بأسلوبي الخاص أمتلك السلطة على المكان، يمكنني اختيار المكان الذي أريد أن أكون فيه، البقاء في السرير في لندن، أو الصعود على متن طائرة في رحلة عبر الكوكب لرؤية عائلتي في أستراليا. الفضاء ثلاثي الأبعاد الذي نعيش فيه بإمكاني التحرك عبره واستكشافه بإرادتي، ضمن قيود التنقّل والتكنولوجيا وحسابي المصرفي.
أما الزمن فلا أملك أدنى سلطة عليه، إذ لا يمكنني اختيار الزمن الذي أريد أن أكون فيه، مهما كنت أتوق إلى الماضي أو أتطلع نحو المستقبل، بإمكاني أن أكون الآن في الوقت الحاضر فقط. ليس لدي القدرة على جعل الوقت يمر بشكل أسرع أو أبطأ، أو إيقافه كلياً، مهما كنت أرغب بذلك عندما أكون جالساً في الكرسي عند طبيب الأسنان أو أستمتع بوقت جميل تحت أشعة الشمس في الظهيرة. الوقت يتحرك إلى الأمام لا محالة، ولا يبدو أنّ هناك أي مقدار من النقود أو التكنولوجيا قادر على تغيير ذلك.
هذا دليل مقنع جداً من التجربة البشرية. ولكن ألبرت آينشتاين غيّر في نظريتيه النسبية العامة والخاصة في القرن العشرين من كيفية نظر العلم للزمان والمكان، صانعاً ثورة في فهم الكون.
الزمن أمر نسبي
تدق الساعة على متن قمر صناعي يدور في مداره حول الأرض بشكل أسرع من أخرى على سطح الأرض. وفكرة آينشتاين الأكثر ثورية كانت أنّ الزمان والمكان ليسا بكيانين مستقلين ومنفصلين. إنهما ببساطة التسميات التي نمنحها للأبعاد الأربعة للزمكان الذي هو نسيج كوننا.
إنّ الجاذبية التي تسببها الأجسام الهائلة التي تلف نسيج الزمكان، لا تؤثر فقط على حركة جسم عبر المكان وإنما على الأجسام التي تعبر الزمان أيضاً. وعند المقاييس الكونية، فإنّ هناك سلطة تمارس على الزمن.
اللبنة الكونية
عندما وحّد آينشتاين المكان والزمان في نظرية النسبية العامة عام 1915، أعطانا طريقة جديدة لتخيل كوننا. تقول مارينا كورتيز Marina Cortês عالمة كونيات من المرصد الملكي Royal Observatory في إدنبرة: "تخيل قطعة عادية من الأسمنت، إنها تمتلك ثلاثة أبعاد بينما نعيش نحن في أربعة: الأبعاد المكانية الثلاثة بالإضافة لبعد زمني واحد. اللبنة الكونية block universe مكونة من أربعة أبعاد، ولكن بدلاً من الأسمنت فهي مصنوعة من الزمكان. وكل الزمان والمكان في الكون محصور في هذه اللبنة".
لا يمكننا رؤية هذه اللبنة، لسنا منتبهين لها بينما نعيش في أسمنت الزمكان. ونحن لا نعلم مدى ضخامة هذا الكون الذي نعيش فيه. وتتابع كورتيز: "لا نعلم ما إذا كان المكان لا نهائياً أم لا. كما لا نعلم إذا كان للزمن بداية أو سيكون له نهاية في المستقبل. لذلك لا نعلم إن كانت اللبنة الكونية قطعة منتهية من الزمكان أم غير منتهية".
بُعد آخَر
لفهم لبنة الكون هذه علينا أن نتخيل أننا خطونا خارجاً إلى بعد آخر، من أجل أن نتخيل لبنة الزمكان ككل أمامنا. قد يبدو هذا كالخيال العلمي، ولكنه قد لا يكون كذلك على الإطلاق، فقد لا نكون مدركين لوجود أبعاد إضافية.
تقول كورتيز: "تخيلوا أنّ النمل يعيش على سطح، لا يمكن للنملات المسكينة أن تصعد لأعلى، فلطالما عاشت على هذا السطح. لذلك لا يمكنها التخيل أنّ هناك شيئاً مثل الارتفاع. ولكن، لربما أنّ إحداها تمكنت من بناء برج ما بمحض المصادفة أو بالتصميم، فجأة سيكون هذا البعد الثالث غير المعروف سابقاً مفتوحاً أمامهم ليستكشفوه".
وتضيف:" الأمر مشابه بالنسبة لنا. نحن نفكر عادة في علم الكونيات بنظريات مع بعد خامس -بعد مكاني إضافي. يمكننا أن نتخيل إجراء تجربة تستكشف إمكانية تسرب الطاقة إلى البعد المكاني الإضافي".
إنّ ما تقترحه كورتيز هو أن نتخيل فتاة صغيرة، أليشا، التي تريد رؤية لبنة الزمكان. ستخطو خارج الكون رباعي الأبعاد، وتتجه إلى بعد إضافي ومن ثم ستلقي نظرة على لبنة الكون. ولكن، إن خطت أليشا خارج لبنة الزمكان، فما هو الوقت عند أليشا؟ نتيجة لتوحيد آينشتاين للزمان والمكان فليس هناك أبعاد مفضلة، ليس هناك شيء مميز بشأن الوقت. مثلما يوجد كل المكان داخل اللبنة، كذلك الأمر بالنسبة لكل الزمان.
تقول كورتيز: "لا تكمن أهمية هذا في وجود بعد إضافي، الأمر السيء هو أنّ الزمن مقتصر على الكتلة رباعية الأبعاد". لذلك تعيش أليشا في فضاء خالٍ من الزمن، وعندما تنظر إلى لبنة الكون فسوف ترى ماضينا ومستقبلنا في آن معاً.
وتضيف: "يمكننا التخيل أنها تنظر إلينا الآن، إليّ أنا أتحدث إليكم عبر سكايب، وإذا قامت بالنظر إلى الخلف قليلاً سوف ترانا قبل بضعة أسابيع ونحن نتبادل الرسائل الالكترونية ونحضر لمكالمة السكايب هذه. وبإمكانها النظر قليلاً إلى الخلف بعد ولنقل أنها سترى الديناصورات تحكم الأرض! إنها ترى كل شيء في الوقت نفسه".
يمكن لأليشا أن ترى مستقبلنا كاملاً أيضاً. قد يبدو هذا الأمر مفاجئاً لكنه نتيجة مباشرة لكون النسبية العامة نظرية حتمية deterministic theory. افترض أنك أخذت شريحة من لبنة الزمكان الإسمنتية، متوافقة مع زمن يقارب السادسة مساءً في لندن يوم 14 نيسان/أبريل 2016.
تقول كورتيز:" تقول النسبية العامة أنه لو كنت أعرف ظروف تلك اللحظة، فيمكنني التنبؤ بالمستقبل كاملا لأنّ قوانين الفيزياء حتمية أي القوانين التي تحكم هذه الكتلة الزمكانية. المستقبل مكتوب كلياً، نحن فقط لا يمكننا الوصول إليه -داخل الكتلة- عند هذه المرحلة أو النقطة".
الزمن وهم
إذاً في حال كان الماضي والمستقبل قد تم ترميزهما بالفعل داخل اللبنة الكونية الي نقطنها، فكيف يعتبر ذلك مسؤولاً عن تجربة الحياة البشرية خاصتنا، ولحركتنا الحتمية عبر الزمان؟
من منظور كتلة الزمان هذه، فإنّ الزمن الذي نختبره من اللبنة الكونية هو وهم.
توضح كورتيز: "الزمن ليس سمة أساسية وحقيقية للطبيعة". دقات الساعة وشعورنا بمرور الزمن، هذا فقط لأننا عالقون داخل اللبنة الكونية، متجهون إلى الأمام على طول البعد الزمني. وتضيف: "حقيقةُ أننا نعاني من المضي قدماً داخل الكتلة وليس خارجها تأتي من حقيقة أنّ صورة الكتلة تعامل الوقت كبعد مكاني آخر، ويمكننا أن نخطو خارجه، الزمن ليس واسع الانتشار".
هذا يؤدي إلى أسئلة أساسية يعالجها علماء الكون اليوم في نظرياتهم التي تصف طبيعة كوننا. إذا كان كوننا تماماً مثل اللبنة الكونية فسيكون كل شيء -الماضي والمستقبل- قد حدث بالفعل وتجربتنا للزمن هي مجرد حقيقة رياضية تظهر من المعادلات التي تصف الكون.
لكن لماذا نختبر فقط المضي قدماً في الزمن، لماذا لا يتدفق الزمن إلى الوراء؟ ماذا يخبرنا هذا عن الإرادة الحرة؟ أم أنّ هناك نظرية أخرى لتصف الكون وتعيد لنا بديهية اليقين أنّ هناك شيئا مميزا بشأن الزمن؟