تعتبر المادة المضادة (Antimatter) مادةً خامًا للخيال العلمي. ففي كتاب وفيلم ملائكة وشياطين يحاول البروفسور لانغدون Langdon حماية مدينة الفاتيكان من قنبلة المادة المضادة. وفي مركبة "ستار تريك" فإن المركبة تستخدم الدفع الناتج عن إفناء المادة والمادة المضادة لبعضهما من أجل السفر بسرعة أكبر من سرعة الضوء.
لكن المادة المضادة مادة حقيقية أيضًا. فجسيمات المادة المضادة مطابقة تمامًا لنظائرها من المادة باستثناء أنها تحمل شحنة ولفًا ذاتيًا "سبين" (spin) معاكسين. وعندما تقابل المادة المادةَ الضادة فإنهما تفنيان مباشرةً وتتحولان إلى طاقة.
وفي الوقت الذي لا تزال فيه كلٌ من القنابل المضادة وسفن الفضاء التي تعمل بطاقة المادة المضادة بعيدة المنال، إلا أنه يوجد الكثير من الحقائق المثيرة المتعلقة بالمادة المضادة والتي تحثك على التفكير.
- وَجب أن تكون المادة المضادة أفنت كل المادة الموجودة في الكون بعد الانفجار العظيم (big bang)
وفقًا للنظرية يجب أن يخلق الانفجار العظيم كميات متساوية من المادة والمادة المضادة. وعندما تتقابل المادة والمادة المضادة فإنهما يفنيان بعضهما تاركتين خلفهما الطاقة فقط. ولذلك من حيث المبدأ، ما كان ليوجد أيٌ منا.
لكننا موجودون! وأكثر ما يستطيع الفيزيائيون إعلامنا به هو أن السبب يكمن في وجود جسيم مادة إضافي في مقابل كل مليار زوج مادة-مادة مضادة. ويواصل الفيزيائيون العمل بجد محاولين تفسير هذا التباين.
- المادة المضادة هي أقرب إليك مما تظن
تهطل كميات صغيرة من المادة المضادة باستمرار على الأرض قادمة من الأشعة الكونية (cosmic rays) المكونة من جسيمات الفضاء عالية الطاقة. تصل هذه الجسيمات من المادة المضادة لغلافنا الجوي بمعدل يتراوح بين أقل من واحد إلى أكثر من 100 جسيم لكل متر مربع. وقد شهد العلماء أيضًا أدلة على وجود المادة المضادة فوق العواصف الرعدية (thunderstorms).
لكن توجد مصادر أخرى للمادة المضادة وهي أقرب كثيرًا إلينا. على سبيل المثال: يُنتج الموز المادة المضادة، ويطلق بوزيترونا (positron) واحدًا –المادة المضادة المكافئة للإلكترون- كل 75 دقيقة تقريبًا. يحدث هذا لأن الموز يحتوي كمية قليلة من البوتاسيوم 40 -أحد النظائر الطبيعية للبوتاسيوم. وأثناء تفككه، يُطلق البوتاسيوم 40 أحيانًا بوزيترونا نحو الخارج.
تحتوي أجسامنا أيضًا على البوتاسيوم 40، مما يعني انطلاق البوزيترونات منك أيضًا. وبسبب فناء المادة المضادة مباشرة عند التقائها بالمادة، فإن جسيماتها ذات عمر قصير جدًا.
- تمكن البشر من صنع كمية صغيرة من المادة المضادة
فناء المادة-المادة المضادة لديه القدرة على إطلاق كمية كبيرة من الطاقة. حيث يستطيع غرام واحد من المادة المضادة أن يؤدي إلى انفجار بحجم قنبلة نووية، وعلى أي حال لم يُنتج البشر إلا كمية ضئيلة من المادة المضادة، إذ يبلغ إجمالي البروتونات المضادة (antiprotons) المصنوعة في مسرّع الجسيمات "تيفاترون" الموجود في مختبر فيرمي 15 نانوغرام فقط، أما إجمالي ما صُنع في سيرن فلا يتجاوز حوالي 1 نانوغرام، ويصل ما تم إنتاجه من البوزيترونات إلى 2 نانوغرام تقريبًا في مسرع ديسي (DESY) في ألمانيا.
لقد دُمرت جميع المادة المضادة التي صنعها الإنسان بشكلٍ آني، وما نتج عن ذلك من طاقة لن يكفي حتى لغلي فنجان شاي. تكمن المشكلة في كفاءة وتكلفة إنتاج المادة المضادة وتخزينها. فإنتاج1 غرام من المادة المضادة قد يتطلب تقريبًا 25 مليون مليار كيلو واط ساعي من الطاقة، وتكاليف تتجاوز مليون مليار دولار.
