أصل القمر وأسرار الرجل فوق القمر: الجزء الثاني

كنا قد تحدثنا في التفصيل في الجزء الأول  من هذه السلسلة عن مسألة أصل القمر والاقتراح الذي وضعه أسفوغ. وفي الحقيقة، حلل علماء الكواكب وفحصوا كل الأدلة المعقدة واستقروا على قصة تشكل جديدة للقمر، وهي نظرية الاصطدام الهائل (Giant Impact theory)، المستوحاة من بحثين رائدين من أبحاث عام 1975.

 

في هذا النموذج، نشأت الأرض بدون قمر. ثم بعد فترة وجيزة من تشكلها اصطدمت بعنف مع جرم بحجم المريخ، يشار إليه عادة باسم ثيا (Theia) وهي والدة إلهة القمر سيلين في الأساطير اليونانية. أدى الجحيم الذي أنتجه هذا الاصطدام إلى تبخير ثيا إضافة إلى جزء لا بأس به من طبقات الأرض الخارجية. ونتيجة لذلك انفجر قسم من المادة، ولكن القسم الأكبر منها استقر مشكلاً قرصاً حول الأرض. في غضون فترة قصيرة جدا من الزمن -ربما عقد من الزمان- تكاثف القرص ليشكل القمر.

تُفسر نظرية الاصطدام الهائل بسهولة الطيف الواسع من الصفات الكيميائية والحركية لنظام الأرض والقمر. وعلى الرغم من الشكوك العالقة، فهي تُعتبر عالميا أفضل تفسير لسبب وجود القمر أصلاً. لكن ما لا يفعله هذا التفسير هو الإجابة على السؤال الجوهري الكبير الذي يفرض نفسه أمامنا ألا وهو لماذا إذاً يبدو القمر هكذا؟

إنها ليست مجرد قضية تغير في المعالم، فهذه المعالم على سطح القمر والتي تشكل ما يشبه وجه رجل في القمر هي عبارة عن سهول داكنة واسعة الامتداد من الحمم البركانية المتجمدة، والمعروفة باسم ماريا (maria). لسبب ما، فإن أغلب تلك السهول تقريباً (ماريا) موجودة على الجانب القريب للقمر.

 

وبشكل أكثر عمومية، كان القمر في وقت مبكر بعد تشكله ذو نشاط بركاني أكبر في نصف الكرة القريب أو المواجه للأرض. قاست مهمة غريل Grail قشرة القمر وأكدت أنها أكثر سماكة على الوجه البعيد، وغريل هي مهمة تابعة لناسا تدور حول القمر واسم غريل هو اختصار لمهمة (gravity recovery and interior laboratory) أي استعادة الجاذبية والمختبر الداخلي.

كما اكتشفت مركبة غريل الفضائية أيضاً أن الجانب القريب (الجانب القريب فقط) لديه شبكة من معالم خطية طويلة ومدفونة، التي فسرها علماء جيولوجيا الكواكب على أنها خنادق بركانية. تبدو الإجابة واضحة، وتقول هذه الإجابة أن جاذبية الأرض هي المسؤولة عن كل هذا الاختلاف، ولكن ليس هناك طريقة معقولة فيزيائيا لحصول هذا التأثير.

يقول أسفوغ: "استمر الناس في محاولة تفسير التباين والاختلاف بين وجهي القمر لفترة طويلة. هناك الكثير من الأفكار التي توضع وتتقدم على غيرها ويتم تناقلها كثيراً لكنها غالباً لا تبلي بلاء حسناً للغاية في تفسير الاختلاف". 

ففي كثير من الأحيان، تغيب قضية الهوية المزدوجة للقمر فلا تتناولها تلك الأفكار. 

في الخريف الماضي، شارك ديفيد ستيفنسون David Stevenson من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في استضافة مؤتمر كبير حول تشكل القمر، الذي عقد في الجمعية الملكية البريطانية. ضحك ستيفنسون على طريقة كثير من زملائه في تناول المسألة وتجاهلهم لقضية هوية القمر المزدوجة فقال: "هناك هذا الفيل في الغرفة، ولكن الناس نوعاً ما يتجاهلونه ويبدون اهتماماً أكبر بذلك القط في الزاوية."

يمثل نموذج أسفوغ -من نواح كثيرة- امتداداً عضوياً للأفكار السائدة حول حقيقة تشكل القمر، في الحقيقة يمتد نموذجه ليشمل أيضاً كيفية تشكل الكواكب. بدأ النظام الشمسي حديث الولادة بالتشكل تدريجياً من الغبار ثم الصخور إلى الكويكبات انتهاء بالكواكب، وكل ذلك ضمن قرص يحوم حول الشمس حديثة الولادة، وابتدأ ذلك قبل فترة تزيد قليلاً عن 4.5 مليار سنة.

 

بُنيت تلك القصة جيداً ورسخها كم هائل من الأدلة، بدءاً من تحليل النيازك إلى رصد أقراص مشابهة تدور حول نجوم أخرى حديثة التشكل. يشير أسفوغ إلى أنه عندما أخذت الكواكب تتشكل معا، أدى ذلك بتلك الأجرام الآخذة بالتضخم أن تصطدم ببعضها البعض. وكان بعض من تلك الحوادث لطيفاً كفاية ليسبب التصاق الجرمين المتصادمين ببعضهما ليشكلا جرماً جديداً أكبر. وإلا لتوقفت الكواكب عن الازدياد حجماً ولكان نظامنا الشمسي سرباً من الأنقاض.


قضى أسفوغ مهنته في استكشاف حيثيات عملية الاصطدام، أولا في سانتا كروز، ومن ثم في منزله الحالي منذ عام 2012 في جامعة ولاية أريزونا. ساهم أسفوغ على مر السنين، وبشكل كبير في تعميم نموذج الاصطدام الهائل، مما ساعد على صقل النموذج السائد من ثيا باعتباره دخيلا بحجم كوكب المريخ.

 

يقول أسفوغ في سياق هذه العملية: "استيقظت على حقيقة أن التراكم معقد وغير مثالي." أصبح أسفوغ مهتماً في ما يسميه أحداث "التراكم التقريبي" وهي أحداث يصطدم فيها كوكبان اصطداماً غير كامل. وأصبح يعتبر الاصطدام الهائل كحالة واحدة فقط في مجموعة أكبر من المواجهات المحتملة، بدءاً من عمليات الاندماج العنيفة إلى حوادث اصطدام بدون اندماج أو التصاق والتي ينجو فيها كلا الكوكبان تقريباً بدون أي أذى.

وُيردف أسفوغ قائلاً: "كانت أكبر تجربة تعلمت فيها في المدرسة الثانوية عندما أدركت كم هو قليل ما عليك فعله قبل أن تصل إلى حدود المعرفة في علم الكواكب. فهذا العلم ليس مثل الفيزياء حيث هناك 400 سنة من العلم عليك أن تستكشفها وتبحر فيها قبل أن تتمكن من العثور على معضلة جديدة وغير محلولة، أما في علم الكواكب، فهناك الكثير من الأسئلة الأساسية بدون إجابات جيدة. فتقول في نفسك هل هذا ماتعتقدون؟ حقاً؟ حسنا، أنا لدي فكرة، أيضاً."

جعل حضور الحلقات التدريسية من أسفوغ يفكر فيما حدث مباشرة بعد الاصطدام الهائل. يفترض علماء الكواكب عادة نشوء قمر واحد بعد حادثة تشكل الكون، ولكن ذلك لم يكن الاحتمال الوحيد. تماشت فكرة أسفوغ -التي تنص على وجود قمرين- تماماً مع نماذجه الحاسوبية للمذنبات. ويتابع قائلاً :"كان في ذهننا الاصطدام اللطيف. وكان ذلك من قبيل المصادفة".

وكان ماتيجا كوك Matija Cuk في جامعة هارفارد قد خمنت بالفعل من أين يمكن أن يكون القمر الثاني قد أتى، وملأ بذلك الجزء الثاني من الفرضية. يشير كوك إلى الأمر قائلا: "عندما خلق الاصطدام الهائل حلقة ضخمة من الصخور المتبخرة التي تدور حول الأرض، كانت هناك نقطتان ثابتتان إحداهما أمام القمر بزاوية 60 درجة والأخرى وراء القمر بزاوية 60 درجة على المدار ذاته. تشبه هاتان النقطتان قطبي مد وجزر جاذبيين، وهي أماكن هادئة يمكن أن يكون قد نشأ فيها جسم ثان أصغر. لم يمنح كوك القمر المرافق اسماً، ولكن بغية الوضوح، سأطلق عليه اسم اندميون Endymion تيمناً بعاشق سيلين في الأساطير اليونانية.

يُمكنكم متابعة القراءة عن اندميون في الجزء الثالث من هذه السلسلة عن أصل القمر، وألغازه.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات