانت العديد من المجرات الصغيرة تفجرت متفرقة. 

من ناحية أخرى، عندما أخذوا المستعرات الفائقة فقط في الحسبان، وجدوا بأنها جعلت كتلة المجرات تزداد بشكلٍ هائلٍ إلى عشرة أضعاف كتلة مجرة درب التبانة، وللتعامل مع حجم هذه المجرات، كان لابد لهم من تضمين الثقوب السوداء أيضاً. 


يشرح بوير قائلاً: "المستعرات الفائقة والثقوب السوداء كلاهما نوع من التنافس لاستهلاك المادة المتوفرة للمجرات"، ويضيف: "وحالما تأخذ المستعرات الفائقة بالخفوت، يستلم الثقب الأسود زمام الأمور، وهنا تكون نهاية تشكل النجوم وبداية تشكل ثقوب سوداء أكبر فأكبر".

كثافة المادة المظلمة على اليسار، وعلى اليمين كثافة التحولات إلى غاز. حقوق الصورة: Illustris
كثافة المادة المظلمة على اليسار، وعلى اليمين كثافة التحولات إلى غاز. حقوق الصورة: Illustris


 التقريب


هناك نوعين من المحاكاة في حقل الدراسة هذا، هما: عمليات المحاكاة الممثلة للحجم والتي تُنمذج أحجاماً ضخمةً من الكون القابل للرصد، وعمليات محاكاة التقريب ZOOM والتي تركز على مجراتٍ بمفردها أو عناقيد المجرات. 


وفي حين يجمع علماء الفلك المزيد والمزيد من اللقطات المفصلة للكون، يقوم علماء الكون مثل أندرو بونتزن Andrew Pontzen من كلية جامعة لندن، باستخدام عمليات محاكاة التقريب ليحاولوا استقصاء خواص المجرات كل بمفردها وبنفس مستوى الدقة.

يقول بونتزن: "نحاول الاستمرار بتقدمنا نحو فهم المجرات المفردة بتفصيلٍ كافٍ يمكّننا من مقارنتها بهذه البيانات الأكثر حداثةً فعلاً". ولفعل ذلك، قام بونتزن وزملاؤه بتطوير تقنيةٍ تدعى التعديل الجيني (genetic modification)، تتضمن إنشاء العديد من الصيغ المختلفة من المجرات، يقول بونتزن في ذلك: "أصبحت تقريباً كالتجربة"، ويضيف: "لديك السيطرة التامة على كيفية تكوّن جسمٍ معين، ومن ثم يمكنك القول إن كان يتشكل بهذه الطريقة المحددة، وبالتالي فالمجرة التي تنتج في النهاية تبدو بالشكل كذا".

فمثلاً، يمكنهم تغيير الطريقة التي تصل إليها كتلة المجرات عبر الزمن، ورؤية كيف يؤثر ذلك على المجرة التي ستنبثق. وبطريقةٍ مشابهة، يمكن لعلماء الكون الذين يعملون على عمليات محاكاة على نطاق أكبر من "التلاعب بالعقد"، بتبديل متغيراتٍ معينةٍ كقوانين الجاذبية أو خواص المادة المظلمة مثلاً، ورؤية كيف يبدو شكل الكون الذي ينبثق عن ذلك.

يقول فوغيلسبيرغر: "أعتقد أن المثير جداً، هو حصر خصائص المادة المظلمة والطاقة المظلمة من خلال عمليات المحاكاة هذه"، ويضيف: "لا نعلم ما هي، لكن بإضافة التعديلات النهائية للمتغيرات الثانوية لهذه النماذج، يمكننا أن نحاول حصر خواص المادة المظلمة والطاقة المظلمة بشكلٍ مفصلٍ أكثر".

هذا ويعمل العلماء بشكلٍ وثيقٍ مع الراصدين لمقارنة كيف تتوافق النمذجات مع ما هو موجود حقيقةً في الكون، يقول بونتز: "وهذا هو الجزء الجوهري، نريد أن نصبح قادرين على ربط جميع هذه الأشياء معاً".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.
  • الطاقة المظلمة (Dark Energy): هي نوع غير معروف من الطاقة، ويُعتقد بأنه المسؤول عن تسارع التوسع الكوني.
  • المستعرات الفائقة (السوبرنوفا) (supernova): 1. هي الموت الانفجاري لنجم فائق الكتلة، ويُنتج ذلك الحدث زيادة في اللمعان متبوعةً بتلاشي تدريجي. وعند وصول هذا النوع إلى ذروته، يستطيع أن يسطع على مجرة بأكملها. 2. قد تنتج السوبرنوفات عن انفجارات الأقزام البيضاء التي تُراكم مواد كافية وقادمة من نجم مرافق لتصل بذلك إلى حد تشاندراسيغار. يُعرف هذا النوع من السوبرنوفات بالنوع Ia. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات