صورة التقطها تلسكوب هابل الفضائي لعنقودين مليئين بالنجوم فائقة الكتلة، التي قد تكون في مرحلة الولادة. (Image courtesy NASA, ESA and E. Sabbi (ESA/STSc
إذا أردت أن ينفجر دماغك، فإن علم الكون سيكون مجالاً جيداً للقيام بذلك. هناك حديثٌ عن أكوانٍ أخرى، وأبعاد إضافية، وحتى عن عقولٍ غير متجسدة تهتز بشكلٍ عشوائي لتظهر إلى حيز الوجود، وكل ذلك باسم العلم. لكن هل هذا علمٌ حقاً؟
الكثير من الأشياء التي يتحدث عنها علماء الكون لا يُمكن اختبارها في التجارب، وربما لن يحدث ذلك أبداً. إذاً، هل يجب الاستغناء عن قسم من علم الكون واعتبار ذلك القسم مجرد تخمين؟
وفقاً لعالم الرياضيات والفلك برنارد كار (Bernard Carr): نعم، ربما بالإمكان اعتباره كتخمين، لكن ألن يقود ذلك بالضرورة إلى الاستبعاد. ويتابع: "عندما تصل إلى أقاصي حدود الفيزياء، تظهر وبشكلٍ واضح وأنت تُصارع مفاهيم جديدة جداً، ومعظم علماء الفيزياء غير معتادين عليها". ويُضيف: "قد يأخذك ذلك إلى ما وراء مفهوم العلم الذي نُطبقه عادةً".
علّمنا التاريخ في العديد من المناسبات أن النظريات التي ظهرت يوماً على أنها تخمينيّة (مثل كون الأرض كروية)، تحولت في النهاية إلى حقيقة راسخة، ويُضيف كار: "مفاهيم العالم والقوانين التي تحكمها، وفي الواقع حتى طبيعة العلم نفسها تغيرت منهجياً. في كل مرحلة، كان هناك معارضة، وقال الناس: هذا ليس علماً مناسباً، إنه مجرد تخمين غيبي. في ذلك الوقت، ربما ظهرت وجهة نظرهم منطقية لأنه لم يبدو لهم أن الشخص قد طرح أفكاراً يُمكن اختبارها. مع ذلك، أرانا التاريخ أنه إذا انتظرت لفترة أطول بقليل، فإن تطور التلسكوبات أو الأفكار الخيالية سمح لنا باستيعاب هذا الجزء الموسع من الظواهر".
ذلك صحيح دون أدنى شك، لكن لدى علم الكون مشكلة خاصة. تسبق التجارب العلوم الأخرى، فأنت ترصد شيئاً ما -لنقل تفاعل كيميائي- وتأتي بعدها بنظرية لشرح ما شاهدته، وبعد ذلك ترصد العديد من التفاعلات الأخرى لمعرفة فيما إذا كانت نظريتك مناسبة.
عندما تقوم بممارسة علم الفلك، لا تستطيع القيام بذلك، لكن هناك على الأقل ملايين وملايين النجوم والمجرات الموجودة في مراحلٍ مختلفة من تطورها، وترصدها لتُجري تجربة تشمل كافة أنواع الظواهر التي تُريد دراستها.
بالتالي، أصبح علم الفلك جزءاً مقبولاً في العلوم. لكن حالما تتحدث عن ظواهر تقع عند حدود ما يُمكنك رؤيته -زمانياً ومكانياً- تُصبح في حالة غريبة جداً، فأنت لم يعد بإمكانك اختبار الأشياء.
أحد الأفكار التي تُلخص هذه المسألة هي فكرة الكون المتعدد (multiverse). تنص هذه الفكرة على أننا كونٌ واحد موجود داخل فقاعة مليئة بأكوانٍ أخرى. يتمتع كلٌ من تلك الأكوان بقوانينه الطبيعية الخاصة، فبعضها قد يكون مختلفاً كثيراً عن كوننا، وبعضها الآخر ربما يُشابهه. قد يكون بعضها بارداً ولا حياة فيه، وكل ما فيه فضاءٌ فارغ، في حين قد يحتوي بعضها الآخر على بشر بثلاثة رؤوس؛ إنه شيء محير جداً وجميل.
طوّر علماء الكون فكرة الكون المتعدد لأسبابٍ نظرية جيدة. وقد لا تكون نظرية الكون المتعدد صادمة إلى الدرجة التي تبدو عليها للوهلة الأولى، فمثل الكثير من الأفكار السابقة، إنها وببساطة تُحركنا كبشر مع تجاربنا بعيداً عن فكرة كوننا مركز العالم.
يقول كار: "بالنسبة لي، يبدو من الغرور افتراض أنّ الجزء الصغير المرئي هو كل شيء موجود. في الحقيقة، ذلك خاطئ دون أدنى شك. لا يُمكن أن يكون ما نرصده كامل الكون، ولن ينكر أي شخص ذلك. السؤال هو: إلى مدى يتوسع الكون، وفيما إذا كان هناك الكثير من الأكوان الأخرى المنفصلة".
تكمن المشكلة في تعريف تلك الأكوان، إذ أنّه من المستحيل أن تكون متاحةً بالنسبة لنا. إذا ما كان هناك أمل بزيارة إحداها يوماً ما، حينها لن تكون أكواناً أخرى، وإنما مجرد أجزاء بعيدة من كوننا.
يقول كار: "السؤال هو فيما إذا كان التخمين حول هذا الشيء أمر علمي". ويتابع قائلاً: "يعود ذلك الأمر إلى إمكانية وجود أية أدلة رصدية عليها. لا يُمكنك رؤية الأكوان الأخرى مباشرة -وفقاً للتعريف- لكنّ ذلك لا يعني بحالٍ من الأحوال عدم إمكانية وجود أدلة غير مباشرة عليها".
بالنسبة لنظرية الكون المتعدد، هناك بعض الأمل في الحصول على دليلٍ غير مباشر على وجودها. وينتج ذلك جزئياً عن ظاهرة نعرفها بالتدفق المظلم (dark flows).
يقول كار: "الفكرة هي أنه هناك منطقة كبير في الكون الرصدي تمتلك حركة غريبة. ووفقاً لبعض الراصدين، تُولد هذه الحركة جرّاء وجود كمية كبيرة من المادة وراء أفقنا -المُعطى بالمسافة التي يستطيع الضوء قطعها منذ الانفجار العظيم (Big Bang)".
لذلك، قد يُوجد كونٌ ما خارج أفقنا، ويُضيف كار: "لكنّ الأدلة جدلية، ولا يقبل الجميع هذا التفسير". ربما يوجد مكانٌ آخر يحمل أدلة على الكون المتعدد، وهذا الشيء هو إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB) -الإشعاع الذي تركه وراؤه الانفجار العظيم، والذي نستطيع قياسه بدقة كبيرة جداً.
تكمن الفكرة في أن بعض الفقاعات الأخرى الموجودة داخل الكون المتعدد قد تصادمت مع فقاعتنا، وترك ذلك التصادم بصماته في الـ CMB. يقول كار: "حتى الآن، لا نمتلك أي دليل محدد على ذلك، لكنّ أشخاصاً أجروا عمليات محاكاة لنماذج الكون المتعدد، ومن الواضح من حيث المبدأ أنه يُمكنك إيجاد أدلة".
مع احتمالية الحصول على دليل غير مباشر في المستقبل، لا يتوجب علينا استبعاد الكون المتعدد واعتباره تخميناً، خصوصاً إذا ما عرفنا أن هذه الفكرة تتمتع بالعديد من المميزات الجذابة نظرياً.
إنها جذابة إلى درجة اقتراح البعض أنها قد تُغير من معايير العلم حتى نستوعبها. ويقول كار: "السؤال الرئيسي هو: ما مقدار أهمية وجوهرية القابلية للاختبار؟"، ويُضيف: "وجهة نظري هي أن تلك القابلية أمر جوهري، ويجب أن تكون قادراً على اختبار نظرية ما لتجعلها علماً".
يدافع كار عن تصنيف أفكار مثل الكون المتعدد في فهرسٍ خاص دعاه علم الكون الماورائي (meta-cosmology)، أي كل ما هو موجود خارج حدود العلم، لكنه ليس بواقعٍ عند النهاية البعيدة من الخيال.
ويعلق كار: "إنها حالة وسطية، حالة بين الجنة والنار، هي الحالة الموجودة قبل أن تقرر فيما إذا كان شيء ما علماً صحيحاً أم لا".
بالنظر إلى افتقادنا إلى الأدلة، فإن السهولة التي يرتبط بها الفيزيائيون بفكرة الكون المتعدد قد تكون مفاجئة. لكن العلم لن يتطور كما يفعل الآن لو أن الناس لم يتجرؤوا على الوقوف عند حافة المعرفة المقبولة.
لكن هناك أفكار أخرى لا يتجرأ معظم الفيزيائيون على الاقتراب منها؛ وأحد تلك الأفكار هو السؤال عن الوعي وعلاقته بالواقع الذي نشاهده. يقول كار: "شخصياً، أعتقد أنه من الممكن أن يكون الوعي أمراً جوهرياً عوضاً عن كونه ميزة عرضية للكون".
ويتابع: "تقع مسألة الوعي حتمياً في إطار علم الكون الماورائي، ومن المرجح أن تبقى هناك لفترة طويلة من الزمن". لكنّ الناس مخلوقات وُجدت لتُحرز نجاحات مؤقتة جداً.
تحدثنا إلى كار في مؤتمر جمع علماء الكون والفلاسفة لمواجهة بعض المسائل المعقدة في علم الكون. وأخبرنا حينها: "بشكلٍ من الأشكال، ذلك الحوار الذي جمع علماء الكون والفلاسفة هو الذي أدى إلى ظهور هذا الموضوع المهيب".