- هناك شيء يشبه مصيدة المادة المضادة
لدراسة المادة المضادة عليك منع فنائها عند التقائها بالمادة، وقد صنع العلماء طرقًا لفعل ذلك. يُمكن الاحتفاظ بجسيمات المادة المضادة المشحونة مثل البوزيترونات والبروتونات المضادة باستخدام أدوات تُعرف بمصائد بينينغ (Penning traps). وهي بمثابة مسرعات صغيرة. ففي الداخل، تدور الجسيمات حول مجالات كهربائية ومغناطيسية تمنع من الاصطدام بجدران المصيدة.
لكن هذه المصائد لا تعمل مع الجسيمات الحيادية (neutral particles) مثل الهيدروجين المضاد (antihydrogen) لأنها لا تملك شحنة، فهذه الجسيمات لا يمكن حصرها داخل مجال كهربائي. وعوضًا عن ذلك، يتم أسرها بواسطة المصائد الثابتة للمجال المغناطيس غير المتلاشي (Ioffe traps) التي تعمل عبر صنع منطقة في الفضاء يكون فيها المجال المغناطيسي أكبر مما هو عليه في باقي الاتجاهات، وبالتالي يعلق الجسيم في المنطقة ذات المجال المغناطيسي الأضعف بشكلٍ مشابه لدوران كرة زجاجية في قاع وعاء.
بإمكان المجال المغناطيسي الأرضي أن يلعب دور مصيدة مادة مضادة، فقد تم اكتشاف وجود البروتونات المضادة في مناطق موجودة حول الأرض تُعرف بأحزمة فان آلن الإشعاعية (Van Allen radiation belts).
- قد تسقط المادة المضادة من الأعلى
تمتلك جسيمات المادة والمادة المضادة نفس الكتلة لكنهما تختلفان في الخصائص مثل: الشحنة الكهربائية واللف الذاتي. يتنبأ النموذج القياسي (Standard Model) بأن للجاذبية تأثيرًا مشابهًا على كل من المادة والمادة المضادة. ومع ذلك لم يتم رؤية ذلك بعد، وتحاول اليوم تجارب مثل AEGIS، وALPHA، وGBAR العمل بجد لمعرفة ذلك.
رصد تأثير الجاذبية على المادة المضادة ليس بالأمر السهل كبساطة رؤية تفاحة تسقط من شجرة، فهذه التجارب تحتاج إلى احتجاز المادة المضادة في مصيدة، أو إبطائها عبر تبريدها إلى درجات حرارة قريبة جدًا من الصفر المطلق. وبما أن الجاذبية هي أضعف القوى الأربع الأساسية، يجب أن يستخدم الفيزيائيون جسيمات مادة مضادة حيادية في تلك التجارب لمنع التداخل الناجم عن القوة الكهربائية الأقوى بكثير.
- تجري دراسة المادة المضادة في مبطّئ الجسيمات
في الواقع سمعت عن مسرعات الجسيمات، لكن هل تعلم بوجود مبطئات الجسيمات (decelerators) أيضاً؟ تضم منظمة الأبحاث النووية الأوروبية "سيرن" آلة تُعرف بمبطّئ البروتون المضاد (Antiproton Decelerator)، وهي عبارة عن حلقة تخزين يُمكنها أسر وإبطاء البروتونات المضادة بهدف دراسة خواصها وسلوكها.
في مسرعات الجسيمات الدائرية مثل مصادم الهادرونات الكبير (LHC)، تحصل الجسيمات على دفعة من الطاقة في كل مرة تُنجز فيها دورة كاملة. تعمل المبطئات عكس ذلك تمامًا، فبدلًا من زيادة الطاقة تُدفع الجسيمات للوراء بقصد إبطاء سرعتها.
- النيوترينات قد تكون الجسيمات المضادة لنفسها
يحمل كلٌ من جسيم المادة ونظيره من المادة المضادة شحنات مختلفة، مما يجعلها سهلة التمييز. النيوترينات (neutrinos) هي جسيمات عديمة الكتلة تقريبًا ونادرًا ما تتفاعل مع المادة، وليس لديها شحنة. يعتقد العلماء أنها ربما تكون ما يُعرف بجسيمات ماجورانا (Majorana particles)- صنف من الجسيمات الافتراضية التي تُمثل الجسيمات المضادة لنفسها.
تهدف مشاريع مثل الباحث عن الماجورانا (Majorana Demonstrator) وEXO-200 إلى تحديد فيما إذا كانت النيوترينات جسيمات ماجورانا، ويجري ذلك عبر رصد سلوك يُعرف بتفكك بيتا المضاعف عديم النيوترينو (neutrinoless double-beta decay).
تتفكك بعض الأنوية المشعة بشكل متزامن مطلقة اثنين من الإلكترونات واثنين من النيوترينات. وإذا كانت النيوترينات هي الجسيمات المضادة لنفسها، فستفني بعضها بعضًا في أعقاب التفكك المضاعف، وسيرصد العلماء الإلكترونات فقط.
قد يساعد اكتشاف نيوترينات الماجورانا في تفسير لا تناظر المادة-المادة المضادة. افترض علماء الفيزياء أن نيوترينات الماجورانا قد تكون ثقيلة، أو خفيفة. وتلك الخفيفة موجودة اليوم، أما الثقيلة منها فلا بدّ وأنه وُجد فقط مباشرةً بعد الانفجار العظيم، ولا بدّ أن نيوترينات الماجورانا الثقيلة هذه تفككت بشكلٍ لا متناظر، مما قاد إلى زيادة قليلة في كمية المادة وسمح بالتالي لكوننا بالوجود.
- تستخدم المادة المضادة في الطب
تُستخدم البوزيترونات في التصوير المقطعي البوزيتروني (positron emission tomography)، أو اختصارًا PET، لإنتاج صور عالية الدقة للجسم، حيث يتم ربط النظائر النشطة إشعاعيًا والمصدرة للبوزيترونات (كتلك التي وجدت في الموز) مع المواد الكيميائية مثل الغلوكوز التي يستخدمها الجسم بشكل طبيعي. بعد ذلك تُحقن هذه المواد في مجرى الدم حيث يجري تحطيمها هناك بشكل طبيعي مطلقةً البوزيترونات التي تلتقي الإلكترونات الموجودة في الجسم وتفنيان بعضهما، وينتج عن عملية الإفناء هذه أشعة غاما تُستعمل في إنشاء الصور.
درس العلماء في مشروع (ACE) التابع لسيرن المادة المضادة كمرشح محتمل لعلاج السرطان، وقد اكتشف الفيزيائيون اليوم أنه من الممكن استخدامها في استهداف الأورام عبر استعمال حزم من الجسيمات التي ستطلق طاقتها فقط بعد المرور الآمن للأنسجة السلمية.
يضيف استخدام البروتونات المضادة في العملية انفجارًا إضافيًا من الطاقة، وقد وُجدَ أنّ هذه التقنية كانت فعالة في خلايا الهامستر، لكن يتبقى أمام الباحثين الآن إجراء الدراسات على الخلايا البشرية.
- ربما لا تزال المادة المضادة، التي كان ينبغي أن تمنع وجودنا، كامنة في الفضاء
تتمثل إحدى الطرق التي يحاول العلماء من خلالها حل مسألة لا تناظر المادة - المادة المضادة في البحث عن المادة المضادة التي خلّفها الانفجار العظيم.
يوجد كاشف الجسيمات مطياف ألفا المغناطيسي (Alpha Magnetic Spectrometer) في محطة الفضاء الدولية ويهدف إلى البحث عن هذه الجسيمات. يحتوي هذا المطياف مجالات مغناطيسية تحني مسار الجسيمات الكونية لفصل المادة عن المادة المضادة، وتعمل كواشفه على تقييم الجسيمات وتحديدها أثناء مرورها داخله.
تُنتج تصادمات الأشعة الكونية عادةً البوزيترونات والبوزيترونات المضادة، لكن احتمالية إنتاج ذرة الهليوم المضادة (antihelium) ضئيلة للغاية بسبب الحاجة إلى كمية هائلة من الطاقة. وذلك يعني أنّ مجرد رصدنا لنواة هليوم مضادة وحيدة سيُشكل دليلًا قويًا على وجود كمية كبيرة من المادة المضادة في مكانٍ ما من الكون. - يدرس الناس حاليًا كيفية تزويد المركبات الفضائية بوقود المادة المضادة
يُمكن لكمية صغيرة من المادة المضادة أن تنتج مقدارًا هائلًا من الطاقة، مما يجعلها الوقود الأكثر شعبية لسيارات المستقبل في الخيال العلمي.
الدفع الصاروخي المبني على المادة المضادة ممكن نظريًا، والمانع الرئيسي الذي يحول دون الوصول إليه هو جمع ما يكفي من المادة المضادة لصنعه.
من غير المتاح اليوم أي تقنية لإنتاج كميات كبيرة من المادة المضادة، ولا وجود أيضًا لتقنيات تجميع لها. ورغم ذلك أجرى عدد قليل من الباحثين عمليات نمذجة تدرس دفع وتخزين المادة المضادة. وتشمل الدراسات كلًا من رونان كين Ronan Keane، ووي-مينغ تشانغ Wei-Ming Zhang اللذين أنجزا عملهما في أكاديمية "ويسترن ريسيرف" وجامعة ولاية كينت على التوالي، إضافة إلى مارك ويبر Marc Weber وزملائه في جامعة ولاية واشنطن.
ربما يومًا ما، إذا استطعنا صنع أو جمع كميات كبيرة من المادة المضادة، فإنّ دراساتهم ستساعد في جعل السفر بين-النجمي المغذى بالمادة المضادة واقعًا.